لقطة بقلم: د. أحمد بوغربي
تاريخ النشر : 2020-01-20
لقطة بقلم: د. أحمد بوغربي


لقطة
 بقلم: د أحمد بوغربي

          تابع صديقي حديثه :‘‘ إذا أردت رؤيته،عليك بمسجد البلدة، رجل قصير القامة ، بلحية كثة مسترسلة وعينين متقدتين، وطاقية مستديرة تعتمر رأسه.  ممتليء الجسم بجلباب قصير، يبدو شبيها بشخصية من شخصيات قصص الأطفال.  يركن سيارته التجارية الصغيرة البيضاء على يسار المسجد، ينصب طاولة خشبية مستطيلة، يضع فوقها مجموعة من قارورات زجاجية كبيرة، يرصها لواحدة قرب الأخرى ، وكلها تحوي مسحوقا يميل لونه إلى لأصفر، وحدها تلك الورقة الصغيرة ذات الشكل المربع التي ألصقت على الزجاجة  تشير إلى استعمال مسحوقها: ‘‘ دواء عسرالهضم‘‘،  ‘‘دواء الضعف الجنسي‘‘، ‘‘ دواء البرد‘‘ ، ‘‘ دواء قرحة المعدة‘‘، وهلم أدوية.

        أمر به، أراه يجلس وراء الوابور بعينيه المتقدتين، ولحيته الكتة المسترسلة، ينظر إلى الفراغ، وإلى المصلين وهم يحجون إلى المسجد فرادى، ومثنى، وجماعات، أتركه على حاله حيث هو،  أول ما أخرج من المسجد اتطلع إلى المكان، أراه حيث تركته بنفس الجلسة والعينين المتقدتين، والنظرة الفارغة،  أتساءل في كل مرة: ‘‘هل صلى وخرج أولا واستعاد جلسته تلك؟‘‘،  لا أدري مع أني كنت اخرج قبل الآخرين علي أجد إجابة، لكن في كل مرة أجده حيث هو. لم يسبق لي أن رأيت أحدا يساومه على دواء من  أدويته المعروضة، أجده وحيدا، ويغادر المصلون ، ويظل وحيدا. كنت أشفق عليه في سري ، وأتمنى أن يقبل الناس يوما علىه.  وأنا أمر قربه ، أتحاشى النظر ناحيته خوفا من التقاء نظراتنا ويقرأ في ملامحي ما يشغلني حوله من أسئلة.

       كان الصمت يلف مكانه، حتى ذلك اليوم المشهود،  بمجرد خروجي من المسجد تناهى إلي صراخه، وعلى غير العادة  رأيت جماعة من الناس تتحلق حوله، كان الشرر يتطاير من عينيه، وهو يردد بغضب :

_ آعباد الله، واش كاين شي دوا بخمس لدراهم، عطاني خمس لدراهم وقالي عطيني الدوا       كان يشير إلى رجل يقف مع الجموع، كان يقف صامتا، مشدوها، بلا شك لم يكن المسكين يتوقع رد فعل كهذا، خصوصا ,أنه لم يكن يقصد به شرا، ولم يجد سوى إجابة واحدة يكررها ردا على صراخ الرجل:

_ مابقيت باغي دوا آسيدي

لكن الرجل لم يهدأ روعه، وفي كل مرة كان يركز عينيه على أحد الوقوف ويتوجه إليه بالصراخ حتى دون أن يسأله:

_ واش كاين شي دوا بخمس لدراهم؟  هذا راه تيضحك علي

 وفي الجهة الأخرى كان الرجل الآخر يرد عليه بنفس البرود:

_وصافي آسيدي دواك راه باقي عندك ما بقيت باغي دوا

        تابعت طريقي ، وأسئلة كثيرة تقرع ذهني تنضاف إلى الأسئلة السابفة: ‘‘هل كان لا بد له من كل هذا الصراخ والغضب؟‘‘، ‘‘لم فعل ما فعل والرجل لم يكن يريد سوى اقتنااء بعض دواء منه ؟ ‘‘  ‘‘لنفرض جدلا أن خمس دراهم غير كافية، ألم يكن حريا به أن يعلن له ذلك بهدوء ولربما كان الرجل يتفهم ؟‘‘، ‘‘ألا يعرف صاحبنا ان الجدل حول الثمن سلوكا معتادا بين من يبيع، وبين من يشتري؟‘‘

     فكرت كثيرا في إجابات معقولة، ولم أجد سوى مبررا واحدا لتصرف الرجل، وهو أنه وبعد مدة ليست بالقصيرة،  لم يحفل  فيها احد بدوائه ، كان لا بد له من هذا الهرج ليرسخ في أذهان من تجاهلوه أنه هنا، وأنه جاء بدواء لأجلهم ، وأن هذا الدواء ذو قيمة ، وعليهم ان يكونوا أسخياء للظفر به.‘‘

      توجه صديقي إلينا وهو ينهي حكاية الرجل على مسامعنا وقال فيما يشبه الحكم النهائي: ‘‘  الرجل كان أذكى مما تصورت يوما، لقد وجد فرصة للدعاية وإشهار سلعته‘‘.   

    آخر الكلام