كتاب " الحوار الغائب " - 3 - : الإله الواحد بقلم: عبد الغني العمري الحسني
تاريخ النشر : 2020-02-10
كتاب " الحوار الغائب "  - 3 - : الإله الواحد بقلم: عبد الغني العمري الحسني


الإله الواحد

إن اختلاف أسماء الإله بين اليهود والنصارى والمسلمين، هو من أصعب العقبات الحائلة دون التقارب فيما بينهم؛ خصوصا من قِبل اليهود الذين يتوهم بعضهم أن الاسم "الله" هو اسم لإله وثني كان العرب يعرفونه قبل الإسلام. وهذا نشأ لديهم من تحذير التوراة لهم من عبادة آلهة الوثنيين من الأمميين (الأغيار). وأما الإله فكان يُعرف لديهم باسم "إِلوهيم" والذي هو اسم مرتبة الألوهية: "في الْبَدْءِ خَلَقَ إِلوهيم السَّماواتِ وَالْأَرْضَ"[1]؛ و"يَهْوَهْ" وهو اسم الربوبية. ونجد الاسمين معا في مثل القول المنسوب إلى داود عليه السلام: "حَتَّى تَعْلَمَ كُلُّ الْأَرْضِ أَنَّهُ يوجَدُ إِلَهٌ «إِلوهيم» لِإِسْرائيلَ، وَتَعْلَمُ هَذِهِ الْجَماعَةُ كُلُّها أَنَّهُ لَيْسَ بِسَيْفٍ وَلا بِرُمْحٍ يُخَلِّصُ الرَّبُّ «يَهْوَهْ»؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ لِلرَّبِّ وَهُوَ يَدْفَعُهُمْ لِيَدِنا."[2]؛ وأما الاسم "أدوناي"، فمعناه السيد، وهو المقابل لاسم "الملِك" في القرآن؛ وجاء في مواضع مثل: "قُلْتُ للرَّبِّ يَهْوَهْ أَنْتَ سَيِّدي أَدُونايْ."[3]. وإلوهيم ويهوه وأدوناي هي أسماء الذات، التي يُعبّر عنها أهل الكتاب بالأسماء الشخصية (يقصدون معنى العلمية). وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الأسماء بألفاظها، لم تكن معروفة لإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام. وقد جاء في التوراة: "وَأَنَا ظَهَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِأَنِّي الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ."[4]؛ وسنعود إلى سبب ذلك في فصول قادمة إن شاء الله. وتأتي بعد أسماء الذات، أسماء الصفات، التي منها: "إيل إيليون" بمعنى العليّ، و"إيل شداي" بمعنى القدير (على اختلافٍ وتداخل في المعاني بين مختلف المفسرين). وأما أسماء الأفعال فتُستنبط معانيها من كل فعل لله كالخلق والتكوين والقول والنُّصرة وغير ذلك؛ سواء وردت بصيغة الاسم كالخالق والمحيي أم لم ترد. ومن الأسماء القديمة (الكنعانية) التي وردت في التوراة أيضا بمعنى الألوهية "إل"؛ وهو مضمَّن في الأسماء المركبة التي للملائكة وللأنبياء كميكائيل وإسرائيل، كما لا يخفى.

