ربما يحيا بقلم:هاله الزقم
تاريخ النشر : 2020-02-11
أفاقني بعنفٍ من غفوةٍ أو ربما من سلسلة غفوات- لا أعرف متى ولا أين بدأت- ضجيجُ أصوات كثيرة متداخلة، فتحت عيني بصعوبة أحاول تلمس مصدر الصوت، فوجئت بعدد هائل من الأشخاص الغير متجانسين شكلاً و عمراً و صوتاً يتزاحمون و يتدافعون نحوي، يشيرون إليّ بأصابعهم و يصرخون صراخاً هستيرياً، تقاذفت إلى سمعي في حالة نصف الوعي التي كنت عليها بعضاً من كلماتهم الرنانة المصوّبة نحوي:
- دى لا يمكن تكون م البشر…
- لازم تكون عِبرة لأمثالها…
اتسعت حدقتا عينى، همست لنفسى: "من هؤلاء الأشخاص؟ وعن أى شيء يتحدثون؟ و من يكون عبرة لمن؟!
حاولت أن أنهض من على الكرسي بعد أن تبينت أني مستيقظةً لا نائمةً، فإذا بشخص ضخمٍ يضع يده على كتفي يدفعني لأسفل كلما حاولت النهوض، جابت عيناي المثقلة أرجاء المكان ببطء، قاعة كبيرة مكتظة بالصارخين، منضدة ضخمة في الصدارة تعلو قليلاً عن مستوى القاعة، يجلس خلفها ثلاثة أشخاصٍ متشحون بالسواد يكسو وجوههم جمود و وجوم، تتشابه ملامحهم إلي حدٍ كبير، و كأنهم شخص واحد تم استنساخه بأيادي العلم الحديث الخبيثة!
أمسكت رأسي، أميلها بوهنٍ يميناً و يساراً، أحاول أن أستجمع ذرات وعيي المتناثرة في كل مكان و أعيد ترتيبها عليّ أفهم شيئاً، أغضمت عينى و وضعت يداي على أذني في محاولة للانفصال عن تشويش القاعة على الذاكرة الضائعة.

كان يوم الثلاثاء... يومٌ من أيام الشتاء الكئيبة، حجبت نورَشمسه سحبٌ كثيفة سوداء.
حضر إلى المنزل بعد منتصف الليل، كان سكراناً كعادته، و لكن ما لم يكن معتاداً أن يصطحب أصدقاءه السكارى معه إلى المنزل، كيف بلغت به الوقاحة هذا الحد؟! دخلتُ إلى غرفتي و أغلقت علىّ الباب، فقد كنت أعلم أن المناقشة لن تجدي معه و هو فى هذه الحالة.
بعد قليلٍ تعالت أصواتهم، ضحك و صراخ و هياج و رقص، حالة من الهستيريا انتباتهم جميعاً، يبدو أنه لم يكن الخمر منفرداً الذى ذهب بعقولهم، لابد و أنه كان متحالفاً مع جرعات عالية من المخدرات على تغييبها!

توجستُ خيفة من اللحظات القادمة، و ما هى إلا ثوانٍ و قد صدق حدسي، سمعت طرقاً شديداً على باب الغرفة، صرختُ فزعةً:
- مين؟
- افتحي...أنا عايز فلوس.
- انت ما خلِّتش حيلتي حاجة يا يوسف.
- افتحي أحسنلك، أنا مديون لصحابي و مش حيسيبوني غير لما ياخدوا فلوسهم.
- الله يكرمك كفاية فضايح و خدهم و امشي.

لحظات من الصمت الثقيل، سمعتُ بعدها ضجة شديدة بالخارج أخذت تقترب رويداً رويداً من الباب، و فجأة بدأ الباب يتزلزل مع صياح الجموع المندفعة خلفه، و ما لبث أن انهار تحت وقع أجسادهم الضخمة المترنحة.
- إيه يا حاجّة مش ناوية تجيبى فلوس ولّا إيه؟
صاح أحد أصدقاء ابنى بتهكم.
انزويت في ركن من الغرفة ولم أجب...
تفحصني صديق آخر بنظرة ذات مغزى قائلاً:
- بس تعرف يا يوسف باشا أمك لسه مُزَّة!
ضحك يوسف بهستيريا:
- آه… كل الناس بيقولوا عليها كده، ههههه أنا أمي مُزَّة
برقت عينا صديق ثالث ببريق شيطاني و دار حول نفسه عدة دورات ثم صاح مبتهجاً:
- خلاص لقيتها... بلاش الفلوس، و تسيب لِنا المُزَّة.
جاء صوت يوسف من عالم بعيد:
- مزة إيييييه؟
تحلق السكارى حولى مهللين:
- دى… دى… المُزّة دى
ردد يوسف دون وعى: " دى... دى...المزة دى"

صرختُ… قاومتُ… ناديتُ على يوسف مراتٍ و مراتٍ، و لم يصل إلىّ سوى صوته المعربد"دى… دى… المزة دى"
خفتَ صوتي تدريجياً، ثم اختفى إلى غير رجعة...

