معاوية بن صخر ليس مسؤولاً عن الاستبداد المعاصر بقلم:سري سمّور
تاريخ النشر : 2019-12-13
معاوية بن صخر ليس مسؤولاً عن الاستبداد المعاصر بقلم:سري سمّور


معاوية بن صخر ليس مسؤولا عن الاستبداد المعاصر-- سري سمور(أبو نصر الدين الحنفي)

((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت)) رواه أحمد وغيره.

لم أكن بعيدا عن تلك المدرسة أو ذاك النمط من التفكير الذي يربط عضويا بين الاستبداد المعاصر وما جرى من أحداث في التاريخ الإسلامي وفي حقبة صدر الإسلام تحديدا؛ وحتى وصلت إلى القناعة المطلقة التي ملخصها عنوان المقال، فقد تعبت كثيرا، وبذلت جهدا أحتسبه عند الله تعالى، ومررت بمراحل مختلفة، وجلبت لي مواقفي سابقا؛ كما ستجلب لي مواقفي الحالية خصومات وعداوات بعض الناس من مختلف المستويات والفئات والمدارس.

لقد كان بعض من يحاورني أو يناقش أفكاري أو يعاتبني ويلومني يسألني عن سبب انغماسي واهتمامي بأحداث ومسائل تفصلنا عنها قرون طويلة؛ وكنت أتبع نهج كثير من مشايعي المدرسة المذكورة أعلاه بأن واقعنا المعاصر وما نحياه من بؤس وما نكابده من استبداد قد بدأ إبان تلك الحقبة، حين لم يكن قد مضى على التحاق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالرفيق الأعلى ثلاثة عقود من الزمن.. وأنه لا سبيل إلى الخلاص إلا بمواجهة ومصارحة ومكاشفة مع ذلك التاريخ واعتبار مخرجاته هي السبب فيما جرى ويجري لنا! أما وقد اتضحت الأمور عندي واكتملت الرؤية لدي؛ والمستندة إلى حقائق ساطعة فقد وجب عليّ توضيحها وهذا جهد المقل.

الحكم في الإسلام

هناك من يغمز من قناة الإسلام أو التشريع بأنه لا يوجد في المصدرين الرئيسين (الكتاب والسنة) تفصيلات كافية أو قاطعة تبين وتشرح كيفية الحكم والإدارة والسياسة.. وهناك من رأى في هذا الطرح فرصة سانحة كي يبرر الاستبداد أو يسوّغ جواز استيراد أي نموذج لحكم المسلمين من وراء البحار. أما طوائف المسلمين وحركاتهم ومجاميعهم وأحزابهم فقد اختلفوا في تفصيلات أو في تفسير أحكام ومنهم من حصر نموذج الحكم وقصره على لون واحد؛ مثل حزب التحرير الذي يرى أن الخلافة هي فقط-وله فيها وعنها مفهوم مفصل- وسيلة الحكم والإدارة في الإسلام.
فيما تمسك السواد الأعظم من الشيعة بفكرة الإمامة، واجترح الخميني فكرة ولاية الفقيه، وظل الجدل والنقاش قائما ومستمرا ومتواصلا والله تعالى أعلم إلام سينتهي. وأنا أرى أن الإسلام حين لم يسهب في وضع تفصيلات محددة وملزمة وصارمة في الحكم والإدارة فإنه بذلك يثبت ما نحاجج به دوما أنه يصلح لكل زمان ومكان، وقد منح مرونة واسعة تتيح الاجتهاد، وتجنب تضييق الواسع.. ومع ذلك فإن الأمر ليس متروكا ترك الحبل الغارب، فثمة محددات وضوابط؛ فمثلا نجد في القرآن الكريم:-

(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)- من الآية 44 من سورة المائدة

(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)- من الآية 45 من سورة المائدة

(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)- من الآية 47 من سورة المائدة

(وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) -الآية 49 من سورة المائدة.

وفي السنة نجد حديث أبي داود وغيره ومنه (...فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ المهديّين الراشدين تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ). ولا يتسع المجال للاستشهاد بآيات وأحاديث أخرى ولكن أشير إلى ضرورة الاهتمام بالوثيقة التي هي فعلا (دستور أمة الإسلام) كما قال حسين مؤنس والتي وضعها النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- بعيد هجرته إلى المدينة، باعتبارها (مادة) كشاف ومنارة لمفهوم الحكم والسياسة في ديننا.

كما أن هناك مسألة (الشورى) التي اختلف المسلمون هل هي (مُعلِمة) أم (مُلزِمة) وتوسع النقاش الذي لا فائدة ترجى منه حاليا حول علاقة الشورى بالديموقراطية الحديثة. وعليه فإن الضوابط موجودة وهي تؤطر وتقولب الحكم الإسلامي، ولا تنفصل عنها بطبيعة الحال التشريعات المختلفة والتي للأسف يقفز بعضهم إليها منبتين عن إطارها وبوتقتها مثل تطبيق القصاص والحدود والتعزير، وهي ما يعرف بقوانين العقوبات في الإسلام. وهؤلاء أساءوا الفهم بتقديمهم الإسلام أو الحكم الإسلامي على أنه مجرد قانون عقوبات وكفى!