وأما العهد الجديد، فبالرغم من أنه مثبِت لكل ما ورد في العهد القديم من عقائد (وتشريعات)، ومن ذلك الأسماء التي تَسمّى الله بها، فإنه يتمحور حول الاسم الرب مجردا من الإضافات كما هو الشأن في القرآن، ليدلّ لدى النصارى على عيسى (يسوع) في الغالب. وعلى هذا، فإن سائر الأسماء الأخرى الواردة في التوراة، ستصبح في نظرهم أسماء لعيسى. وهذه المسألة من أشد ما يقع فيه الاختلاف بين اليهود والنصارى في الأصل، والمسلمون أقرب في ظاهر أمرهم إلى الإطلاقات التوراتية، منهم إلى الإنجيلية؛ لكون علماء الدين لديهم، غلّبوا الجانب الفقهي التشريعي (القانوني) ومنطقه، على ما يعطيه التجلّي. وبسبب هذا الاشتراك في التنظير العقلي للعقائد، صرح أحد كبار فقهاء العصر (يوسف القرضاوي)[5] بأن اليهود أقرب إلى المسلمين من النصارى؛ وجعل السبب توحيد اليهود وإشراك النصارى (القول بالتثليث)؛ مع أن الله يقول في القرآن: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82، 83]. وسبب العداوة الجهل بالاشتراك، كما أن سبب المودة العلم به؛ والمعنى واضح من الآيتين، ولا يحتاج كثير تفصيل. ولكن فقهاء المسلمين لما جهلوا منطق التجلّي الذي هو الأصل في معرفة الأسماء والصفات، فإنهم صاروا أقرب إلى اليهود وأبعد من النصارى؛ ولو بالنظر إلى المنهجية وحدها. وهذا أمر، لم نر من المسلمين إلى الآن من خاض فيه وبيّن تفاصيله. ولقرب النصارى من المسلمين في المعارف الإلهية، سبب أشد اعتبارا لدى العقول الفاحصة، وهو التجاور الزماني، بما أنه ليس بين الشريعة العيسوية والمحمدية فاصل؛ في حين أنه بين اليهودية والإسلام فاصل. وسنعود إلى آثار ترتيب الشرائع في الزمان على العقائد فيما بعد إن شاء الله. ولقد أوردنا هذه المسألة بعينها هنا، لندل على أن المسلمين قد انحرفوا في كثير من عقائدهم عما جاء به القرآن صريحا، بعدما أصابهم داء الأمم.

وعلى عكس ما يتوهم اليهود والمسلمون، من كون النصارى أبعد عن الحق في مجال العقيدة، فإنهم قد انطلقوا -على الأقل- مما أصله حق، وإن جهل متأخروهم إثبات ذلك والدلالة عليه بالمنطق العقلي. ونعني من هذا، أن الكتاب المنزل من عند الله (أي كتاب) كان وصفا في حقيقته للتجلّي الإلهي في مظهريْه: الأكبر، وهو العالم (الكون)؛ والأصغر، وهو الإنسان. ونسخة الإنسان الكامل في الزمان، ليست إلا صورة من أُنزل عليه الكتاب؛ وليس الكتاب نفسه، إلا وصفا للشخص الموحى إليه. وعلى هذا، فإن التوراة المشخَّصة هي موسى، والتوراة والإنجيل المشخّصيْن، هما عيسى؛ كما أن القرآن (الجامع) هو محمد صلى الله عليه وعليهما وعلى آلِهم وسلم. وإن كان أحد فطن إلى هذا المعنى بأكثر مما فطن إليه غيرهم، فهم النصارى؛ على ما يكتنف ذلك لديهم من غموض إلى الآن. ولعلنا نعود إلى هذه المسألة بتفصيل أكبر في فصل قادم إن شاء الله كما وعدنا؛ ولنعد إلى ما كنا بصدده من ذكرٍ للأسماء.

