قراءة لرسوم الفنّان التونسي حُسين عُطيْ بقلم:أ.صلاح بوزيّان
تاريخ النشر : 2020-01-29
قراءة لرسوم الفنّان التونسي حُسين عُطيْ بقلم:أ.صلاح بوزيّان


رُسوم تسبحُ في أنفاس الشّرق و سيمفونية الحياة

قراءة لرسوم الفنّان التونسي حُسين عُطيْ

بقلم الأستاذ صلاح بوزيّان / تونس

فاتحة القول :

شكّلت لوحات الرّسام العُصامي حُسين عُطيّ { ابن القيروان } ضربا من ضروب التميّز المذهل في عالم الرّسم و أفانين التّشكيل اللّوني في تونس والوطن العربي ، إذ تنهضُ رسومه تأسيسًا ، على جدل عضوي متين بين ثقافة الشّرقيّ المشدود إلى مدينته وتراثه وما يحدوها من بهجة الألوان المتعدّدة وبين قدرته الفائقة على تبديل تلك الألوان ليشيّد بها رسومًا يقتنص بها لحظة من زمن المدينة والإنسان ، سواء أكانت تلك اللحظة المرسومة قد مضت وولّت ، فيحفر في الذاكرة والتّراث ويستخرجها ، ويقـدّها في لوحة فنية تبهجُ الرّوح وتوقد العقل و تُطلقُ الخيال ، أو كانتْ لحظة تجوب الزّمن الآن ، فيلاحقها و ينسُجَها بحرفية راقية و حنكة الرّسام المكابد .

يتنقّل حسين عطي بين مقهى طقطق بالقيروان و دار الثقافة و الحقول والبساتين و الأسواق و الإدارات ، و يتردّد على تونس العاصمة ، ويخترق الأزّقة و يختلط بالأحباب والأصحاب ، ويشاطر الضاحكين و يتأمّل المحزونين و الحالمين ، ويُصغي إلى المشتكين ، وهو يخزّن ما يرى ويسمعُ ، ثمّ يجعل كلّ ذلك زاده وهو يرسمُ بالزّيت، فيُجدّد ويُطوّر و يحاول التّعريف بالتّراث التونسي و سمات الإنسان التونسي و مشاغله و أحلامه و مدائنه و تفاصيل حياته و أنماط عيشه ، ويعتمد على ثقافته المتينة و الذّكاء الفنّي و الحرفيّة وقدرته الفائقة في حياكة الأطياف ومهارته في إعادة تشكيل الألوان وتوظيف الزّيت ، و التّعبير عن كلّ من حوله ، ولعلّ ذلك ما منحه جودة التّصنيف في طليعة الرّسامين التونسيين والعرب.

و الرّجل من أبرز الرّسامين التونسيين والعرب الّذين يمتلكون مهارة الرّسم الزيتي ، ونجد أثر ذلك في لوحاته المرصوصة البُنيان المتينة الأركان ، وفي مسارعته إلى المشاركة في المعارض العديد داخل تونس و في الأقطار الشقيقة والصّديقة . وإقبال المعجبين على لوحاته واقتناء العديد منها بل كلّها تِباعًا ، لوحاتٌ تحمل جامع عقبة بن نافع وزوايا الأولياء و القافلة و الأسواق و الجياد و الورد و المجالس القروية والبحر و الصحراء والمرأة و الأزقّة و الثّمار، وغيرها من الرسوم ، ولكن لم تغب جربة وآية انتشار لوحاته الفنية وإقبال النّاس على شرائها أنّنا نجدها معلّقة على جدران المؤسسات التونسية والنُزُلْ و داخل الإدارات و المقاهي الثقافية، و الوزارات والسفارات و البيوت كذلك.

وتأشيرة العبور إلى ذلك كلّه أنّ الرّجل الخلوقَ الحاذق يمتاز بتجربة فنية طويلة تُناهز النّصف قرن ، وثقافة موسوعية ، وصبر في معالجة رسومه. واقتناصه لأدقّ تفاصيل إيقاع الحياة اليومية و إيقاع المدينة العتيقة و الأزقّة و الحقول و همسات الرّجال والنسوة و الأطفال و عجائبيّة تونس ما بعد الـ2011 . و المواضيع التي تطرّق إليها في رسومه تهمّ كلّ الناس ، وتشدّ انتباههم وتلبّي رغباتهم الجمالية .

