لماذا صدر وعد بلفور؟ بقلم:المحامي علي المسلوخي
تاريخ النشر : 2020-02-05
لماذا صدر وعد بلفور؟ بقلم:المحامي علي المسلوخي


لماذا صدر وعد بلفور .... بقلم المحامي وخبير القانون الدولي علي المسلوخي

ليس هناك مجال لسرد تطور المباحثات الانجلو –صهيونية التي اسفرت في النهاية عن اصدار الوعد ، ولكن الاهتمام موجه في الأصل إلى بيان الدوافع الرئيسية التي حدت بانجلترا الى اصدار هذا الوعد ، والحقيقة أن الاتفاقات زمن الحرب العالمية الأولى كانت تتغير بسرعة ، والتعديلات كانت ترافق كل حدث حربي ، والوعود لم تكن سوى حركات في اللعبة الدبلوماسية . فكل دولة من الدول الاستعمارية كانت منهكة بمناورات معقدة من وراء ظهر الدولة الأخرى ، في محاولة لضمان مصالحه السياسية والاقتصادية ، ووسط هذه المؤامرات والمفاوضات اعلنت بريطانيا تأييدها للصهيونية ، وتحول الحلم الصهيوني الى حقيقة .

وأشار كريستوفر سايكس الى انه لا أحد يعرف لماذا صدر وعد بلفور ، وقد كرس ليونارد شتاين سنوات طويلة في دراسة اصول الوعد ،ولكن قارىء كتابه الطويل والممتاز لا يستطيع في النهاية أن يقدم سبباً لتفويض وزارة لويد الائتلافية الى المستر بلفور لتوجيه خطابه الى اللورد روتشلد ، وقد قدمت عدة اسباب للتفسير وهي كثيرة بشكل يجعل من العسير العثور على سبب واضح واحد .

لقد كان عام 1917 عاما حاسما بالنسبة لبريطانيا ، فإن الخسارة في الغواصات قد بلغت حداً عالياً ، وتمردات الجيش الفرنسي القت على بريطانيا مسئولية الدفاع الاولى في الميدان الغربي ، ولم تكن الولايات المتحدة الامريكية على استعداد للمشاركة في الصراع ، وكان الروس على اهبة عقد صلح منفرد مع دول المحور . وقد أكد انه بالرغم من ان القضية الصهيونية كانت تلقى معاضدة واسعة في بريطانيا وامريكا قبل نوفمبر 1917 فقد كان إعلان تصريح  بلفور أمر "اقتضته الدعاية" ويضيف التقرير ان لويد جورج شرح "الموقف الحرج الذي كان يحيق بدول الحلفاء والدول المشتركة معها في ذلك الوقت ،فمعنويات الجيش الروسي كانت قد اخذت في الانحلال ولم يكن في وسع الجيش الفرنسي ان يقوم بهجوم واسع المجال وكان الايطاليون قد فشلوا فشلاً ذريعاً في موقعة كابوريتو ، كما ان الغواصات الألمانية كانت قد اغرقت ما يبلغ ملايين الاطنان من السفن البريطانية ، ولم تكن قد وصلت الفرق الامريكية بعد الى الخنادق " ويستمر لويد جورج في الادلاء بشهادته فيقول " وفي تلك الحالة الحرجة ساد الاعتقاد بأن اكتساب عطف اليهود أو مناوأتهم قد يكون له اثره الفعال في توجيه  كفة الميزان نحو قضية الحلفاء او ضدهم . ثم ان عطف اليهود من شانه على الاخص ان يضمن معاضدة اليهود في امريكا ويجعل من الصعب على المانيا تخفيض قواتها العسكرية وتحسين وضعها الاقتصادي في الميدان الشرقي " كذلك صرح لويد جورج بنفسه في مجلس العموم البريطاني في 19 يونيه 1930 بما يلي :" كان يهمنا ان نحصل على كل تأييد مشروع يمكن الحصول عليه ، وقد خرجنا من المخابرات التي تلقيناها من كل جهة في العالم بأنه من الحيوي لنا الحصول على تأييد الطائفة اليهودية ."

