دور المثقفين في تجديد الفكر العربي بقلم:يوسف الحسن
تاريخ النشر : 2020-01-20
أبدأ بالتساؤل عما إذا كان المثقف العربى يملك سلطة فى تجديد الفكر العربى.
أقول نعم.. باعتباره منتج وعى الناس، وقادر على الإبداع، بمعنى أنه قادر على تغيير تصور الناس لواقعهم.. وتغيير المفاهيم والذهنيات فى إطار الثقافة المجتمعية، وتحرير الفكر من المعوقات التى تُقيده.
لكن.. هل المثقف فى وضع/ أو فى حالة تمكنه من أداء هذه المهمة، مهمة إعادة بناء الفكر العربى وتجديده؟ الفكر العربى بتياراته المتنوعة: قومية وإسلاموية ويسارية وليبرالية (إذا جازت هذه التسميات).
لنعترف بأن الدور الفاعل للمثقف العربى قد تراجع بفعل عوامل موضوعية وذاتية، من بينها: الضعف فى الحريات العامة ــ وفى مراكز التفكير ــ فى المجتمع الأهلى ــ طلاق بين التنمية والثقافة ــ نخبوية زائدة ــ انتماءات أيديولوجية أكثر من اللازم ــ غياب الأولويات ــ غياب المشروع الثقافى النهضوى قطريا وقوميا ــ تعثر النظم السياسية العربية انعكس على النتاج الثقافى ــ ضعف المأسسة فى حياتنا ــ تخدير الحس النقدى... إلخ.
كان من المأمول أن يكون المثقف العربى، الضمير الشقى الذى لا يرتاح للأمر الواقع، بل يسعى لتفسيره وتغييره، لكنه اليوم قلق وحائر، وغالبا فى حالة ذهول أمام التحولات المتسارعة حوله.
من منَا كمثقفين.. توقع أن «بَجَعًا سوداء» من الشباب ستخرج بقوة إلى الشوارع العربية، تحتج ضد القبح والفساد والبطالة والتنمية المعاقة والمحاصصة والطوائفية والاستباحة الخارجية للأمن القومى.
كنا نعتقد أنه جيل سطحى، استهلاكى، لا يقرأ، وأنه جيل الجينز والفيس بوك... إلخ.
لنعتذر للشباب، الذين قصرنا فى فهمهم، وإدراك همومهم وتطلعاتهم، لقد أهملنا مائة مليون شاب عربى، ثروة هائلة لو توافرت لديها السبل، لفرزنا بينهم مئات الآلاف من العلماء والمبدعين والمبرمجين، ليُدخلوا الوطن فى قلب الثورة التكنولوجية الرابعة، ليس كمستهلكين بل كمبدعين.. يحق لهذا الجيل أن يطلب من النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية الاعتذار.
***
إذا أردنا أن نعيد بناء الفكر العربى وتجديده، نحتاج أولا أن نعرف أين نقف الآن. وما الذى نسعى أن نصل إليه، فى المفاهيم والقيم والمنظومات المعرفية، وفى كيفية الاستجابة للتحديات، وتحويلها إلى فرص.
إن فى المشهد الفكرى السائد، الكثير من السلبيات والنواقص.. ومن بينها الظواهر السلبية التالية:
جمود الخطاب الثقافى والفكرى، فى مضمونه ومشاغله، فضلا عن ضعف دوره كأداة للإنتاج النظرى، وعجزه عن بلورة منظومة معرفية تتفاعل مع العصر، وتتعامل مع التحولات، وتُولد أسئلة جديدة، تتعلق بقضايا الإنسان العربى المعاصر، وعلاقته بالآخر المغاير والكون، وقضايا الديموقراطية والمشاركة والدولة الوطنية والمواطنة المتكافئة المتعاقدة، والثقافة النقدية والنهوض والتجديد الحضارى والحكم العصرى الرشيد.
