معركة الدين والدولة بقلم: أسماء محمد حسونة
تاريخ النشر : 2019-12-16
"لولا أن نرتكب شططاً في القول، لعرضنا على القارئ سلسلة الخلافة إلى وقتنا هذا، ليرى على كل حلقة من حلقاتها طابع القهر والغلبة، وليتبين أن ذلك الذي يسمى عرشاً لا يرتفع إلى على رؤوس البشر، ولا يستقر إلا فوق أعناقهم، وأن ذلك الذي يسمى تاجاً لا حياة له إلا بما يأخذ من حياة البشر، ولا قوة إلا بما يغتال من قوتهم، ولا عظمة له إلا بما يسلب من عظمتهم وكرامتهم"
هنا بعض ما قاله الشيخ على عبد الرازق عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر عن الخلافة في كتابه الأهم والأشهر "الإسلام وأصول الحكم" ذلك الكتاب الصغير البسيط الذي لم تتجاوز صفحاته 100 صفحة، لكنه آثار عاصفة فكرية هائلة، وحرك الواقع الثقافي والسياسي في مصر منذ لحظة صدوره إلى الآن، فكان ولا يزال واحداً من الكتب القليلة أثرت في مجرى الأحداث التاريخية المصرية، ولذلك كان عقاب صاحبة قاسياً للغاية.
ولد الشيخ على عبد الرازق في عام 1888، وهو من بيت عريق في العلم والقضاء، وقد آثار بكتابه الإسلام وأصول الحكم" الذي أصدره عام 1925 زوابع لم تهدأ ربما حتى الآن، وحرك بهذا الحجر الذي ألقاه مياهاً راكدة في مصر والشرق كله.
فقد هز عرش الملك فؤاد الذي كان يطمح في أن يرث خلافة المسلمين بعد سقوطها على يد أتاتورك في تركيا، وبرغم نشأته وميوله المحافظة، فقد كان الشيخ على ثورياً بطبعه، ميالاً إلى الإصلاح والتجديددون جور على الأصول والتي تربي عليها ومن مؤلفاته الإسلام وأصول الحكم، الإجماع في الشريعة الإسلامية، وآمالي على عبد الرازق. وقد جاء كتابه الصغير هذا مثل قنبلة، فقد أسقط وزارة وفض ائتلافا وأحدث تحولات خطيرة في السياسة المصرية.
كتاب الإسلام وأصول الحكم الذي ظهر سنة 1925م؛ ربما يكون أول بحث متخصص ومستقبل للإجابة على السؤال التالي: هل الإسلام دين كسابقته من الأديان أن أنه دين ودولة في آن معا؟ الشيخ على عبد الرازق قال إن لا دولة في الإسلام.
هكذا فأجا هذا الكتاب العالم كله بهذا الرأي غير المسبوق، وأعجب من هذا أن الشيخ على عبد الرازق إبان محاكمته أمام جماعة من كبار العلماء بالأزهر الشريف على أن هذا الرأي ليس رأيه، وأنه لا يقول به، ولا يؤمن بأن الإسلام رسالة ووصية فقط، بل امتد لفصل مفهوم القضاء عن الشريعة واعتباره ضمن المنظومة السياسية أيضاً، ولم يكتف بهذا فحسب فقد أقر بان الخلافة ماهي إلا اجتهاد ارتبط بحدث محدد وهو وفاة الرسول –عليه الصلاة والسلام-فكانت ضرورية آنذاك للحفاظ على الإسلام والدولة التي أقامها الرسول، ولكنها لم تكن فرضا.
وأمام هذا الموقف قدم كثير من العلماء وطلاب الأزهر عرائض لمجلس الوزراء ولشيخ الأزهر مطالبة بمصادرة الكتاب وتقديم الشيخ على للمحاكمة في مجلس تأديب، وقامت الوفود بزيارة شيخ الأزهر لتبدي استياءها وتذمرها من تجاهل الداخلية ووزيرها إسماعيل صدقي للطعون المقدمة بشان الكتاب، وطلبت مصادرته وانهالت التلغرافات من مختلف المديريات التي تحمل عشرات التوقيعات وتطالب بالقضاء على الكتاب، وذهب بعض الملوك إلى الملك فؤاد بقصر المنتزه بالإسكندرية ليتخذ إجراء حاسماً بشان الكتاب وصاحبة وليحث الوزارة والمشيخة على سرعة الفصل بشان الكتاب وصاحبة.
وإزاء تلك الضجة والثورة التي قام بها العلماء والأهالي والطلاب أعلنت مشيخة الأزهر أنها قررت تألف لجنة مكونة من ثلاثة علماء لبحث الكتاب وتقديم تقرير بنتيجة بحثهم، وفي 12آب 1925 اجتمع كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل، أصدروا خلال ذلك حكماً تأديبيا على الشيخ على عبد الرازق، وجاء بنص الحكم: حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين منعاً من هيئة كبار العلماء، بإخراج الشيخ على عبد الرازق أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الشرعية، مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم من زمرة العلماء".
لكن هذا الحكم لم يكن مجرد حكم بالطرد من سجلات الجامع الأزهر، لكنه كان فقدان لحق المواطنة حيث أن مستند الحكم تضمن محو اسم المحكوم عليهمن سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتبات في أي جهة كانت وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية.
بعد الاضطهاد الذي تعرض له على عبد الرازق عاشا منعزلاً وأصيب بالإحباط منع من إخراج أفكار التي كانت من الممكن أن تكون بصالح المصريين، في عهد الملك فارق بعدما تبدلت الظروف السياسية في مصر أعاد الأزهر الشيخ على عبد الرازق إلى مؤهله العلمي وتم إعادته إلى زمرة علماء الأزهر، واختير عضو في مجلس النواب وفي مجلس الشيوخ وتم تعينه وزيراً للأوقاف واكتفى بإلقاء محاضرات في إحدى الجامعات المصرية حتى وفاته في 23 سبتمبر 1966م.
كانت الخاتمة التي وصل إليها الشيخ على عبد الرازق أنه آن الأوان للمسلمين أن يعيدوا النظر إلى تاريخهم وأن يميزوا بوضوح بين مبادئ الدين وأعمال البشر وآن الأوان بهم أن يتعلموا من تجربة الإنسانية في المجال السياسي فيعتمدوا ما أظهرت الممارسة نجاعته وفائدته، أي الأنظمة السياسية التي توافق حاجياتهم وتطلعاتهم، لا تلك التي يبررها البعض خطأ باسم الدين.
وبتقديري أن الشيخ على عبد الرازق يعد مثالاً لأهمية أن نكون حريصين على استيعاب التطور دون الإخلال بالثوابت، سواء دينية أو سياسية، بما يستوجب معه العمل على تطوير الفكر، فثُرى كيف كان سيصبح حال المسلمين اليوم لو أن الأقطار الإسلامية لم تجد بديلاً لمفهوم الخلافة حتى الآن؟