أفقتُ على دق مطرقة ٍشديد من أحد الأشخاص ذوي السواد على المنضدة، أعقبها بصياح بصوت حازمٍ ملتفتاً إلىّ" أكرر... ما قولك فيما هو منسوب إليك؟"

نظرت إليه طويلاً محاولةً النطق و الاستفسار عما يقول و لكن دون جدوى، و ما لبث أن غاب وجهه مرة أخرى في غيمات متلاحقة من الضباب.

لم أعد أسمع شيئاً لا أصواتهم و لا صوت ابنى…

شقوا ملابسي، كشفوا عوراتي، نهشوا جسدي بنهمٍ واحداً تلو الآخر، دنسوا كل بقعة من جسدي، و لم يكتفوا و لم يرتووا!

تسللوا إلى روحي، اجتثوها بعنف، ألقوها بعيداً، كلما حاولتْ أن تتشبث بى ركلوها بأقدامهم، و أخيراً هداهم تفكيرهم إلى إلقائها في جُبّ عميق، و نبه أحدهم ساخراً"ما تنسوش تقفلوا الجُب لحسن يلاقيها حد من السيَّارة"، قهقهوا طويلاً... ولم يكتفوا ولم يرتووا!

شقوا قلبي، أفرغوا خزانة ذكرياته، استلوا سكاكينهم الصدئة و ذبحوا الذكرى تلو الأخرى أمام عيني... هذى احتوائي لخلاياه الوليدة و حديث نبضات قلوبنا ذو الشفرة السرية، هذى فرحة النظرة الأولى التي لا تعرف الارتواء, هذى لهف الكلمة الأولى و تقبيل حروفها حرفاً حرفاً، هذى قفزة الخطوة الأولى و نشوة نجاحها، هذى تشابك كفوفنا و وحدة اتجاهاتنا، هذى أحلام مستقبله المشرق المرسومة بعناية و دقة لا تقبل العشوائية و الخطأ، ذكرياتى تصرخ ...تئن...تنزف ببطء حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة وعيناى زائغة تتساءل:
- أين الخطأ؟! أين الخطأ؟!

و يبدوا أنهم هذه المرة قد ارتووا، أو ربما سئموا، فقاموا عنى و تركونى جثة على الأرض، و انصرفوا...
ظللت استرجع مشهد اقتلاع الروح الوحشى مرات و مرات، و مشاهد الذبح غير الشرعى لكل ذكرى مشهداً مشهداً، أتأمل و أجاهد كى أتألم و تبوء كل محاولاتى بالفشل!

لم أدرِ كم مر علىّ من الوقت على هذا الحال، و عندما بدأت أتحرك بكينونتي الجديدة كجثة حديثة الموت بلا قلب و لا روح، كان هناك جزءٌ من عقلى حياً يريد أن يتأكد من شيء قبل أن يفارق الحياة إلى الأبد، ظل يدفعني و يدفعني، حتى اقتربت من ابني، أمسكت بكتفيه، رفعته قليلاً من على الأريكة، ثبّتُ رأسَه أمامى، فتحتُ بصعوبة عينيه الدامية، نظرت إليها طويلاً، ازاد شكى يقيناً، ذهبت إلى المطبخ و عدت سريعاً، حددت المكان بدقه، غرست السكين و بدأت عملى…

و مرة أخرى أفقت على صياح الأصوات المختلطة في القاعة الكئيبة:
- إعدموها…دى لا يمكن تكون أم
- ازاى تقتل ابنها بالوحشية دى؟

ابتسمتُ و همستُ لنفسي"يا لهم من أغبياء! أقتل من أيها المتخلفون؟! لقد قمت فقط باستخراج قلبه المستعار الذى قام أحدهم في خلسةٍ منّى باستبداله، نجحتُ في استئصاله بعد معاناة، ألقيته بعيداً، كانت الخطوة التالية أن أبحث عن قلبه الأصلى و أعيدَه إلى مكانه، و لكنكم لم تمهلونى، أخرجونى الآن و أنا على ثقة أننى سأجده في ركن من أركان البيت، هو دائماً يفقد أشياءه الخاصة و أنا أنجح دائماً في العثور عليها، سأعيده إليه و أذهب إلى قبري فوراً، أنسيتم أني جثة فقدت الحياة منذ أيام؟!"

دق القاضي لآخر مرة معلناً "حكمت المحكمة…"

هلل الحضور تباعاً "يحيا العدل…يحيا العدل..."

تطلعتُ إلى سماء القاعة بعينين دامعتين متضرعتين راجيةً الحَكَمَ العدل:
- ربما... يحيا...

هاله الزقم