وفى المشهد أيضا، تغيب ثقافة المراجعات، وثقافة التوقع والاستشراف، ولا تملك ثقافتنا الراهنة، القدرة على توقع المستقبل، وكل التحليلات التى قدمها مفكرون عرب فى العقود الأخيرة لم تستشرف الغد. كما تحضر ذهنية المنفعة الضيقة البدائية، والنمو المتزايد فى الوعى الذاتى الفئوى، والنزوع الشبق للسلطة وشهوة الحكم. حتى لو هُدمت أعمدة خيمة الوطن.
وفى المشهد الفكرى أيضا، شىء من الرخاوة أو الضبابية فى التعامل مع قيم النزاهة ومواجهة الفساد. وتداول السلطة فى مؤسسات وأطر العمل النقابى والأهلى والشعبى والثقافى، والميل الغلاب للشعارات. والخطاب الأيديولوجى المتعصب، والموقف الشخصى. بدلا من الخطاب المعرفى العلمى.
وفى المحصلة.. يمكن القول إننا أمام غياب لمشروع فكرى نهضوى حضارى عربى، يتعامل بإبداع مع متطلبات العصر وتحولاته، ويواجه التخلف والتسلط والفساد والتمييز والتجمد التراثى، ويملك الرؤية النافذة، والإرادة والآليات اللازمة.
***
ما الذى نسعى إليه ــ إضافة أو مراجعة ــ سأكتفى بذكر أربع قضايا مهمة:
الأولى: تتعلق بالموروث الثقافى فى الوعى، وفى الذهنية الجمعية العامة، حيث من الصعب أن يكون الطريق إلى الحداثة الفكرية، سالكا، وقطع شوطه الطويل إلا بإعادة مراجعة ونقد هذا الموروث. بمعنى فهمه فى تاريخيته، وشروط زمانه ومكانه، وإعادة إحيائه للإجابة عن بعض معضلات العصر، أى قراءة عصرية للتراث فى الفكر العربى المعاصر، وتأسيس هذه القراءة على قواعد البحث العلمى، بعيدا عن التوظيف السياسى والأيديولوجى.
إنها مهمة معرفية، أن يمتلك الفكر العربى الجديد الشجاعة الأدبية والإنصاف، وحماية حق العقل، والأمن الثقافى للمجتمع.
الثانية: تتعلق بمنظومة قيم وثقافة التسامح والسلم الاجتماعى.
حيث يواجه الفكر العربى اليوم، أسئلة متجددة، ذات علاقة بمعايير الانتظام والعيش المشترك فى المجتمع الواحد، وبين المجتمعات الأخرى، وفى صدارة هذه الأسئلة، سؤال إدارة التنوع والاختلاف فى أبعاده المتنوعة، من ثقافية ورؤى فكرية وسياسية ودينية وحقوقية.
ويتجسد هذا السؤال فى مصطلح التسامح بمعناه الحديث، والذى جاء ترجمة للكلمة Tolerance باعتباره مفهوما وقيمة وثقافة وسلوكا، وباعتباره مشروعا يجسد قيما إنسانية، تسعى مختلف المجتمعات إلى ترسيخها وحمايتها، من حيث كون هذا المشروع شرطا من شروط التوازن الاجتماعى والتنوع الثقافى والعيش المشترك فى عالم اليوم.. وهو عالم تغيرت فيه الهياكل الديموغرافية.. نتيجة الهجرات السكانية.. (ثلث المسلمين يعيشون اليوم فى مجتمعات ودول غير مسلمة، وثلثا النصارى يعيشون فى غير أوروبا).
إن التسامح، بمعناه المعاصر والمتداول عالميا، وفى المواثيق الدولية، ليس بمعنى الصفح أو المغفرة أو العفو، وإنما هو القدرة على التحمل والصبر على رأى مخالف أو عقيدة أو ثقافة أو عرق أو ثقافة مغايرة. وفى إطار قيم حقوق الإنسان واحترام كرامته كإنسان، وسعيا لتوفير شروط التعايش السلمى والوئام، عبر احترام الاختلاف. وتقدير التنوع الإنسانى، كحقيقة ربانية وآية من آيات الله فى خلقه، وبالتالى هو واجب أخلاقى وسياسى وقانونى فى آن.
