شعبنة الإعلام بقلم: خالد الفقيه
تاريخ النشر : 2020-01-19
شعبنة الإعلام
بقلم الإعلامي خالد الفقيه
مرت الصحافة والإعلام كوسائل تواصل جماهيري بعدة مراحل وتطورت وتغيرت تبعاً للمستجدات والمتغيرات السياسية فبعد أن كانت تحتكم للنظرية السلطوية مع بدايات الصحافة الأولى بسيطرة العائلات الحاكمة والرأسمالية عليها بالتحالف مع رجال الدين والتي إستمرت لفترة من الزمن كانت تعتبر الصحافة خلالها أحدى وسائل تثبيت أركان النظام السياسي الإقطاعي وأن المتلقين يجب أن يتلقوا دون الإعتراض على التقسيمة الطبقية التي تحكم المجتمع لأن في ذلك إعتراض على مشيئة الكنيسة الممثلة للرب على الأرض.
جاءت الثورات في أوروبا لتزيح عن كاهل الجمهور هذه النظرية وتبعاتها، وأحلت مكانها ما عرف بنظرية الحرية في الإعلام وتحديداً بعد الثورة الفرنسية وما تبعها من إنتهاء لعصر الملكيات وظهور النظم الجمهورية فإنتشرت الصحافة بشكل أوسع دون مراعاة للقيم التي كانت تحكم المجتمعات أو تأخذ بالنظر مرحلة التحول والقطع مع الماضي وهذا أدى لفوضى الإعلام وظهور ما سمي بالصحافة الصفراء والصحافة الرأسمالية التي أرسى دعائمها الفرنسي جيرار دان.
وأمام هذه الحالة جاءت بدايات القرن العشرين بنظرية المسؤولية الاجتماعية والتي تؤكد على حرية الإعلام ولكن على أن يكون مسؤول ومنضبط ومراعي للتنوعات الثقافية والعمرية والجنسية، فيما كان على المقلب الأخر نمط أخر من الإعلام تسيطر عليه الأحزاب الشيوعية في النظم الشمولية والتي ترى بأن الإعلام يجب أن يحكم ويتحكم به من قبل الحزب الشيوعي الحاكم باعتباره الوالد والأب للجماهير (العمال والفلاحين) ويعلم ما تريد ويقدم لها ضمن ثقافة أيدولوجية محددة وموجهة ما يراه مناسباً بما يساعده في نظيراته وفي إدارة الشؤون العامة.
النظرية السوفيتية في الإعلام أسست على المستوى الثقافي لما عرف لاحقاً بشعبنة العلوم والثقافة أي تبسيط العلوم وجعلها عامة المتناول والتداول للعامة فظهر الهواة في التسويق وتشعبت العلوم والمعارف وهو ما دفع بقيادات النظم الشمولية لإلتقاط الأمر وتوجيه الإعلام لتكريس شعبنة العلوم ومنها مباديء النظرية الشيوعية ليتداولها المواطنون بشكل شعبي وبحسب فهمهم المندغم والداعم للنظام السياسي، هذه الشعبنة خدمت العامة والسياسيين على حد سواء وكان أحد وجوه ترويجها الرئيسية الإعلام المقاد من الحزب كما خدم حالة الفراغ والشعور بالدونية للعامة عبر تأويلهم للعلم والثقافة في دعم وجهات نظرهم وتأويل النصوص بغض النظر عن الشعاع والتراكم الكمي أو الزمني بإسقاط وجهات نظرهم على التأويل للنص العلمي أو الثقافي.
ومع تراجع عدد النظم المحكومة بالحزب الواحد وتطور التكنولوجيا ووصولها للعامة وتراجع قبضة يد الدولة على التواصل الجماهيري ولا سيما في عصر الساتل الفضائي والشبكة العنكبوتية بحيث لم يعد النظام السياسي قادراً على التحكم بمضمون وسير المرسلات ومنها الإعلامية والثقافية أو قمع رجع الصدى وبالتحديد مع إقتناء كل فرد لوسيلة إعلامه الخاصه في ظل وعصر وسائل التواصل الاجتماعي ودون رقيب أو حسيب عادت مرحلة الشعبنة بفوضويتها ولكن هذه المرة لعالم الإعلام وعبره.