وأول ما ينبغي أن يُعلم في هذا المضمار، هو أن الأسماء أُطلقت بإذن الله على ألسنة الأنبياء عليهم السلام، للدلالة على معان قائمة بالذات. ونعني أن الأنبياء كانوا عندما يشهدون التجلي، يُطلقون عليه اسما يستدلون به عليه. فكان هذا أول ظهور ألفاظ الأسماء الإلهية مع كون معانيها قديمة. وهذا الذي نذكره هنا، هو سبب ظهور الأسماء الإلهية بلغة نبيّ الزمان: فمن آدم إلى نوح، مرورا بإدريس عليهم السلام، كانت اللغة سريانية (لغة الأرواح لا السريانية المتأخرة)؛ وهود وصالح كانت لغتهما عربية؛ وأما إبراهيم ولوط، فلغتهما قبل عبور الفرات، كانت السريانية، وبعد العبور صارت العبرانية. وأما إسماعيل، فلغته عربية. وأما إسحاق ويعقوب، فالسريانية والعبرانية؛ وأما يوسف، فالعبرانية والقبطية. وأما شعيب، فاللغة العربية. وأما أيوب، فالعبرانية؛ وأما يونس، فالسريانية؛ وداود، اللغة الآرامية والعبرانية؛ وسليمان، الآرامية والعبرانية؛ وهارون، العبرانية والقبطية؛ وموسى، العبرانية والقبطية؛ ويوشع بن نون، العبرانية والقبطية؛ وأما زكريا، فالآرامية والعبرانية؛ ويحيى، الآرامية والعبرانية؛ وعيسى، الآرامية والعبرانية؛ ومحمد، العربية؛ عليهم الصلاة والسلام أجمعين. وبالتالي فإن الأسماء الإلهية ستكون في زمن هؤلاء الأنبياء من كونهم مشرعين، باللغات التي يتكلمونها. ومن خصائص اللغة السريانية في أصلها أن تكون الأسماء على هيئة حروف مستقلة؛ فإن وقع التركيب في الحروف، فإنه يقع التركيب في المعنى كما هو معروف. وأما اللغات المتأخرة عنها، فالأسماء فيها كلمات متعددة الأحرف، تدل بها على معنى التجلي. وبما أن الذات لا زائد عليها من جهة الوجود، فإن الأسماء تكون في حقيقتها نِسبا عدمية، تشير إلى الذات مع المعنى القائم بها (المعنى الذاتي) من غير تكثّر إلا في العقل. وكل الأسماء التي وردت في التوراة والإنجيل، هي أسماء معنوية صيغت في معظمها بالآرامية أو العبرانية أو القبطية؛ إما لتدل على الصفات الإلهية الكمالية (يسميها بعض كبار علمائنا أسماء ذاتية)، أو لتدل على الصفات الإلهية التي لها تعلق بالخلق، أو لتدل على أفعال الله التي منها الخلق أنفسهم. وليس من الأسماء اسم بمعنى العلَمية (التشخُّص) كلها إلا الاسم "الله" وحده. وهو اسم اختُصّ بذكره القرآن، للمعنى الذي سنبيّنه فيما بعد إن شاء الله.

ومُسمى الأسماء كلها، مما ورد في العهدين القديم والجديد، وما ورد في القرآن، وما استأثر الله بعلمه دون سائر عباده (وهي الأسماء المكنونة)، هو الذات في مرتبة تعيّنها الأول، الذي سميناه في الفصل السابق "إنسانا" و"حقيقة محمدية" وغير ذلك؛ لا الذات مطلقا، كما قد يُتوهّم. وذلك لأن الذات المطلقة لا اسم لها يتعلّق بها في المراتب الحقّية العليا. ونخص المراتب الحقّية العليا دون الدنيا، لأن الدنيا يتعيّن فيها الحق لنفسه، فينطلق على ذلك التعيّن الحقّي اسم "الأحدية" أو اسم "الهوية" الذي هو من ورائها. وأما المراتب الحقّية التي لا تعيّن فيها للحق ولو لنفسه، فلا ينطلق عليها اسم ولا يتعلّق بها علم؛ بما في ذلك العلم الإلهي القديم.