التسامح ليس تعاليا على الآخر، ولا تنازلا عن خصوصية ثقافية أو عقيدة أو رأيا، إنما هو اعتراف متبادل بالاختلاف، تحت سقف التعارف والتعاون والاحترام، ونبذ الإقصاء والكراهية المتبادلة.
وهو يعنى الإقرار بأن البشر شعوبا وأمما وأعراقا وألوانا وألسنة ومذاهب، خلقهم الله سبحانه، ليتعارفوا ويتعاونوا ويعمروا الأرض.
من دون تسامح ــ كثقافة وقيم وتشريع ــ لا يكون هناك سلم اجتماعى.. ومن دون سلم اجتماعى لا تكون هناك تنمية ولا سعادة ولا حتى عدل.
ننشد التسامح، ليس فقط كلحظة اعتراض على فكر إقصائى وظلامى تميزى، ومسلكيات تطهير عرقى أو تكفيرى، وإنما ننشده لتأسيس وعى قيمى، وثقافة ضرورية لإنتاج شخصية سَوية وإنسانية، وفكر عربى جديد قادر على التعامل مع تحديات العصر ومقتضياته، وضمان حق الإنسان فى الحياة، وضمان كرامته وهى قيمة أسبق من كل انتماء أو هُوية، وهى حصانة أولية للإنسان، ثابتة له بوصفه إنسانا كرمه الله، وجعله خليفة فى أرضه.
مطلوب فى إطار التجديد الفكرى، إحياء الضمير والمسئولية الأخلاقية... واعتبار منظومة القيم ليست مجرد خصال حميدة أو غير حميدة، بل هى بالدرجة الأولى، معايير للسلوك الاجتماعى والتدبير السياسى والثقافى، ومحددات لرؤية الآخر والكون.
أما السلم الاجتماعى، فقد مضى على مثقفى وعلماء الأمة ومفكريها حينٌ من الدهر لم تكن فكرة السلم الاجتماعى شيئا مذكورا، مع أن الإسلام هو دين سلام ووئام ورحمة للعالمين، لا دين احتراب وتعصب.
وحق السِّلْم، هو حق الكافة فى الحياة والراحة والسعى فى مناكب الأرض وعمرانها. وهو مصلحة مع الذات أولا ومع الغير، والتعاون والتعاضد، وبدون سلم اجتماعى، يفقد الإنسان كل الحقوق، وعلى رأسها حق الحياة، ومن أهم قواعده «درء المفاسد مُقدم على جلب المصالح»، والأخوة الإنسانية، وإقرار الحوار بالتى هى أحسن.
نعم.. السلم الاجتماعى هو لمصلحة الجميع..
والتنوع آية من آيات الله فى إبداع هذا الكون، وبالتالى ينبغى أن يكون أساسا فى الوئام واستيعاب الاختلاف، ليتحول إلى ثراء وليس عداء، (وَلَوْ شَاءَ رَبُكَ لَجَعَلَ النَاسَ أُمَة وَاحِدَة وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).
***
الثالثة، تتعلق بمفهوم الدولة الوطنية فى الفكر العربى المنشود.
لقد أمضينا نحو قرن من الزمان، ونحن نلعن سايكس، وبيكو...(قسمنا وجزئنا... إلخ)
ظل وما زال الفكر القومى.. ينظر إلى الدولة الوطنية.. قُطرا مؤقتا.. وقد لا يعنيه كثيرا. وكذلك ظل أصحاب الفكر الإسلاموى.. يتجاوزون الدولة الوطنية إلى «الخلافة».. والبعض رأى فى الدولة الوطنية، جاهلية تستحق الهجرة عنها ولا تعنيه لو هدمت أعمدتها ونسيجها المجتمعى. وهناك تيارات فكرية أخرى، لم تعط اهتماما فكريا كبيرا لمسألة تحصينها وتنميتها وتوفير إدارة رشيدة للحكم فيها..
