رضوض بقلم : محمد الدرقاوي
تاريخ النشر : 2020-01-12
"رضوض "
من ذكريات الكتاب


قبل أن أعي بعضا من حقائق الناس ،وتمحو سلوكات الكبار عبق البراءة من الذات ، قبل أن أميز بين أصناف الناس و سلوكاتهم ومعاييرهم ، كنت أكره أن يكون معلمي في المدرسة رجلا
فأن يكون معلمي رجلا ، فذاك في نفسي إثارة اشمئزاز.. ضيق صدر ، وتلبس خوف من أن يداهمني من المعلم شر ..
كذلك كنت قبل أن تمكنني الحياة وخبراتها من التفريق بين ما هو مألوف وسائد بين الناس ،وبين ما هو مختلف وغريب الأطوار..
حتى اني في سنتي الأولى بالمدرسة ،لما عدت الى البيت، بعد اليوم الأول من السنة الدراسية ،تمارضت ، وتعمدت أن أدخل الحمام واضع اصبعي في فمي حتى أتقيأ.
لما سمعتني أمي، هرولت اليَّ خائفة ان يكون قد اصابني مكروه ، او تناولت شيئا من أحد الباعة المتجولين.
هكذا تحججت بعدم العودة مساء الى المدرسة ، وحين استفسرني ابي لماذا ؟ قلت : أكره رائحة الدخان في معلمي ، ونسيت ان يكون المعلم ربما لم يدخن سيجارة واحدة في حياته..
وحيث أني كنت إبن اسرة عريقة نسبا وشرفا وتاريخا ، فكان من السهل ان تغير الإدارة قِسمي استجابة لرغبة الشريف ـ والدي ـ الذي لا يرد له طلب
كنت أحب أن يكون من يعلمني أنثى ،لان المرأة عندي قدوة ،أناقة ومبعث رحمة ،وفيض إحساس وذوق ،
كنت أرى في كل أنثى تعلمني ،أمي التي أحمل لها سرا من أسرار ما أعي وافهم ،كنت أقول في نفسي :
لوما الأنثى ، ما جرى نهر ،ولا غرد طائر ،ولا نبت بستان ، حتى وهي تخطئ فلن يجرها، أو يغريها ، أو يحرضها على الخطأ الا رجل ، استغل فيها ،ثقة، أو خوفا،أو اغتصب طيبتها المتأصلة فيها ..
في حين كان كل معلم عندي مبعث غثيان واشمئزاز و كراهية ، استغلال وقدرة على دوس كل الشرائع من اجل رغبات شريرة وأنانية فادحة
كل معلم عندي كان شيطانا يرتدي زي الصالحين ويتخفى وراء الدين ..
بعد فعلة القيء المتعمد بأيام كنت عند والدي في دكانه،
سألني عن دروسي ، عن قسمي الجديد ، عن معلمتي ، عن كثير مما يحدث في مدرستي
صَمت َقليلا ثم قال: سدي محمد لماذا لا تحب أ ن يعلمك رجل في المدرسة ؟
طأطات رأسي ، وتركت عيوني تمسح الأرض من تحتي ،اعتلى وجيب صدري ، وخفت أن أقول لأبي الحقيقة كما أعرفها وأخفيها عن جميع الناس
أدرك والدي بتجربته وخبرته أني أخفي شيئا ، قال :
ــ لن تكون ابني اذا لم تخبرني بالحقيقة ..
دمعت عيناي وصرت أرتجف .. ومن سذاجتي يومئذ فكرت :
ومن يصير لي أبا اذا تركني أبي ؟
ارتد في سمعي الصدى ، وتملكني الخوف من جديد، أحسست كأن يدا تعاود مسكي من قفاي ، وصوتا بغيضا يقول :
ـ والله يابوك واخبرت شي واحد بما رايت حتى نقتلك ..
كنت أحس عيون ابي وهي تنظر الي سهاما تخترق ذاتي ، تقرؤني ، تكشف سري ،ترى اليد التي مسكتني من قفاي ،وتصغى أذناه لألفاظ التهديد التي اخترقت طبلة أذني ، وصدى الصوت وقد تجلجل وعيدا مرعبا في اسماعي ..
كنت أعايش اللحظة كأنها تعيد نفسها بكل صور رعبها وقسوتها ..وفي نفس الآن كنت أتمنى لو يعفيني أبي من الرد ،لأن قلبي الصغير لايتحمل هذا الهدير الذي يدوي بين اضلعي ،فيعديني الى لحظة أكره أن أعود اليها بإلتفاتة أو تلوح بذكرى ..