دولة حديثة متوحشة

على أية حال هذه النقاشات والسجالات مستمرة في وضع دولي نبدو فيه وكأننا خارج الواقع والزمن.. فهذا النظام الدولي المتوحش نشأ وتمأسس عبر حروب طويلة خاضتها الدول الكبرى خلال قرنين أو يزيد راح ضحيتها مئات الملايين من الناس. ونشأت بعدها أو لنقل استقوت وتمأسست وتغوّلت ما تعرف بالدولة الحديثة؛ وهي بحق أبشع وأقسى ما ابتكره العقل البشري حتى اللحظة.

ولقد انتهجت الدولة الحديثة وهي اختراع أوروبي صرف، مع البلدان والشعوب التي فاتها قطار الصناعة والتقدم العلمي، والمسلمون -يا للحسرة- منها سياسة استعمارية وهذه المرة بأدوات الدولة الحديثة المتوحشة الشمولية؛ أي عدم الاقتصار على الأدوات العسكرية مثلما حصل إبان الحروب الصليبية مثلا؛ فوقتها كان المسلمون هم رواد العلوم والحضارة والتمدن بلا منازع، مع ضعف وترهل الحكم والإدارة في أمصارهم المترامية الأطراف واختلافهم فيما بينهم؛ بل أضافت القوى الاستعمارية إلى قوتها العسكرية الغاشمة الأدوات الثقافية والفكرية والاقتصادية. وحين رحلت الجيوش الاستعمارية -أو الاستحمارية- فإن نماذج الحكم والإدارة التي تركتها خلفها ظلت مصبوغة بل محكومة بأدوات وهياكل الدولة الحديثة، وتخضع لنظام دولي لم يكن لأمة المسلمين في ابتكاره رأي ولا مشورة ولا تأسيس أو مشاركة في بناء حتى الآن.. وأحسب أن هذا أمر لا مراء فيه!

معاوية.. عدالة الصحابة

عدالة الصحابة -رضوان الله عليهم جميعا- أمر مستقر مجمع عليه عند الأمة؛ والأمة هم السنة؛ والعدالة ليست العصمة؛ وحتى لا نغرق في شتات الآراء وتشعبات النقاش، فإن المتفق عليه في منهاج الأمة القويم أن الصحابة لا يكذبون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم من حمل الدين وتولوا نقله إلى من بعدهم إلى أن وصلنا وسنوصله إلى من بعدنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبالتالي فإن الطعن والتشكيك في عدالة الصحابة يعني أن هذا الدين وهو الإسلام الخاتم للرسالات سيصبح محل شكوك ومادة للتجريب والأخذ والرد والعياذ بالله.

فإذا كان الصحابة يخطئون فإن الخطأ لا يقدح بتاتا في عدالتهم ولا يتجاوز ما هو من طبيعة البشر كما في الحديث (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون/رواه الترمذي) ولكن في موضوع الحكم والإدارة فإن الأمر يتجاوز ويتعدى تبعات الخطأ الفردي الشخصي ومحدوديته، لأنه يمس جموع الأمة. وإذا كان المسلمون باستخدامهم التعبير الدارج (الخلفاء الراشدون) فإنهم كما يقول الأستاذ الشيخ بسام جرار يشيرون ضمنا أن من بعدهم ليسوا مثلهم.. بعيدا عن التعبيرات النابية والمغالاة المعروفة التي وصلت حد التجرؤ على الرمي بالكفر!

المحاسبة والمقارنة

وأرى هنا رأيا جازما: يحاسب ويقارن من بعدهم وفق خروجه أو قربه من منهجهم وهديهم اتكاء واستنادا فقط إلى إطار الحكم الإسلامي، ولا ينسحب على الوضع الحالي المختلف من زاوية أنه ثمرة طبيعية لما كان من تبديل بعدهم، وأن جذر ما نتج عن الاستعمار وما تركه من أدوات دولة حديثة مشوهة اكتوت الأمة بنارها دون أن تذوق شيئا يذكر من حلاوتها، هو ما قام به معاوية بتحويل الإمامة إلى ملك كسروي، كما قال الجاحظ، وهو من المعتزلة الموالين للسلطة العباسية التي قامت على أنقاض الأموية.. ومع ذلك فإنه يرى أن دولة بني أمية عربية أعرابية ودولة بني العباس فارسية خراسانية.

فما بال الدولة الحديثة المعاصرة وما شأنها في ذلك وهي غربية أوروبية ذات أدوات استعمارية لا تمت إلى ضروب الحكم في تلك القرون السالفة إلا بالمسمى.. فالدولة الحديثة شمولية بامتياز، وظروفها من حيث التكوين والتأسيس والأدوات والقدرات الرهيبة، وما يتولد أو ما أثمر عنها من ثمار سامة لا تقارن بسابقاتها، ولا يجوز الربط العضوي بين السالف والمعاصر في طبيعة ودور وأدوات الدولة.. وهذا باب واسع ولكن قلّما نجد من صنّف فيه وفق هذا المنهج.. فمدرسة الربط طاغية ومتجذرة في وعي الخاصة بله العامة!

