ذاكرة ضيقة على الفرح 24
تاريخ النشر : 2019-12-16
ذاكرة ضيقة على الفرح 24


24

لم نكن في تلك السنين التي خلت في سعةٍ من أمرنا ، غير أننا كنا نمتلك ارادة الحياة ، كما نشتهي ونسعى في السُّبل المتاحة نحو ذلك ، فمازلت أذكر أيام الدراسة في الجامعة ، كيف كنّا نتدبر أمورنا من أجل أن نحيا كما يليق بشبابٍ ، يسعى الى المعرفة والى الحياة ، فقد تعرفت في تلك السنين على زملاء الدراسة : عمار حاج يوسف ، وعبد الحميد مدنية هؤلاء الشباب القادمين الى الدراسة في جامعة تشرين ، من " الجانودية " أتعرفون الجانودية ؟

تلك البلدة الجميلة الوادعة التي تقع على هضبة ساحرة ، تُطلُ منها على جبال اللاذقية ، وعلى جبلي التركمان والأكراد ، وعلى الجبل الأقرع المُطل على البحر المتوسط ، ذاك الجبل القريب من منطقة " كسب " التي تقع على حدود تركيا ، أو بالتعبير الأكثر دقة تاريخياً ، على حدود لواء اسكندون المُقتطع من جغرافيا سوريا .

من تلك الحدود الساحرة التي تُحاكي جنان الله ، حيث بساتين الزيتون والتفاح والجوز والأنهار العذبة ، جاء الصديق الرائق السريرة ، العذب في روحه وأخلاقه ، عمار حاج يوسف ... جاء من الجانودية التي تعتبر من أعمال جسر الشاغور ، التابعة لمحافظة ادلب ليتابع دراسته في اللاذقية ... ولأن الأمور ليست في سعةٍ كما أسلفت ، فلا بدّ من ابداع الشباب وبحثهم عن طرقٍ ناجعة لمعالجة الأمر ، بما يكفل ديمومة الدراسة والحياة الجميلة .

ولأنهم من بلداتٍ زراعية ويعرفون التفاصيل اللازمة في سياق تلك المهنة ، فقد استدلوا على مشاتل لزراعة الورد في مدخل مدينة اللاذقية ، أي قبل جامعة تشرين بما لا يتجاوز مسافة ال 10 كيلو ... وأخذوني معهم ... ابن المدينة الذي هو غير ذي صلةٍ بذاك المناخ ، يعمل بالزراعة وبين الاشتال ، ولكن أية أشتالٍ تلك ، إنها أشتال الورد على اختلافه .

كانت تجربة جميلة مع الاصدقاء عمار وعبد الحميد  ، نذهب بكامل أناقتنا لنرتدي هناك زي العمل ، وعندما يحين وقت المحاضرات الجامعية ، نغتسل ونلبس ملابسنا اللائقة ونسرّح شعرنا ولا ننسى أن نتعطر ، فلا يجوز أن نذهب للجامعة دونما استعداد للدرس ، وللالتقاء بالزملاء والزميلات اللواتي دائماً هنّ على أهبة الاستعداد ، للدرس وأشياء أخرى ، تحرك كوامن النفس بسحرهن ورشاقة أرواحهن  التواقة للحياة .

في تلك الأيام كنّا نقتنص لحظة الفرح ، بكل ما آوتينا من شبقٍ اليها ، نفتضُّ دقائقها كما يفتض الفجر عتمة الليل في هزيعه الأخير ، والفتى الذي كنتُ ربما كان في دواخله ، رغبةٌ أعلى بذاك الاتجاه في أوقاتٍ معينة ، ربما ليعوض عن طفولةٍ ، لم يعرف أين بدأت وأين انتهت ، أو اذا ما كان قد عرف بابها ، في تلك الحياة والأقدار التي أدخلته في عوالم المسؤولية المبكرة ؟

غير أن تلك اللحظات سرعان ما تهرب ، أمام استحقاقات المواجهة مع المواقف الحياتية والسياسية ، فمثلنا ليس من يتخلى ، لأنه لا يستطيع ذلك ولو حاول سبيلاً ، فهو المعجون بطين تلك المرحلة ، أحلامها و آلامها الكبيرة ... ولكن لحظات السعادة تلك  ، التي كنا نحاولها كانت تمثل بوعي العارف ، لحظات شحن اضافي لإرادة التحدي والمواجهة .

نحن أبناء مرحلة قاسية كلنا بالمعنى العام ، بخلاف الاضافات الذاتية لهذا أو ذاك ، في تلك المرحلة كنا تلمسنا أواخر العهد الجميل ، حيث مازال الحلم القومي ، يرفع بيارقه عالية ، ولكن صدمتنا الانزياحات السياسية الحادة ، لكتلٍ ودولٍ وأحزابٍ ، لم نكن نتوقع انزياحاتها تلك ، وربما لأن وعينا السياسي ، كان وعياً طهرانياً لم يستوعب الانقلابات الحادة .

فالصديق باسم عاشور الذي كنا دائماً نلتقي معه ، في بيوتاتنا في المخيم ، أو في بيته هناك في " مشروع الزراعة " حيث يلتقي الطلبة الوافدين من الاردن والارض المحتلة ، لم يكن يستوعب في حواراتنا أن نتحدث عن اسرائيل ، دونما الاشارة الى أنها  دولة الاحتلال ، أو الكيان الغاصب ، ليس مسموحاً أن يتسلل الى وعينا ، القبول برفع الأقواس عن الكلمة " اسرائيل " لأن ذلك يعني اعترافاً بالغاصب ، الذي لا حقَّ له في بلادنا .

باسم الذي كان يضجُّ بالحياة الى أبعد الحدود ، ينقلب الى غير ذلك في تلك الحوارات ، ومثله بلال وخالد ... وأنا كنتُ مثلهم ولكن بهدوءٍ أقل ، فلا أخفيكم بأنني ورغم قناعتي : بأن صراعنا مع المحتل صراع وجود وليس صراع حدود ، فقد كنتُ بسذاجة الوعي السياسي الذي كنتُ أدور في فلكه ، أرى امكانية القبول التكتيكي بدولة الرابع من حزيران ، فإحساسي الداخلي وعقلي وتربيتي ، لا تسمح أبداً بنسيان يافا ، الحلم والتاريخ الجميل للآباء والأجداد ولكن : ربما قسوة الاغتراب تدفع البعض منا لتأويل القبول على أمل ، ولكن فيما بعد ونحن نشهد الانكسارات الحادة للمواقف السياسية ، والقبول بما لا يطيق وعينا ، والحصاد المرّ لتلك التوجهات ، يستحضرني كلام الرجل الستيني ، الذي كان في قمة نشوته من أقداح العرق يقول : " اذا لا يوجد حديث عن عودتي للطنطورة فليس هناك شيء صحيح " .

الناس في صحوها وسكرها لا تغير مساقات وعيها الفطري ، والذي هو أكثر صوابية ، فربما الوعي الاضافي يكون نقمة على حامليه ، حيث يكون مُدخلاً للتبرير ، ليس دائماً ولكن يحدث ذلك ، فهل نعود الى فطرتنا ؟