سنة مرت على الحدث، غادرت الكتاب، وبدأت مع الأيام تتلاشى صورة الفقيه في عقلي وصدري ،لا تتداعى على البال الا حين كنت اشاهد حمالا بين أزقة المدينة القديمة يضرب بهيمة، يستحثها على المشي، فاهتز فرقا وألما نفسيا؛حين صرت تلميذا في مدرسة تعودت رؤية المعلمين حولي باطمئنان حذر ،أراقب عن بعد أحاديثهم البريئة مع المعلمات ،وأتسقط اخبارا عن هذا المعلم أو ذاك من تلميذاته وتلاميذه ،وكلها تمحو الصورة القاسية التي طبعها فقيه الكتاب في نفسي ...
ها هو أبي يثير الحدث من جديدفيعيدني الى الإحساس الاول بكل فظاعته وقسوته ورعبه ، وما غابت او تغيرت له صورة ، محفور ة كرسوم الشياطين على أثر صخري ،كم يلزمها من عوامل التعرية حتى تتلاشى وتغيب ،فكم اقضت نومي، بأحلام مزعجة مرعبة ،كنت اصحو على اثرها وأنا خافق الصدر دامع العينين..
كنت صبيا صغيرا أو "محضري" كما يقولون في كتاب قرآني يقع قريبا من بيتنا ، وكان الفقيه رجلا أربعيني اسمر اللون ، فاره الطول، عريض المنكبين ، لاتفارق راسه عمامة في فصل الشتاء ، وطاقية بيضاء في الصيف ،وحين كان يعري رأسه أحيانا فكان يبدو كبيدر عتت فيه حوافر الحمير أثناء الدرس!!..كان بنظرة واحدة يحرك زوبعات الخوف في نفوسنا، فنرفع عقيرتنا باجترار ما على ألواحنا من آيات كنا نرددها ولا نفهم لها معنى ، أو نصحو من غفلة إغماضة جراء تعب أو عياء أو رتابة ترديدات ببغائية حين انشغال المدرر عنا مع زائراته من النساء ..
ذات زوال من يوم جمعة ،وقد كان يوم عطلة ، كنا نحن الأطفال نلعب لعبة غميضة قريبا من بيتنا؛
ركضت لأختفي وراء باب أحد منازل الحي
اثارتني باب الكتاب نصف مفتوحة .. دفعتها فانفرجت
صعدت الادراج .. مددت راسي الى الداخل ..لا أحد ..ربما نسي الفقيه ان يقفل باب الكتاب ،
وانا استدير للعودة سمعت أنفاسا قوية تتلاحق ، اعدت الاطلالة
كان في الكتاب ظلة خشبية عالية ، كانت هي مرقد الفقيه
و مسكنه..حين رفعت راسي ،رأيت الفقيه على الظلة في وضع مخجل مع أم أحد المحضرية الصغار ؛ كانت تزوره يوميا ليكتب لها أحجبة ،او تحمل له أكلا ،او تهديه صحونا صغيرة من حلويات منزلية ، أو تأتيه بملابسه بعد غسلها ، دون أن يخلو حضورها من همسات وغمزات وضحكات ... لم تكن المرأة كغيرها ممن يأتينه من النساء يخط لهن جداول على ورق أبيض يكتب عليه بصماغ أو زعفران وماء الزهر ف يقدمن له نقودا ، او صرات من ثوب كنا لا نعلم مافيها ، بل كانت عنده حظية تطيل الجلوس الى أن يشير عليها بغمزة من عينه اليسرى فتنصرف ، ثم يتركنا تحت حراسة أكبرنا من المحضرية ويصاحبها ..
لا أدري ان كان ينصرف معها ام يكتفيان بالوقوف على أدراج سلم الكتاب...
فاجأني مارأيت ،وتخيلت لو أن ابنها هو من شاهد الوضع المخزي !!.. ربما لن يفعل شيئا ،فقد تعود أمه وهي تزور الفقيه يوميا في الكتاب ،بل كثيرا ماكان يفتخر بزيارة الفقيه لبيتهم كلما عاد أبوه من بلاد الغربة فيكرم الفقيه بالهدايا ..
كلنا كمحضرية كنا ننادي الفقيه "أَسِّي" إلا هو فقد كان يناديه "عمي"
بين ذهول وارتباك ،زلت قدمي وأنا أهم بنزول الأدراج..سقطت ، ثم وقفت ...
قبل أن أعاود النزول، كانت يد الفقيه تمسكني من قفاي، ترفعني الى أعلى كمن يمسك أرنبا مذبوحة من رأسها :
ـ والله يابوك وأخبرت شي واحد بما رأيت حتى نقتلك
ترك الفقيه قفاي فتدحرجت على السلم، بعد أن رماني كما يرمي أي شيء كان في يده..