وفي عصر شعبنة الإعلام لم يتوقف الأمر عند الفيس بوك والتويتر واليوتيوب وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي بل طال الإعلام التقليدي بحيث بات كل مواطن أو جهة بمقدرته تدشين فضائية أو إذاعة أو حتى موقع إلكتروني وإدارته بطريقة الشعبنة والمبتعدة عن الضوابط والنظم المهنية والقانونية فانتشر الردح والتخوين ونشر الشائعات الموجهة والاعتباطية حتى باتت الأكثر إنتشاراً بين المتلقين كونهم يبحثون عن الإثارة والتشويق.
وعلى ما تقدم يمكننا القول بأن عصر شعبنة الإعلام هو عصر ظلامي في مضمونه وسيره، وخلق حالة من الفوضى وأستخدم في تدمير قيم ومجتمعات ونظم مدنية ومنتظمات سياسية ولا سيما فيما سمي "الربيع العربي" حيث كانت وسائل الإعلام المشعبنة إحدى وسائله التدميرية وفي الجانب الأخر كانت إحدى وسائل المقاومة مثل جيش الهبذ الإلكتروني وحركة المقاطعة، وأمام هذا التقييم ثنائي الإتجاهات بات لا بد من تقييم ووقفة جدية تأخذ بعين الاعتبار الحرية الإعلامية وضرورة التأكيد على الحرية ولكن أيضاً أهمية الوصول لميثاق شرف وضوابط أخلاقية تأخذ بعين الاعتبار المسؤوليات الاجتماعية.
وربما تكون الشعبنة في المجال الإعلامي قد لبت الرغبات السيكولوجية للجمهور المتلقي بغض النظر عن المحتوى وقيمه ومضامينه في ظل إزدحام الفضاء العالمي بوسائل الإعلام التقليدية والحديثة وفلتان بعضها ما خلق نوعاً من الهستيريا التي تشيع في المجتمع الكراهية والتحريض في ظل تمترس من يقفون خلفها في خنادق مرهونة لأفكار تنكر الأخر أو تتبع سفارات وجهات تمويلية أو تتبنى أيدولوجيات إقصائية، أو حتى تدور في الفلك الطائفي، وكذلك في ظل فتح الباب أمام كتاب وأشباه مثقفين لا يعطون بالاً للوطن بقدر ما يسعون للظهور ولو على حساب قفشات وتهريج بهدف إستقطاب الأضواء.
ومن نافل القول أن زحمة الفضائيات ما قبل الإعلام الاجتماعي مهدت لظهور شعبنة الإعلام لاحقاً خاصةً وأن هذه المحطات عملت ضمن أجندة وكانت حراب صراعات محلية وإقليمية ودولية ومهدت لظهور متلقي سهل خداعه وهو ما أوصلنا لاحقاً لمنتج جديد يمكن أن نطلق عليه إعلام الفوضى المتولد من فوضى الإعلام.
كنا في السابق نتحدث عن ثوار أو نجوم الفضائيات ووسائل الإعلام أما اليوم وفي عصر الشعبنة بتنا نتحدث ونرصد نجوم الصدفة والضرورة التي تخدم الوجهات المختلفة لهذه الوسائل دون موقف ثابت لهؤلاء النجوم بتلون وتغير الوسائل، فبحسب نيويورك تايمز إستضافت وسائل إعلام مصرية مالك مطعم في أمريكا على أنه خبير في السياسة الأمريكية، ووسائل أخرى إستضافت شخوص من المعارضة السورية على أنهم نشطاء في مجال الإعلام وحقوق الإنسان وبعضهم تبين لاحقاً أنه من المقاتلين ضد الدولة السورية وينتمون في بعض الحالات لجبهة النصرة وغيرها.
شعبنة الإعلام أيضاً خلقت ما بات يعرف بمجموعات "السوشلجية" الذين قد يكونون من الفعالين على مواقع التواصل الاجتماعي بمعنى رفع التعليقات والمقاطع والصور وغيرها ولكنهم ليسوا خبراء في مجالات يوصفون بها.
وبالمحصلة فإن شعبنة الإعلام بما تحمله من متناقضات ما بين الإيجابيات وأقلها التحرر من قبضة الدولة والملاك في التحكم في سير وسيل المرسلات الإعلامية، إلا أن السلبيات تبدو أكثر وأوضح وبعيداً عن عقدة المؤامرة والتآمر لا يمكن إغفال أن ما تحمله الشعبنة في الإعلام ستفضي في نهاية المطاف إذا ما بقيت في فوضويتها إلى إعادة هندسة للوعي والإعلام معاً.