مقارنات لا تصح منهجيا

إن الصحابة -رضوان الله عليهم- طبقات وتتفاوت درجاتهم كما هو معلوم، وإن الحكم أو الإدارة منذ زمنهم حتى إلغاء الخلافة العثمانية، مع أنها كانت صورية في أواخر عصرها، يخضع بالضرورة إلى المقارنة والاحتكام إلى سنة الخلفاء الراشدين (وهم خيرة الصحابة)، ولذا فإن مقارنة حكم بني أمية في المشرق ابتداء بمعاوية وانتهاء (بمروان الحمار) بالراشدين أمر لا شيء فيه؛ بعيدا عن منطق السلفيين والذين بالغوا حد الإسراف في التصدي المحموم لأي نقد يطال الدولة الأموية، بدعوى أن الدفاع عن معاوية هو خط الدفاع الأول عن عموم الصحابة؛ وإذا كانت الحجة/الدعوى من حيث المبدأ صحيحة فإن الحجر على المقارنة خطأ.

يقارن معاوية بالراشدين، وتقارن دولة بني أمية بالعباسيين وهؤلاء بالراشدين من حيث ما كان من اقتداء بسنتهم أو مخالفتها، ومن حيث الالتزام بالأطر والمحددات التي ذكرت وبالطبع، المسألة التي لا تغيب عن الحوار، وهي طريقة انتقال السلطة بالمفهوم المعاصر، ولا ضير بمقارنات شبيهة مع دول وممالك وإمارات أخرى نشأت عبر ذلك التاريخ الطويل مثل دولة الأيوبيين والمماليك بل حتى قبلهم دولة الفاطميين (مع أنها شيعية) وكل أولئك يقارنوا بالسلطنة العثمانية وبالعكس.. وكلها مقارنات حكم وسياسة وإدارة في ظل محددات وظروف موضوعية لا شأن للدولة الحديثة بها، فلا طبيعة الحاكم ولا دولته ولا أدواتها ولا دورها ولا فلسفة حكمها ولا الخاضعين لها، ولا أي شيء يمكن أن يحتكم إلى مظاهر ونماذج الحكم والسياسة والإدارة في القرون الخوالي، وهذا يشبه مقارنة عناصر لا تنتسب إلى ذات المجموعة في الجدول الدوري للعناصر، فقط بدعوى أنها موجودة في الجدول!

وليس هذا وحسب بل نبتعد عن الحقيقة، حينما نركن إلى تفسير واقع معاصر بأنه نتاج غرس زرعه معاوية ومن بعده حتى آلت الأمور إلى ما آلت إليه، وهو في الحقيقة منه براء، ولا أقول هذا فقط مستدعيا فضائله أو مستحضرا صحبته واستحقاقاتها، ومتكلفا الدفاع والتبرير، كلا، ولكن لو قيل إن كل ما أصاب الحكم الإسلامي من أخطاء حتى نهاية السلطنة العثمانية منسوب وجذر شجرته كان صنيعة معاوية، مع أن أقرب مثال وهم أبناء عمومته (العباسيين) لما جاءوا ونبشوا قبره-بغض النظر عن صحة الرواية- وأحدثوا في دمشق مقتلة لم يقيموا حكمهم على غير مبدأ التوريث، فلماذا لم يخالفوا (سنّة معاوية) مثلا؟!.. ولو سلمنا بهذا، فإن مجرد التفكير بمقارنة تلك القرون من حكم معاوية حتى مرحلة الاستعمار الحديث وما تلاه هو تفكير عبثي بامتياز.

الدولة الحديثة جلبها محمد علي إلى مصر، واستحضرها مصطفى كمال في تركيا، واستنسخت في سائر الوحدات السياسية التي حكمت وتحكم الأقطار العربية، ووفق هذا التاريخ والواقع نحكم عليها في الجذر والتأسيس والممارسة والأدوات والمخاطر والتشوّهات، مع وضع طبيعة النظام الدولي المجرم الذي أنشأ إسرائيل كإطار ضابط يتحكم بإيقاعات الحكم والسياسة نصب أعيننا حين نتناول الموضوع، أما أن نقفز بفهلوة تتحرّى ادعاء التفتيش عن (الجذور الحقيقية) فنسهب في الحديث والتصنيف عما كان في عصر معاوية وفق هذا الادعاء الزائف، فهو مما يزيدنا بعدا عن الفهم الصحيح.

تنويه: صخر بن حرب بن أمية هو (أبو سفيان) والد معاوية وقصدت استخدامه في العنوان لأن كثيرا من الناس يعرفون الكنية ويجهلون الاسم.