لا تصنعــــوا مِن الأقـــزام أصناما بقلم:محمد عبد الشافي القُوصِــي
تاريخ النشر : 2019-12-12
لا تصنعــــوا مِن الأقـــزام أصناما
محمَّــد عبد الشافي القُوصِــي؛

     كثير من الناس باتوا في وجلٍ وخوفٍ وفزع؛ بسبب ما شهدته الحقبة الأخيرة من المِحن والفتن التي يأخذ بعضها برقاب بعض ... والتي تجلَّتْ في ظهور وجوه مريبة، ذات لكنات وسحنات مريبة، مدفوعةٍ من جهات مريبة، تحمل شهادات مريبة، وتتحدث بلهجات مريبة، في موضوعات مريبة، عبر برامج مريبة، بفضائيات مريبة، تابعة لشخصيات مريبة، تُموِّلها جهات مريبة، لأداء أدوار مريبة، لحساب جهات مريبة، في عصر مريب، امتداداً لمرحلة تاريخية مريبة، مرتْ بأطوار مريبة، حملتْ شعارات مريبة، وقوانين مريبة، ومشروعات مريبة؛ خلقتْ أوضاعاً مريبة، جرَّاء أيديولوجيات مريبة، وفلسفات مريبة، نشأتْ عنها أحزاب مريبة، ومؤسسات مريبة، وكيانات مريبة، وكونفدراليات مريبة، ومليشيات وجيوش مريبة، وامبراطوريات مريبة .. أوشكت على السقوط والهلاك ... وويلٌ للمكذِّبين!

   لكن الحكماء والبلغاء والنجباء والأوفياء؛ الذين يعقلون، ويتفكرون، ويتذكَّرون، ويتدبرون، ويوقنون، الراسخين في العلم، والعالِمين ببواطن الأمور، من أولي الألباب، وأُولي النهى، وأهل الحل والعقد؛ الذين أنعم الله عليهم، واجتباهم وهداهم، وكشف لهم الحُجُب، ورضيَ عنهم، ورضوا عنه؛ لمْ يهتزوا، ولمْ يضعفوا، ولمْ يرتابوا، ولمْ يتشكّكوا كغيرهم ... بلْ علموا، وتأكدوا، وتبيَّنوا، وتثبتوا، وأيقنوا، وآمنوا إيماناً راسخاً؛ بأنَّ هؤلاء القوم؛ المعروفون بسيمامهم، والمعروفون في لحْن القول، المعروفة أسماؤهم، والمعروفة نواياهم، والمعروفة صحائفهم وفضائياتهم، والمعروفة توجهاتهم وأهدافهم، والمعروفة مشاربهم وقِبلتهم وشياطينهم، والمعروفة أرباحهم وحساباتهم ... والمكشوفة أعراضهم، والملعونة سِيرتهم، والمريضة قلوبهم، والميئوس من شفائهم ... أحفاد الذين آووا إلى الجبل ولم يركبوا السفينة، ونسْل الذين عقروا الناقة، وقادة فيل أبرهة، ومؤخرة بني قريظة، وبقايا جيش مسيْلمة، ومخلَّفات الحروب الصليبية، وتلامذة المعلِّم يعقوب اللعين، وخلفاء بونابرت واللورد كرومر، ووصية بوش وبرايمر ورايس، وشامير ورابين، وإخوانهم من الرضاعة!

*   *   *

  لا جَرَمَ أنَّ هذه العقول المستأجرة، والأدمغة المستعمرة، والألسنة المتهدِّلة، والوجوه المكفهرَّة، والنواصي الكاذبة الخاطئة؛ هي ذات العقول، والألسنة، والأدمغة، والوجوه، والنواصي الملعونة؛ التي واجهناها، وهزمناها، وضربناها بالنِّعال في كتابيْن شهيريْن، هما: "سقوط الحداثة"، و"الصفحات السود لمدرسة التغريب والحداثة والتنوير"!

   ربما اختلفتْ الأسماء والألقاب واللهجات والسحنات؛ بحكم تغيُّر المناخ، وعوامل التعرية، وقوانين الجاذبية ... لكن لمْ تختلف القنوات الداعمة، ولا الجهات الممولة، ولمْ تختلف العقول ولا القلوب، ولمْ تختلف الموضوعات ولا القضايا التي تلوكها ألسنتهم!

