أين نحن من هؤلاء؟ بقلم:حنان ابراهيم فرج الله
تاريخ النشر : 2019-12-13
أين نحن من هؤلاء؟
بقلم الأستاذة: حنان إبراهيم فرج الله.
الرحيل سُنَّة الحياة يتساوى فيه البشر. ولكن رحيل الكثيرين ممن لا يتركون وراءهم ما يبقيهم أحياء في تاريخ أممهم، ليس كرحيل من سجَّلوا لأمتهم تاريخاً يعيشون في قلبه بحيث يرتبط ذلك التاريخ بحياتهم ومماتهم؛ وميشيل عفلق أحد أولئك الرجال الذين سجلوا للأمة العربية تاريخاً لن يُمحى من ذاكرتها، يحيا فيها ما دامت حيَّة.
لم يكن ميشيل عفلق في تاريخ الأمة العربية جسداً يفنى، بل كان روحاً وفكراً، خطَّ للأمة العربية نهجاً لحياة سرمدية، وهذا ليس حكاية نرجسية تمحوها رياح وأعاصير من الصعاب، بل هي حكاية تظل عبرة لأبناء الأمة التي تتعرض لكل أشكال الصعاب، بل وتظل دليلها ومرشدها.
إن الحركات التي تنشأ في أي مجتمع إما أن تكون سطحية وقوية، أو جدية أصيلة وكلتاهما تتأثران بالزمان والمكان المحيط بهما، فإذا كان المؤثر سلبياً استنفد إمكانياتها واعتبرناها سطحية واستطاعت أن تتأثر بالظروف المحيطة دون أن تتجذر وتحافظ على توجهها، فمن بين هذه الحركات سيكون حديث اليوم عن ميشيل عفلق.
الكثير عرف هذا الرجل لكن من خلال الإعلام_عربيّاً كان أم غربيّاً_والصورة التي يرسمونها عنه هي غالبًا مغايرة للحقيقة، وتفتقر للموضوعيّة، ولذلك كان لزاما أن نكتب عن هذا القائد العروبي المؤسّس لحزب البعث العربي الاشتراكي، هو سوريّ الأصل، وُلد بدمشق في التاسع من (كانون الثاني) سنة 1910م، زاول تعليمه العالي بجامعة السوربون بباريس، ومنها عاد إلى مسقط رأسه دمشق، سنة 1936م، فعُيِّن أستاذ تاريخ بمدرسة التجهيز الشهيرة، إلى جانب ذلك كان مفكّراً، وأديباً؛ حيث نُشِر له العديدُ من الأعمال في الشعر والقصّة.
أسّس ميشيل حزب البعث العربي الاشتراكي، بمعيّة الأستاذ صلاح الدّين البيطار، في السابع من نيسان ( أبريل) 1947م، وتوفي في باريس في 23 جوان (حزيران) عام 1989م.
هذه الحركة انبثقت من رحم العروبة ومشاكل الأمة، أصيلة، صادقة، خاصة وإنها أمةٌ ليست كباقي الأمم، فهي حملت رسالة للعالم، وتلك الثقة بالنفس، والعقيدة الداخلية هي سر قوة البعث العربي .
إن أيديولوجيّة الفكر في حزب البعث كان هدفها هو النضال من أجل بعث الأمّة العربية من جديد، متّحدةً، مزدهرةً، قويّةً، كما كانت في عصرها الذهبي، ويركز على الأمّة، لأنّه كان يعتبر الشعب العربي، من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي واحداً، تاريخيّاً، وجغرافيًّا، وثقافيًّا، وحتّى دينيًّا، بجناحيه الإسلامي والمسيحي، اللّذين_دونهما_لا يستطيع التحليق في فضاء الحريّة، والعدالة الاجتماعية، والازدهار، والتقدّم، وفي هذا السياق رفع حزب البعث شعاره الشهير: "الدّين لله، والوطن للجميع"، إذ لِـكُـلِّ مواطنٍ مُعْـتَـقدُه الذّاتي، يفعل به ما يشاء، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم استناداً للقران: "لكم دينكم ولِيَ دِين"، أمّا الوَطن فهو مَسؤولية الجميع.
وإنّ الذي فتن هذه الأمة، وجزّأها، ورسم حُدودَهُ الخياليّة الاصطناعية هو الاستعمار الغربي، عملاً بمبدأ " فرِّقْ تَـسُدْ !" لذلك لابدّ من مقاومة هذا الاستعمار، وكسر الحدود التي فرضها عليه، وتحقيق حرّية كاملة للوطن العربي، واستنهاض البعث في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكي يحقق البعث أهدافه، أوجز أيديولوجـيّـته في ديالكـتيّة مترابطة ومتكاملة، وحدة، حرّية، اشتراكية":
1- الوحدة: لابدّ من العمل على توحيد الأمّة العربيّة على امتداد وطنها من الخليج إلى المحيط، ومقاومة التجزئة المفروضة عليه، والتخلص من كل القيود والاتفاقيات التي تكبل هذه الأمة وتربطها بالمستعمر.
2- الحرّيّة: طبعاً، دون تحرير الشعب العربي من قبضة الاستعمار لا يمكنه_بأي حال من الأحوال_ تحقيق حرّية حقيقيّة كاملة إلاّ بالتضحيّة والنضال ومكافحة المستعمر، واستئصاله جذرِيًّا ونهائيًّا من الوطن العربي.