يتضح  مما تقدم ان الدافع الرئيسي وراء  اصدار وعد بلفور هو المصلحة البريطانية فقط ، وقد ساعدت بعض النظريات الشخيفة حول دوافع بريطانيا في اصدار الوعد على تشويه الرؤية والتشكيك ببواعث الوعد الحقيقية . ومن هذه النظريات ان بريطانيا اصدرت الوعد اعترافا منها بخدمات حاييم وايزمان في اكتشاف الاسيتون الصناعي في ادق مراحل الحرب . وتروي الاسطورة ان لويد جورج – رئيس وزراء بريطانيا آنذاك سأل وايزمان بماذا يستطيع ان يكافئه ؟ فأجابه وايزمان :بصنع شيء لشعبي . وهذا الامر كله غاية في النفاق السياسي ،وقد رفضه تشارلزوبستر مستشار وزارة الخارجية البريطانية في فترة الحرب العالمية الاولى وسكرتير القسم العسكري من الوفد البريطاني في مؤتمر الصلح لعام 1919 كما رفضه كريستوف سايكس .

وهناك نظرية سندات قروض الحرب التي اصدرتها بريطانيا ، والواقع ان اكثر اليهود الذين اشتروا ما أصدرته بريطانيا من هذه السندات في عامي 1917 و1918 كانوا من المعارضين للسياسة التي يمثلها وعد بلفور ، وقد أكد ذلك وايزمان اثناء ادلائه بشهادته امام لجنة بيل في 25 نوفمبر 1936 في القدس ، فقال ان "اغنياء اليهود الذين يعرفون بالرأسماليين ، كانوا في ذلك الوقت (1917) باغلبيتهم الساحقة من معارضي وعد بلفور " وسأله بيل " هل كان ذلك في انجلترا" فأجاب وايزمان "نعم في انجلترا وفي امريكا"

أما مسألة استغلال النفوذ المالي والسياسي اليهودي في جر الولايات المتحدة لدخول الحرب الى جانب الحلفاء فهذا امر مبالغ فيه . لقد كان الدافع الأساسي وراء دخول الولايات المتحدة الحرب في 2 ابريل 1917 هو تأثر الاقتصاد الامريكي من حرب الغواصات الالمانية . كذلك فإن مصالح البنوك الامريكية قد تعرضت للخطر بعد اقراض بريطانيا وفرنسا مبالغ كبيرة لشراء المواد الاولية والمنتجات الغذائية المتوفرة في الولايات المتحدة . ويشكك جورج انطونيوس في العامل اليهودي كرستوفر سايكس فيقول انه "ساد اعتقاد في اواخر 1916 واوائل 1917 بأن اصدار وعد بلفور في جانب الصهيونية الصهيونية سيؤدي الى تحويل الرأي العام الامريكي الى جانب الحلفاء ، وبالتالي الى التأثير على الرأي العام اليهودي الامريكي .كان هذا الاعتقاد مهما بل اساسياً للساسة البريطانيين ، ولكن هذا الاعتقاد لم نسمع به في المراحل الاخيرة من المفاوضات ، ويبدو انه نسي " ويشير وايزمان الى ان كسب يهود امريكا ليبذلوا جهودا في اقناع الولايات المتحدة بالوقوف الى جانب الحلفاء كان عاملاً جوهرياً في اصدار الوعد .