وبشيء من الفنطازيا الإبداعية يخرق حُسين عطيّ الهدوء و الرّتابة و يخترق الصّمت و الرّوتين ، و يُلفتُ نَظرَنَا إلى قدرته الفائقة على نسج الألوان و توظيف الظلال و الأضواء و أنواع الأطر الأصيلة التي يستودع فيها رسومه ، ونجد أثَرَ ذلكَ ، كلّما زُرنا معرضا من معارضه الكثيرة ، فالرّجلُ يُنهي عمله الفنّي بإطارات راقية وجميلة وفتّانة. وإصرار حسين عطيّ على إتمام قفلة عمله الإتمام الحَسن والعجيب ، يدفعُ المُشاهد المتفرّج إلى قراءة وإعادة قراءة الرّسوم مرّات ومرّات ،علّه يستنطق جمالها فاللّوحة تُخاطبُ و تتكلّمُ وهي لا تتكلّمُ وتُعبّرُ في صمتٍ ، وتسحرُ وتفتنُ وتبهجُ وتؤنس وتُمتعُ .وأن تُحقّق اللوحة الإمتاع والمؤانسة كلّما تأمّلتهَا وأمعنتَ فيها النّظرَ، فتلك غاية مُنى الرّسام حسين عًطيّ ، لأنّها بذلك لا تموت بل تتنفّس كلّما وقعت عليها عيون مفتونة متذوّقة ،عيون مسكونة بحبّ الحياة والأمل . هكذا يُطلُّ علينا الرّسام حسين عُطي في كلّ لوحة وفي كلّ معرض ، بحُسن تدبير هندسة الألوان ، وفلسفة بصرية خاصّة به ، تمنحُ لوحاته البعد العالمي. لوحات تنطلق من الخاصّ { البيئة التونسية الشرقية } إلى المشترك الإنساني، وإذا كان ذلك كذلك، فيجوز إدراج هذه اللوحات في التراث العالمي، في ضوء شمولية وإنسانية وعُمق المواضيع التي يوفّيها حقوقها ويَقدرُ عليها. إنّها رسوم جميلة حسنة تهتزّ لها الأحاسيس، و تعْـلقُ بالذّاكرة وتسري في الرّوح وتجري في الجسم ، ويرتاح لها القلب المُولع وتنشُط لها الجوارحُ . تلك هي رسوم حسين عُطي المفعمة بالعنصر الإنساني ، تُمتعُ وتٌسعدُ وتُفرح .

أعمال جمالية لا تخلو من مشقّة يتكبّدُها الرّسام، ولا يُعجزهُ ذلك، فهو يُهذّبها ويُنقّحها ويُصفّيها ويُرَوِّقُها و يُجوّدها، فتأتي اللوحات وهي لا تُخطئ ولا تُبطئُ قادمة من صميم الحياة ولها ، تتجدّدُ و تتطوّرُ و تتبدّلُ وتستيقظ مع شروق شمس كلّ يوم .

إنَّها لوحات يُضمِّنُهَا الرّسامُ العجيبَ و الغريبَ من شريف المعاني. فتكون أبلغ في إيصال المعنى ممزوجا بحركة الألوان والضّوء والظّل ، ولا يملُّ المشاهدُ اللوحة الواحدةَ لينظرَ في الأخرى. لوحات فنيّة ذات قيمة فنيّة ومرجعيّة يُــعْــتَــدّ بها ونُفاخرُ بها . وسبب ذلك كلّه أنّ الرّسام حسين عُطي يمتلك قوّة تحويلية للضّوء و اللّون وقدرة على الانفلات من التّقليد و التّكرار ، وموهبة ساحرة تتجلّى في توظيف الخيال و الواقع المعيش و الحُلم في أعماله ، فتصبح اللوحات بمثابة النّوافذ التي يرى من خلالها المشاهد نفسه و العالم الذي يجمعه بغيره ، وكأنّها رحلة فنية تخرج بالمشاهد من لحظته الرّاهنة إلى عالم أرحب وأعجب وأغرب ، وكلّما أمعن فيها النّظر اكتشف الجديد . فالرّسام يتشوّفُ إلى خلود لوحاته . وهذا أمر قد يستحيل على غيره . والّذي ذكرنا قليل من كثير إذا قرأنا مئات المقالات التي كُتبت حول تجربة الرّسام القيرواني حسين عُطي ، والحوارات الصحفية والإذاعية كذلك على امتداد عشرات السنين .

ففنّ الرّسم من منظور الرّسام التونسي حسين عُطي رسالة نبيلة تؤدّي إلى الرّقي الأخلاقي والرفعة والعزّة ، إذ بالأعمال الفنيّة يساهم الفنّان في إفشاء السّلام والمحبّة وإحياء قيم الجمال وتعزيز الرّوابط الإنسانية بين البشر، والانفتاح على الحضارات، وإحياء التّراث العربي الإسلامي و التّراث الإنساني العالمي ، وحفظ الذّاكرة الجماعية من الاهتراء و النّسيان ، وزرع التفاؤل والأمل وقيم البذل والكدّ والحريّة ، هكذا يبدو الفنّ في لوحات حسين عطي ابن القيروان ، و هو كذلك في التّصريح والتّلميح ، فنٌّ لا يُقدّرُ بمال في أيّ حال من الأحوال .