وكأنّني على موعد مع الفقدان!بقلم:بكر أبوبكر
تاريخ النشر : 2020-01-14
وكأنّني على موعد مع الفقدان!بقلم:بكر أبوبكر


وكأنّني على موعد مع الفقدان!

بكر أبوبكر

وكأنني على موعد مع الفقدان! ففي مفتتح هذا العام 2020 وأواخر العام الفارط يرحل عن عالمنا عدد ممن أشعلوا الأنوار في عتمة الوجود، وفي ظلام الفكر الموغل في مستنقع الماضوية الآسن، يرحلون هم، ونظل نحن نرفل في الأصفاد متعثرين بين الحواجز والعوائق والعَطالة.

يرحل من جعلوا للعقل قدرة الصراخ في محيط الخواء، يرحل المقاومون للعطالة الراقدة في رؤوس النافخين في الكير فيحرقون الثياب، ويصيبون من جاورهم بالعمى الروحي والتكلس العقلي.

هم رحلوا، ومع رحيلهم ارتاحوا كثيرا، فلقد كان لهم من الرسول عليه السلام حسن الدعاء وجزيل الجزاء فهم خلّفوا (علم ينتفع به).

 يرحل  مع رحيل المفكرين والعلماء والباحثين والكُتاب جزء من قلبي وجزء من عقلي وجزء من مساحات الراحة التي كنت أحس بها لمجرد وجودهم في الفضاء الثقافي العام، فهم الأتقياء الأنقياء الإرقاء بكلماتهم مهما خالفت رأيي،  وهم الباقون الرفقاء بالنار حتى تشتعل في عقلك فلا تنطفيء.

وكأنني على موعد مع الفقدان! فلقد عاشرت منهم القليل بشكل شخصي، ولكني قرأت لبعضهم الكثير،  فكانت المعاشرة الحقيقة ليست فيزيائية، وإنما عبر صفحات منثور السطور على ورق الفكر المتوزع بين أجنحة الصفحات.

يموتون، وكأنني على موعد مع الفقدان، فلا يعودون! هكذا يظنّ الغِلمان من عبيد الجهل وأساتذة الغباء المشبع بالحمق وأساطين اللاوعي المنتفض على الحقيقة.

يموتون فلا يعودون، هكذا يظن الذين لا يعملون، فيرقدون مسترخين بين جناحي غمامة تظلّل على عقولهم، فتنام هذه الأدمغة الخاوية الا من الشر الى الأبد!  

من لا يعمل يعطّل العمل، فمن لا يعمل قد يركن ويبتعد وهذا أفضل له ولنا، ولكن المصيبة الكبرى أن من لا يعمل يعطّل! وهذا عمله!

العاملون المفكرون العاقلون المتأملون كما أمرهم الله، هم الخُشاة لله أكثر من غيرهم (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) ولكن من أين نجد الخشية أو الخجل أو التواضع من الجهلة والحمقى والمعوقين والمعطلين! وهم بعطالتهم يرفلون سعداء!

 تجد من العقبات الكثير في وجه العاملين فتكون القضية الكبرى أمامنا ليس العمل والابداع أولا، وإنما التخلص من العقبات والحواجز والأشواك التي يضعها المعوقين والمعطلين، والتي لربما لا نستطيع اقتلاعها   بسهولة وصولا لمرحلة العمل، نحن ومن فارقونا.

هؤلاء الراحلون كانوا يعملون، ويلقون العنت والمشاكل والنقائص من التهم التي عانوا منها الى الحد الذي لم يتوقف فيه السبابون والشتامون المعطلون عن العويل والنباح والنهيق.

من ينام عقله أو يخلد لسباته الأبدي تتحرك مشاعرة الآسنة لتعمل لطمًا ذات الشمال وذات اليمين فلا تجد من أصحاب العقل المنفتح الا الصبر وخوض الصراع بكظم الغيظ والأدب الجم، ولكنه الصبر الذي قد يعيق الفعل المنتج والفعل المبدع قسرا، فيموت الكثير والحسرات تملأ منهم القلوب.

رحل الكثيرون عن عالمنا، ممن أضاءوا الأنوار، ولم يأخذوا من الحظ الكثير ربما لأن منهم من قضوا جلّ اوقاتهم في الصراع والمواجهة وتخطي العقبات واقتلاع القنافذ من أجسادهم ، هم رحلوا تخلدهم كلماتهم ونحن مازالت القنافذ تصعد على أرواحنا.

 وكأنني على موعد مع الفقدان! رحل (النمل الأبيض) مع عبدالوهاب الأسواني، ورحلت (المصابيح الزرق) مع حنّا مينة (عام 1918) ومعه جلال أمين و(ماذا علمتني الحياة)، ورحل أكبر المدافعين عن القدس صبحي غوشة، كما رحل الفيلسوف الذي حذر مبكرا من الانفجار العملاق السوري الطيب تيزيني، ورحل الرسام الفلسطيني اللامع كمال بلاطة،  ورحلت أستاذة الآثار العراقية بهيجة خليل ورحل المؤرخ المغربي زكي خليل، ورحل محمد شحرور السائر عكس التيار كما يصفونه، كما رحل المؤرخ الكبير د.عصام سخنيني في أواخر العام 2019 ، كما يرحل منذ أيام المختص بالاسرائيليات المفكر المصري ابراهيم البحراوي في 5/1/2020 صاحب (استراتيجية "اسرائيل"2028 دراسة تحليلية)، ورحل مثلهم من السُعاة نحو النور من مختلف التخصصات الكثير وكأنني على موعد مع الفقد إذ برحيل كل مستنير أفقد شيئا من قلبي ومن روحي فأضمر وانكمش وأترقب.

وكانني على موعد مع الفقدان، رحل دُعاةُ الحق، والنظر والتفكر والنور والسعادة، وبقي الغلمان المعوّقون المعطلون أولئك الذين أدمنوا التعويق ووضع العصي في العجلات وأتقنوا الإفساد وبث الأحزان وما لهم لا يفعلون ذلك وهم خلو الارواح والعقول من أي حبة تفكير أو ذرة مشاعر طيبة؟ أو هديل.