 ويعترف لويد جورج بعوامل اخرى ادت الى اصدار الوعد ، ويؤكد مثلا ان بعض ما حفز بريطانيا الى اصدار الوعد المعلومات بأن قيادة اركان الجيش الالمانية في عام 1916 الحت على الاتراك ان يلبوا مطالب الصهيونيين بشأن فلسطين ، وان الحكومة الالمانية كانت في سبتمبر تبذل مساع جدية للسيطرة على الحركة الصهيونية ، ويستطرد فيذكر ان جمعية يهودية المانية تأسست في يناير 1918 بعد وعد بلفور وان الوزير التركي طلعت باشا – بإيعاز من الالمان – وعدها وعدا واهيا لتحقيق رغبات اليهود في فلسطين .ويؤكد كرستوفر سايكس بأن " الخوف من الصهيونية الالمانية قد اسرع في اصدار الوعد " ثم ان في توزيع الطائرات البريطانية لالآف من نسخ الوعد فوق روسيا وبولونيا والمانيا والنمسا والمجر ما يوحي بأن اصحاب الوعد اعتقدوا انهم بذلك يكسبون تأييد اليهود في روسيا ضد البلاشفة وفي دول المحور ضد حكوماتهم . ولا شك ان ضرب الثورة الروسية (اكتوبر 1917) كان من ضمن اهداف بريطانيا لإصدار الوعد . فقد حذر ادوارد هور في كتابه المطبوع في لندن اغسطس 1918 من " غزو روسي للشرق الاوسط من الشمال " ويؤكد آرنولد توبيني انه " ليس مما يثير العجب والدهشة ان يتم اعلان تصريح اللورد بلفور في نفس اللحظة التي كانت آمال الحلفاء في الاستفادة من قوة شريكتهم روسيا الحربية قد تبخرت وذهبت ادراج الرياح .

ولعل مثل هذه الاعتبارات السابقة هي التي قصدها لويد جورج حين أكد ان اسبابا دبلوماسية وعسكرية ملحت حققت اجماعا من الوزارة حول الموضوع (موضوع الوعد) وحتى المستر مونتاجو استسلم وقبل بالتصريح (تصريح بلفور) بوصفه ضرورة عسكرية . كذلك يميل هانزكوهن الى تأييد هذا المعنى فيقول ان" الوعد وليد ظروف الحرب" .

ومهما يكن من أمر ، فإن المحرك الأساسي في الموضوع كله كان مصلحة الاستعمار البريطاني لا المصلحة المؤقتة فقط ،بل بعيدة المدى .

وقد وصف أحد الضباط البريطانيين الاسلوب الدبلوماسي المراوغ الذي اتبعه حاييم وايزمن لإنتزاع وعد بلفور من الحكومة البريطانية في العام 1917 بقوله :" إن من أفضل الامثلة للدبلوماسية الناجحة هي تلك التي أوجد الدكتور وايزمن بواسطتها الوطن القومي لليهود فقد اخبرني مرة انه قام بألفي مقابلة للوصول الى تصريح بلفور ، وقد كيَف نقاشه ،بحذق لا يخطئ ،بحسب الحالة الخاصة لكل سياسي ، ففيما يتعلق بالبريطانيين والاميركيين استعمل اللغة الانجيلية ،وأيقظ فيهم صوتاً عاطفياً

عميقاً ، وتحدث لغيرهم من الأمم بلغة المصلحة على الأغلب ، فقد أخبر السيد لويد جورج ان فلسطين بلد جبلي غير بعيد الشبه عن  ويلز ، ومع اللورد بلفور استعرض الاساس الفلسفي للصهيونية ، ومع اللورد سيسيل طرحت القضية بشكل منظمة عالمية جديدة ،بينما صور للورد منلر وبشكل حيوي ،توسيع القوة الاستعمارية ، اما بالنسبة إلي ،وقد عنيت بهذه الامور كضابط صغير في الأركان العامة ، فقد جاءني من مصادر كثيرة بجمع الادلة التي يمكن الحصول عليها لأهمية الوطن القومي اليهودي لمركز الامبراطورية البريطانية الاستراتيجي ...

المحامي وخبير القانون الدولي
 علي المسلوخي