الحنين الغبي
تاريخ النشر : 2019-12-12
الحنين الغبي


عماد الاصفر

قد يوصف الحنين بالجارف لأنه يجرفنا بعيدا عن الواقع وابعد عن المستقبل، وقد يصير حنينا غبيا حين نطيل الوقوف على عتباته ونوليه وجوهنا، فيما نولي المستقبل الدبر.

الحنين الفلسطيني لا يخرج عن هذا النطاق في الغالب، فمنا من يحن الى الخلافة وينشأ لها حزبا وينظم مسيرات غضب في ذكرى سقوطها، ومنا من يحن الى ايام المسحر ، فيخرج قبيل الفجر ليقرع طبوله، ومنا من يحن الى الانتفاضة الاولى بكل ادواتها.

المشكلة ليست في الحنين طبعا، ولا في ما نحن اليه من عهود الماضي السحيق او القريب، المشكلة في كيفية تعبيرنا عن هذا الحنين، وفي تآمرنا لتقديسه، واقناع انفسنا بان أي محاولة لتحديثه هي مؤامرة عليه.

كيف يمكن اقناع حزب التحرير مثلا بتغيير شعار فتح روما، وكيف يمكن اقناع المسحر الحداثوي ان الناس إما لم تنم بعد، او استعانت بوسائل اخرى لضمان صحوتها عند السحور، وكيف يمكن اقناع من يحنون الى الانتفاضة الاولى بان اغلاق الطرق بالاطارات المشتعلة وفرض الاضراب التجاري لن ينفع الاسرى، وكيف يمكن اقناع روضة الهدى الاسلامية ان المشهد التمثيلي لأطفال بعمر الزهور يطلقون الهاون ويفجرون الدبابات ويخطفون الجنود، مشهد لا يخدم قضيتنا.

واذا ما اقنعنا معلمات الروضة فكيف سنقنع الامراء ان الصواريخ هي ذاتها مهما تدحرجت تسمياتها من صواريخ نصر الى عبثية فلا وطنية ثم عميلة، وكيف يمكن اقناع القيادة ان التنسيق اذا كان مقدسا فلا يجب المس به، واذا كان فيه مصلحة لشعبنا فانه لا يجوز ايضا الايعاز بقطعه.

كيف يمكن اقناع الناس بان حنينهم للرواتب والرتب والمعبر والميناء والمطار والكهرباء مرتبط باوهام اوسلو وليس بمآثر المقاومة، وان عدد ونوعية العمليات والمواجهات مع الاحتلال بعد اوسلو اكثر واشد ايلاما من تلك التي سبقته. ولكنها بالمحصلة ابعدتنا عن هدفنا بدلا من ان تقربنا اليه، بدليل الجدار الذي آلت اليه الانتفاضة الثانية والطوابير على صحن العدس بعد 3 حروب.

كيف يمكن اقناع الناس وقادتهم ان تفاهمات حرب 2014 وقبلها تفاهمات حرب 2012 لا تصل الى كعب حذاء اوسلو، واذا ما اقنعناهم كيف يمكن اقناع قيادتهم بعدم السعي لتفاهمات جديدة في 2018.

الحنين كما يقول محمود درويش:
الحنين استرجاع للفصل الأجمل
في الحكاية
الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة
هكذا يولد الحنين من كل حادئة جميلة
ولا يولد من جرح
فليس الحنين ذكرى
بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة
الحنين انتقائي كبستاني ماهر
وهو تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب
وللحنين أعراض جانبية منها
إدمان الخيال النظر الى الوراء
والحرج من رفع الكلفة مع الممكن
والإفراط في تحويل الحاضر الى ماض

مشكلتنا الاخرى ان من يتخلصون من هذا الحنين يصبحون لا مبالين اطلاقا باي شيء، فمثلا يستقبلون انضمام فلسطين للمنظمات الدولية بسيل من النكات التي لا تضحك، فيما تستقبله اسرائيل بتحضير الملفات وتدقيق المعلومات وتفنيد الروايات واقرار القوانين التي تمنع تصوير جنودها.

نريد الحنين ونحتاجه، لا نريده انتقائيا، نحتاجه غير مصفى من الشوائب، ونريد ونحتاج ان نرفع -ودون أي حرج- الكلفة مع الممكن. نريد نقطة مرجعية نعود اليها بالحنين، نقطة ليست بعيدة كما الخلافة، وليست قريبة كما اوسلو ، نريد حنينا ذكيا يقود الى تكريس اسم فلسطين وتجسيده معنويا وسياسيا ثم ماديا، بإثبات الجدارة وبالتفوق فيما هو متاح ودون ادمان في النظر الى الماضي الذي صفيناه من الشوائب.