فإن عرفنا ما سبق، فسيبقى أن نعرف أن الأسماء الذاتية (الكمالية) المعروفة قبل القرآن، كانت تدل غالبا على مرتبة الألوهية لا على الذات مطلقا. وأما أسماء الصفات والأفعال، فدلالتها اللغوية أوضح من أن نتوسع في الكلام عنها بالتفصيل. واسم المرتبة "إلوهيم" أو "الله" بأحد معنييْه إنما أُعلن عنه، ليكون مسمى الأسماء الأخرى كلّها. وهذا يعني أننا عندما نتكلم عن القدير، فإننا نعني الله القدير؛ لأن القدرة لا تقوم بنفسها. والله هنا الاسم الجامع الدال على المرتبة، لا الذات؛ وإن كان معنى الذاتية لا ينفكُّ عنه أصلا. ولكن إصرارنا على تعلّق الأسماء بالاسم، هو للوصول إلى معنى التوحيد الذي جاءت به الشرائع من عند الله. وقد أوضح القرآن هذا المعنى جليّا في قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. أي، إن الأسماء الإلهية كلها تعود إلى الاسم الله (الجامع) لتكون له كالوجوه المتعددة؛ وتعود من بعده إلى الاسم الرحمن، من كونه خليفة عنه. ولقد ذكرنا في الفصل السابق أن المدعو من قِبل العباد هو الألوهية لا الذات. وهذا يعني أن الاسم الله (إلوهيم) هو مسمّى الأسماء كلها المعلومة لدى جميع العباد من جميع الملل؛ حتى الملل الوثنية والأديان الوضعية. ولن نستفيض الآن في بيان ذلك، حتى لا نخرج عن سياق الفصل؛ فنقول: ولما كان مسمّى الأسماء واحدا لا يتعدد، وجب على المتشرّعين من السابقين ومن اللاحقين، أن يجمعوا التوجه منهم إلى وجهة واحدة هي "الله". فمن يذكر القدير، عليه أن يعلم أنه الله؛ ومن يذكر الحكيم، فعليه أن يعلم أنه الله أيضا لا غيره. وجمع المعاني المتفرقة والمختلفة، والتي قد تكون متضادة أحيانا كالمحيي مع المميت، هو ما يُسمّى التوحيد. وكل من بقي من الناس ينسب المعاني إلى مسمّيات متعددة في ذهنه، فإنه يبقى مشركا، وإن كان من أهل التوحيد في الظاهر. ولسنا نعني هنا اليهود وحدهم أو النصارى وحدهم، ولكن نُلحق بهم أهل التوحيد العام من المسلمين. وأما التلفيقات الفكرية التي يلجأ إليها هؤلاء وأولئك، من أجل صياغة عقائدهم على مر العصور، فإنها لا تدل إلا على قصور أهلها لدى من آتاه الله العلم. وآخر هؤلاء الموحدين بحسب الزعم، هم المتسلفة من المسلمين، الذين لا يختلفون كثيرا من حيث المرتبة الإدراكية عن اليهود. وأما النصارى على صعوبة مُدخلهم وتناقض تعابيرهم، فإنهم أقرب إلى التوحيد من الفريقين. ولسنا نتكلم هنا عن التوحيد بالمعنى الشرعي، وإنما نتكلم عن التوحيد في الحقائق، والذي لا يُغني علمه عن اتباع الشريعة المعتبرة عند الله. ونعني مرة أخرى، أن مآل الناس في الآخرة لا يتوقف على معرفتهم بالدرجة الأولى، وإنما يتوقف على اتباع الشريعة الحق؛ إلاّ أن يجمع العبد بين الحُسنييْن، كما هو شأن ورثة النبوة منّا.

ولقد ارتأينا أن نُسبق الكلام عن معنى التوحيد، حتى يعلم أهل الكتاب الفرق بين ما ينبغي أن يكونوا عليه، وما هم عليه العباد من جميع الملل الأخرى. ونعني من هذا، أنه ما من عابد في الدنيا للإله الحق، أو لمخلوق من المخلوقات، إلا وهو عابد لله؛ لا يخالف العبادة الشرعية، إلا من حيث كونه لا يعلم المتوّجَّه إليه النهائي، والذي هو الله. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى (من باب الإشارة): {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]؛ أي، إلى الله يكون منتهى عبادة كل عابد، ومنتهى قول كل قائل. والفرق بين المهتدي والضال في هذه الحال، هو أن الأول يعلم قبلته من جهة الأسماء، والثاني لا يعلم إلا وجها من وجوهها. وذلك لأن كل عابد لا بد أن يكون متوجّها إلى اسم إلهي ما، وإن سماه باسم مختلف عما وردت به الكتب كـ"براهما" أو "شيفا" لدى الهنادكة، وكـ"أثينا" أو "أبولو" لدى اليونان. ومن هنا يَبين معنى الشرك الذي نهى الله عنه، والذي ليس هو إلا القول بتعدد المسمّى عند إدراك تعدد الأسماء؛ ويَبين معنى التوحيد، والذي هو إرجاع كل المعاني الاسمية إلى مسمى واحد.