وفى كل الأحوال، لم يقدم الفكر العربى، ولا النظام الرسمى العربى (الجامعة العربية)، نظريا وفى ممارساته، ما هو أفضل مما أعطانا إياه سايكس ورفيقه بيكو.. وها نحن اليوم عمليا.. نقبض على الدولة الوطنية. مدافعين عن سيادتها وترابها وخريطتها الجغرافية، ونخشى عليها من الاختراق والغرق وتمزق نسيجها الأهلى الاجتماعى.. ونذود عنها مخاطر التقسيم، ومهددات الإرهاب، وقد تربت أجيال فى ظلها وغنت أناشيدها... وتحملت أوجاعها وعثراتها، وحلمت بازدهارها، وتكاملها مع شقيقاتها.
آن الأوان.. أن يعيد الفكر العربى تثمين قيمة الدولة الوطنية العربية، وينشغل فى تعزيز مقتضياتها فى هذا العصر، كدولة قوية وعادلة، وبسلم اجتماعى مستقر.. دولة قانون ومواطنة متكافئة، وهوية ثقافية عربية، دولة نافعة لأهلها وللإنسانية.. لا عالة ولا فاشلة.... لا تبنى الجدران، وإنما تبنى الجسور والتكامل العربى.
إن منطق الدولة الوطنية الحديثة، يفرض نفسه اليوم، على الفكر العربى الجديد، انطلاقا من ممكنات الواقع، وبعد أن عجزت السياسة والاقتصاد والفكر والإرادة، بما فيها الإرادة الشعبية، عن إنجاز وحدة أو فيدرالية أو حتى تكاملا، على مستوى الأمة.
إن ما نحتاج إليه اليوم، فى فكرنا المنشود، هو تعزيز هذه الدولة الوطنية، بمعايير الدولة لكل مواطنيها، والتى تتعامل مع أسئلة العصر الجديدة، فى الإدارة الرشيدة للحكم وللموارد، وفى الاقتصاد المنتج والتقانة والعدل والبيئة، ورفاه الإنسان وحقوقه وسعادته، وجودة الحياة، والسلم الاجتماعى.
والرابعة؛ اشكالية تجسير الفجوة بين المفكر وصانع القرار، وهى إشكالية تحدث فيها مفكرون كثر، منذ أكثر من أربعة عقود، ولا أدرى لماذا كلما سمعت هذا المصطلح (تجسير) تحضر إلى ذاكرتى أغنية شعبية قديمة، تقول؛ «جسر الحديد انقطع... من دوس رجلى / مشوار مشيته الصبح... ومشيته عصرية».
ومن أطلق هذا المصطلح من المفكرين، منذ عقود، لم يكن يطمع أن يكون الجسر المنشود ذهبيا أو من فولاذ، لكن على الأقل، ألا يكون خشبيا، ولا يبنى بالتكاذب المتبادل، وإنما بالنوايا الحسنة، والإرادة السياسية، وبتوفر الأذن الرحبة التى تسمع وتتفاعل، والبيئة المناسبة للحوار والمناقشة بالتى هى أحسن لدى دوائر صنع القرار. أما المفكر، فهو الذى يغادر برجه العاجى ليخاطب نبض الناس، ويستشرف لهم المستقبل، ويمتلك المنهج العلمى فى تقديم الخيارات، وطرح الأسئلة الاستشكالية، ويُحدث التأثير الإيجابى داخل مجتمعه، خاصة على صعيد الفكر التنويرى والعقلانى والنقدى والمعرفى. لقد غاب هذا الفكر، أو غُيِّب فى العقود الأخيرة، فترك فراغا هائلا فى المجتمعات العربية، وعملت الجهالة والظلامية، والطغاة والغلاة، والتخلف الفكرى،على ملئه، فكثر اللغو، وعمت الفتنة والفساد، وتقطعت الجسور، وحضرت الفوضى.
لنتذكر سر الحياة، وسعى الإنسان الأبدى نحو التجدد والتطوير والتغيير، ونفتح كُوة فى جدر اليأس والقلق، ونشعل منارة الفكر، وننشغل فى التجديد، استعدادا للإسهام فى صنع المستقبل الأفضل لهذه الأمة.
---------
*مفكر عربى من الإمارات