بحث عن قطرة ريق في فمي فلم أجدها ، فصرت ابتلع جفاف حلقي وكاني امرر حصرم التمر عبر حنجرتي ، رفعت راسي لأتوسل الفقيه ،فأرهبتني عينه اليسرى كورم أحمر يغطي سوادها ، وعينه اليمنى كجمرة ملتهبة على وشك أن تحرقني من قلب محجرها ..
قاومت الرعب الذي داخلني بقدر مقاومتي لألمي ، من رضوض راسي الذي ارتطم بجدار السلم، ومن ركبتي اليمنى التي تورمت وغطتها حمرة مشوبة بزرقة غامقة .. عاودت الوقوف نصف راكض الى بيتنا..وصورة واحدة هي ما يكتسح ذاتي وكياني ، صورة شيطان أسود، يرسل شررا من عيون دموية حمراء
كان الحاح أمي كبيرا أن تعرف ما وقع .. أصررت على ان الامر لا يتعدى سقطة بسيطة وأنا العب في الدرب..
عرضتني لحمام ساخن تجس فيه جسمي مكانا بعد آخر ثم ضمدت جروح رأسي وركبتي ، وتأكدت أن الامر لا يتعدى رضوضا بسيطة في ركبتي ورأسي
من يومها لم أعد الى الكتاب الا قليلا ، أتمارض ، أو أخرج ثم أعود بعد وقت قصير بحجة غياب الفقيه ..وحتى اتجنب ولوج الكتاب دون أن أثير شكوك أبي أو أمي كنت أدخل ضريح سيدي أحمد التيجاني اصلي الضحى ، واستمع الى ترتيلات القراء ،أو أتهجى أحاديث رياض الصالحين من كتب الضريح الى أن يحين الزوال ، وكثيرا ما كنت أقصد ضريح المولى ادريس ، اندس تحت سترة قبة الضريح، أدعو على الفقيه ،أتوسل وابكي ،أو أتوجه الى مسجد القرويين ، اقضي فيه الساعات ،استمع الى دروس العلماء وفي رأسي ألف سؤال وسؤال عن كل ذي عمامة ، وحقيقة ما يمكن أن يخفيه تحتها وما لا يعرفه عنه السامعون ..
فقبل أن أعي مقدار العلماء بتمييز ،كانوا عندي اشبه بالفقيه ،الكل نسخة من نفس الأصل...
ان الساعات التي قضيتها في هذه الفضاءات كان لها اثر كبير في تكويني المعرفي ،وتشكيل بنيتي النفسية ، وقناعاتي التعبدية ، ورايي في الحياة
و الناس بين الظاهر الذي نراه على وجوههم، والمتخفي الذي يتسترون عليه بمختلف التلوينات والمساحيق ...وصرت أومن أن مظهر الانسان لا يدل أبدا على حقيقته ..
إن ما سكن أعماقي كان أبلغ من السقطة .. ومن عيون نارية تملكت كل حواسي ، بل وابلغ من أثر لوح مكتوب كنا نحفظه عن ظهر قلب بلا معنى او شرح ، ما وقر في نفسي كان صورة مقرونة بسوط وقهر من فقيه سفيه حقير،جبار ، كان بكاء وتوسلات، كنت اترقب استجابة الله مذل الجبابرة وهازم الطغاة ان ينصفني مما لحقني..
كبرت ،وتغيرت رؤاي وافكاري ،وصرت أميز بين أصناف الفقهاء في الكتاتيب القرآنية ،و بين علماء يحدثون في مسجد ، وآخرون يمتهنون التدريس و بين معلم في مدرسة .. لكن كبر معي الشك في كل ذي لحية وعمامة يرتدي جلبابا ابيض ،عيونه من نار السعير اذا غضب ،وتحته يتحرك شيطان في الصدر ،ومعول به يهدم القيم والدين والأخلاق...
مازلت أذكر أنه بعد أن استمع اليَّ والدي ضمني الى صدره ، قبَّل يدي وقال :
كنت أظن الامر أكبر من ذلك .. لاعليك ..
بعد أسبوع كانت باب الكتاب مختومة بالشمع الأحمر ،وانتقل المحضرية الصغار الى كتاب آخر قريب ،عبارة عن مسجد صغير تقام فيه الصلوات الخمس ، ولا سكنى فيه للفقيه الذي كان يعمل اماما راتبا ومؤذنا ومدررا للصبيان