انفجار بقلم: صلاح بوزيّان
تاريخ النشر : 2019-12-21
انفجار بقلم: صلاح بوزيّان


انفجار

لا شيء يدفع إلى النّسيان .. خلل حدث في ينابيع القرية .. دويّ الانفجار مازال عالقًا بأذهان أهل القرية .. توارت التّفاصيل في أذهان النساء و الأطفال ، ولكنّ الرّجال متشبّثون بالسّؤال المحيّر : من وضع الألغام ؟ من اغتال السيّد ولد عربيّة ؟ و لماذا تهاطلت علينا قوافل الأغراب و المنبوذين ؟ ، نعم خربتْ القرية بين عشيّة و ضحاها .. تهدّمت البيوت و الأسواق والدّكاكين و المقبرة .. وتناثرت القبور ورفات الأموات .. و احترقت الصّحف و ضاعت الأقلام .. القرية تتوشّح السّواد و أكوام من الحيرة الصّلبة .. الأوحال تملأ الطّرقات .. الفوانيس مكسّرة .. الحنفيات معطّبة .. أعمدة الكهرباء محطّمة على الأرض تساوت مع التّراب و الحجارة .. و بين ذلك كلّه نجا برج الحاج صالح من التّفجير .. بناية شامخة واسعة .. لها باب خشبيٌّ كبير .. و سور حجريٌ عريض و عال لا تُدركه أقدام المتسّلقين و لا أبصار اللّصوص .. و على يمين الباب شجرة زيتون كبيرة و عريضة .. أغصانها ممتدّة ، معانقة للسّور .. حبّات الزّيتون غليظة و شديدة السّواد .. الأغصان مملوءة بحبّات الزّيتون .. و لكن من يجنيها .. تعجّب خليفة العتروسي و ردّد السّؤال مرّات ومرّات : من فجّر القرية ؟ و كيف نجت بناية الحاج صالح ؟ الحاج صالح عاد من ليبيا لمّا سقط إدريس السنوسي .. و بنى البرج ، وسكنه ، وكان يُنفقُ على المحتاجين والفقراء والأيتام .. صرخ المؤدّب قدّور: { اتّقوا الله الحاج صالح بنى البرج من عرق جبينه ، و ساعد أهل القرية في كثير من المحن والشّدائد ، فلا غرابة من نجاة البرج ، لقد نجّاه الله وأهلكنا و ابتلانا بالانفجار الغريب ، و لكن كيف سنعيد بناء بيوتنا و أسواقنا ، و إيّاكم ثمّ إيّاكم أن تقولوا لي نقترض من التّجار اليهود } .. كان الطّقس باردا .. القلوب محترقة حزينة .. الوجوه سوداء .. بكاء أطفال ينبعث من بين الأشجار .. تنهّد ولد فطيمة و قال : { ضاع أولادنا و ضاعت مدرستهم و المعهد الثّانوي ، كلّ المقاعد و السّبورات  أكلتها ألسنة النّار ، من فعل بنا هذا ؟ }

أضاف الشاذلي ولد الحاج العجمي  : { فعلتموه بأيديكم ، بغفلتكم بقلّة حمد الله على نعمة الستر ، كم مرّة كنت تمتعضون من القرية وحال القرية ، وكنتم كلّما زرتم قرى أخرى تأتون بسيول النّقمة على القرية وعلى العُمدة .. شبعتم و امتلأت قلوبكم غيضا على العمدة ، وهاهي العاقبة أتت من بعيد } أردف ولد فطيمة :{ لم نكره العمدة بل كرهنا عائلته الفاسدة ، ابنه الذي يشاركنا  موسم الحصاد ، ويقتسم معنا المحصول كيسًا كيسًا و يقاسمنا جني الزيتون ، ويذهبُ إلى المعصرة بالدّنان ، فيملأ الزّيت ويبيعه بالثّمن الذي يحلو له و كأنّه رزقه .. إنّه الظلم .. صهر العمدة يملك الشاحنات .. وافتكّ مقطع الحجارة و أقام عليه مصنعا للاسمنت ، أخت العمدة التي تجلب السّلع إلى القرية و تبيعُها لنا بأثمان مضاعفة } صاح صوت :{ كفى ، كلّ شيء انتهى العمدة هرب ، والانفجار وقع ، و نحن رمّمنا ما استطعنا إليه سبيلا ، ولكن من فعل ذلك ؟ و ماذا جنينا ؟  علينا أن نبحث عن مخرج من هذه الحرب .. و نحذر هذه القوافل التي جاءت بعد وقوع الانفجار } خيّم صمتٌ على الأهالي .. هم قعودٌ حذوى برج الحاج صالح .. نفر منهم يلعبون الخربقة و يتهامسون .. و طائفة  في سبات عميق .. أتت ثلاث نساء و على رؤوسهنّ جفنات يتصاعد منها بخار .. انتشرت رائحة الكسكس و اللّحم و الزّبيب في المكان .. و ضعن الغداء وانصرفن من الميعاد .. تتبادل الرّجال النّظرات .. و امتدّت الأعناق و جحظت الأعين .. وتحرّك الجوع .. و لم يغادروا أماكنهم حتّى جاءت أربع فتيات .. كلّ اثنتين تحملان جفنة .. و بلطف وضعن الجفنتين و الملاعق الخشبية .. و أتى رجال القوافل أفشوا السّلام و ثمّ وزّعوا على أهل القرية العنبر و المسك و البرانيس و كثيرا من الفاكهة ، و شاركوهم  الطّعام .. انقطع الكلام فلا تسمعُ إلاّ تأوّهات التلذّذ .. انطفأ الهلع والخوف .. و بدأت الدردشات و أحاديث الإعمار و البيع والشّراء .. همس كبير القرية : { الآن فهمتُ كلّ شيء ، ولن أبوح بالسّر } غمغم ثمّ ترك الطّعام .. عاد إلى خيمته قرب برج الحاج صالح .. جمع متاعه و ركب الجواد .. وكتب بعود محترق على جدار الحاج صالح : { مصيبتكم من رجال القوافل } ثمّ اختفى بين الفيافي .