3- الاشتراكية: وإذا ما حقّق الشعب العربي هذين الهدفين الأساسِـيَـيْـن، ووحّد صفوفه ضمن نظام اجتماعيّ وسياسيّ موحّد، داخل دولة فيديرالية، تجمع كلّ الأقطار العربيّة، على غرار الولايات المتّحدة الأمريكية مثلاً؛ أعني دولة اتّحادية، ديمقراطيّة، هرميّة، مركزيّة، ذات برلمان قوميّ، منتخب من جُـلِّ الأقطار العربيّة، ومن مهامّ هذه الدولة تسيير الشّؤون العامّة، وتحديد السياسة الخارجيّة، والمالية، والأَمْنِـيّة، إلخ... وتضُمُّ سلطاتٍ جهويّةً تتمتّع بنوع من الاستقلال الذاتي، مهامّها تسيير شؤون مواطنيها الدّاخلية، ولها برلمانها القطري المنتخب ديمقراطيًّا من عموم مواطنيها.
ومن الجدير بالذكر هنا، أنّ حزب البعث، بهذا النظام الفيدرالي، قدّم حلاّ ديمقراطيًّا ومبكّراً للأقلّيات العِـرْقِـيّة؛ فدولة ديمقراطية، تتألّف من سلطات جهويّة ستحترم بدون أدنى شكّ مواطنيها حسب خصوصياتهم وأصولهم الأثنيّة؛ فتكون هناك سلطة جهوية للأكراد مثلا، وأخرى للبربر، وأخرى للأقباط، إلخ... وذلك بشكل ديمقراطي يضمن حقوق الجميع، دون نزاعات، أو حروب، أو سفك دماء.
وهنا لابدّ من إقامة نظام اقتصاديّ شامل متكامل، على مستوى الدولة الاتحادية.
ويعتقد حزب البعث أنّ الوطن العربي، أنعم الله عليه بخيرات زاخرة، وثروات باطنية طبيعية هائلة، لِاستغلالها قوميًّا وإفادة كلّ الجماهير العربية بها، لا بدّ إذن من بناء اقتصاد يتماشى مع الشعب العربي ويناسب عقليته، وطموحاته، وتقاليده، ومعتقداته؛ لذلك رفض الشيوعية الماركسية-اللّينينيّة، روسيّةً كانت أم صينيّةً، دون أن يعاديَـها، بل استغلّ جوانبها الإيجابيّة، ورأى أنّ النظام العادل والمناسب للوطن العربي هو " الاشتراكية العربيّة "، أي نظام اشتراكيّ يتلاءم مع خصوصيات الوطن العربي، ويقوم على توزيع ثرواته بعدالة بين كلّ مواطنيه، على اختلاف طبقاتهم.
والاشتراكية في فكر عفلق ليس زيادة في ثروة المعامل بل في ثروة الحياة، ولا أن يتساوى الناس في توزيع الطعام بقدر ما يتاح لكل فرد إطلاق مواهبه وقواه.
ويبقى أن نقول: إذا نحن نشدنا التغيير فيجب أن تكون النهضة العربية عميقة متينة الأسس، غنية الروح، تقدس الحرية وتطبقها وتؤمن بالإنسان وتحترم حريته واستقلاله وتسطر لحظاتها بتاريخ ناصعٍ مشرف، ويكون دورها في النهضة واضحاً مشرقاً، ووسائل الثورة نبيلة و ألا نصحح السلبية بسلبية مثلها، بل بمزيد من الإخلاص بناء على إيماننا بالحرية وبجدارة الإنسان عامة، والإنسان العربي خاصة، بممارسة هذه الحرية؛ لأن أمة قائدها محمد تستحق دوماً الأفضل، ولأننا نحن العرب لا نعرف إلا الشخصية المجزأة، أما آن لنا أن نعيد للشخصية العربية وحدتها وتمامها ونفيض على الأمم الأخرى علماً وفكراً ونبلغ الشمول الذي نرتضيه لأمتنا وأنفسنا وحصر الجهود لتقوية العرب وإنهاضهم في نطاق القومية العربية؟
وتبقى المشكلة عالقة ما بين الفكر والتطبيق، هل هناك إشكالية في رؤية العقل؟ وهل البِنية القبلية ما زالت تنتصر في الآداء السياسي العربي سواء في البعد الديني أو القبلي أو الطائفي أو المذهبي؟
فنحن لا نريد أن نرجع ذلك دوماً للاستعمار، لماذا لا يشكل الاستعمار عامل تحدٍّ ويعزز إمكانية تحقيق الوحدة؟
وهنا أرى أنه بالإمكان أن يشكل فكر ميشيل عفلق مرتكزاً للانطلاق منه نحو تحقيق الوحدة وتغلب الأمة على ضعفها، وزيادة ثقتها بنفسها، واعتمادها على قواها، وتكون في طليعة الأمم؛ فإذا وثق كل فرد عربي بنفسه فالأمة كلها ستثق بنفسها، وتبرز مواهبها العالية وقواها المبدعة، وتحقق على هذه البقعة من الأرض التي هي بلادنا غايتنا وغاية كل إنسان، الإنسانية الكاملة، وبالتالي نكون في طليعة الأمم وليست في أذيالها، فالتاريخ لا يرحم الضعفاء والجبناء، وأن نحارب كل الحاقدين على العروبة والإسلام؛ ففكر عفلق فكر ينم عن وعي صادق، عروبي، يرتكز على الدين، ولا مخرج للأمة إلا بالعودة للإسلام، وهنا لابد من أداة سليمة للتطبيق.
ولكن للأسف يبقى السؤال مفتوحاً، كيف تخرج الأمة من المأزق الذي تعيشه في ظل حالة من التيه و التخبط والتشرذم والضعف؟!