ورغم أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمسلمين، قد دُلّوا على التوحيد وأدركوا معنى عمومه؛ إلا أنهم في المعاملات، قد لا يخلون من شرك. ويظهر هذا جليّا لدى اليهود وعوام المسلمين خصوصا، عندما يتصرفون وكأن الإله إلههم وحدهم من دون الناس. فـ"إلوهيم" هو لبني إسرائيل من دون الأمميين (الأميين)، و"الله" هو للمسلمين خصوصا (يفهمون خطأ هذا من لعن الله لبني إسرائيل)؛ وهذا من أكبر الجهل الذي يتصف به هؤلاء. ولو أنهم عند اعتقادهم ذلك، سألوا أنفسهم: عندما يكون "إلوهيم" إلهنا وحدنا، فمن يكون إله الآخرين؟ وعندما يكون "الله" لنا وحدنا، فمن هو إله اليهود والنصارى؟... فإنهم عند هذا، سيعلمون شركهم بالدليل والبرهان؛ ما دام لا بد من إله يُدبر أمور المخالفين وينصرهم على غيرهم أحيانا هم أيضا!... فأما من بقي من أهل الكتاب على هذا الشرك، بعد الذي بيّنّاه، فلا كلام لنا معه؛ لأنه لا يُعتبر من المـُخاطَبين في عرف العقلاء؛ وأما من تفطن وعاد إلى التوحيد الذي دللناه عليه، فإنه سيعلم أن الاختلاف واقع في الأسماء لا في المسمى، ولا في معنى الألوهية.

وأما النصارى الذين استثنيناهم في كلامنا آنفا، فلأنهم أقرب إلى التوحيد من جهة الأقوال، بردهم كل شيء إلى "الرب"، وإن كانوا يُشبهون الآخرين في حصر الألوهية في مظهر عيسى عليه السلام. ونعني من هذا أنهم لم يُفرّقوا بين معنى الألوهية العام ومعنى مظهرها الخاص في الزمان. وقولنا في الزمان، يعني أن مظهر الألوهية لا بد أن يكون واحدا في الزمان؛ ويعني أيضا أن المظاهر متعددة بتعدد الأزمان؛ والتعدد في المظاهر مخالف لوحدة الظاهر من جهة العقل، إلا أن يكون العبد من العلماء بالله، الذين يفرقون عند شهودهم بين المظهر والظاهر. وهذا من أعوص الأمور على أصحاب العقائد العقلية، ومنهم النصارى على التخصيص. فعلى قربهم من التوحيد كما سبق أن ذكرنا، هم أبعد الناس عن تعقّل عقائدهم، وأدخلهم في التلفيق من أجل الحفاظ عليها؛ بخلاف اليهود ومتكلمي المسلمين الذين صيّروا العقائد أيديولوجيات دينية متوارثة، يتوهمون مع عقلانيتها المصطنعة أنهم على الحق المبين؛ وهم في الحقيقة قد ضيّعوا جوهر الدين المبني على الشهود العيني لا على الكلام العقلي.

ولو أن أهل الكتاب بمللهم الثلاث اليوم، يعودون إلى معنى التوحيد، بغض النظر عن الاسم المجمَع عليه، لوضعوا بذلك الأرضية التي يُمكن أن ينطلق منها كل حوار معتبر بينهم، في مستقبل أيامهم. ولن يبلغوا هذا، إلا إن هم تواضعوا وأقرّوا لأبناء جنسهم من البشر، بالنسبة إلى الإله الواحد كما هم ينتسبون. ولسنا نعني هنا مرة أخرى، النسبة الشرعيّة التي يعتبرها الله يوم القيامة عند الفصل بين عباده؛ وإنما نعني نسبة الإيجاد والتدبير اللذين لم ينقطعا عن أحد منذ أن صار مذكورا في المخلوقين. ولا فرق في هذا المستوى بين مهتد وضال، أو بين عالم وجاهل، أو بين موحد ومشرك... وإنّ من سيرتفع إلى هذا المستوى من التواضع، لا بد أن تتسع نظرته حتما إلى دينه نفسه، وسيعلم منه عندئذ ما لم يكن يعلم. وأيهما أفضل: أن نزداد علما بالحق وبالحقيقة، أم أن نبقى سجناء الأقفاص الاصطناعية المضرة بمسجونيها قبل غيرهم من المخالفين؟!...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] . تكوين: 1:1.
[2] . صموئيل 1: 46-47.
[3] . مزمور 2:16.
[4] . الخروج 6: 3.
[5] . التصريح كان على قناة "الجزيرة مباشر مصر، وهو موجود على اليوتيوب 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