  نعم! هي ذات المصادر الآسنة، والموضوعات البالية، والأفكار الحامضة، التي أفرزتها جهات معينة، بالاشتراك مع هيئات معينة، عبر وساطات معينة، مقابل رشاوى معينة، ومناصب معينة، وترقيات معينة، وجوائز معينة، تُمنح لأسماء معينة، في مناسبات معينة، بإشراف مؤسسات معينة، وفي حضور شخصيات معينة، وسط احتفالات صاخبة ... وويلٌ للمكذِّبين!

*   *   *

  لا نُنكِر أنَّ "الغرب" نجح بامتياز في صناعة هذه العمالة الفكرية؛ لتخدم أطماعه وتُحقِّق أهدافه، فيما فشل في تحقيقه عن طريق الحروب والمواجهات العسكرية عبر مئات السنين، وذلك بفضل "الطابور الخامس" الذين صار ولاؤهم للغرب أكثر من ولائهم لأوطانهم ومجتمعاتهم التي لمْ تألُ جهداً في تعليمهم؛ أملاً في الإصلاح والنهضة!

 إنهم قباقيب الغرب، وربائب الاستعمار، وثمرة الاستشراق؛ الذين عربدوا في ميادين الفكر والثقافة والأدب، وأُنشئتْ من أجلهم المعاهد ومراكز الأبحاث، وأُسنِدتْ إليهم الصحف، والفضائيات؛ لكيْ يبثوا سمومهم .. حتى رأينا منهم من يطالب بإزاحة اللغة العربية من الوجود طلباً للنهضة التي ينشدها، ومنهم من دعا إلى التخلص من التراث لتحقيق الحداثة والتنوير، ومنهم من تجرأ على المقدسات بحجَّة التنوير، ومنهم من تهكَّم من الصحابة والتابعين بحجَّة أنهم بشر! وغير ذلك من الوقائع المخزية، والمشاهد الفاضحة التي يمارسها عبيد الحضارة الغربية؛ الذين يُوسمون في كثير من الأحيان بـ"المثقفين" و"المفكِّرين" حيث يكبرون ويُكبَّرون بالترويج لهم في وسائل الإعلام، وإتاحة الفرصة أمامهم، وتسليط الأضواء عليهم؛ ليؤدوا "دورهم المرسوم" في هزّ الثوابت، وتوهين القِيَم، والنيْل من المسالك والأخلاق، والتقاليد، وحتى العقائد الثابتة في الكتاب والسُنَّة، كالنبوة والغيب والآخِرة، ومحاولة عزلها عن حياة الناس، وممارسة هدم الذات وجلدها، باسم النقد والتنظير!

  معتمدين على أخطاء بعينها، وكُتب بعينها، وفتاوى بعينها، لجماعات بعينها، نشأتْ في بيئات بعينها، تبنَّتها أنظمةٌ بعينها؛ لأهداف بعينها، في حِقبة بعينها، لأداء أدوار بعينها ... ثمَّ يريدون أنْ يلصقوا أخطاءها بالإسلام ذاته، وتعميم جرائرها على أُمَّةٍ بأكملها!

*   *   *

 لقد نجح "الغربُ" بامتياز في استئجار عقول هؤلاء "الأعراب" وضمائرهم في عصر استئجار العقول والأرحام، مِمَّن قبلوا هذا الدور الرخيص؛ الذي امتعضَ منه كثير من الغربيين الشرفاء، فسعوا إلى تكوين جبهة علمانية لا دينية، مستعدَّة لبيع كل القِيَم والأخلاقيات ومبادئ الموضوعية والعقل، وبالتالي تكون أجرأ على سبّ الإسلام وهزّ ثوابته، وتشويه رموزه ودعاته، وطمس معالمه، والدعوة إلى ترويج الشائعات والمغالطات، باسم حرية الفكر والإبداع، والتجرؤ على "النصوص" والسخرية منها بحجَّة "تأليه" العقل البشرى، واستبدال العقل بالنقل، ثم إزالة كل الثوابت، لفتح باب حرية الرأي، وحرية الفكر... وحرية الكفر... وحرية الارتداد!

فهذا علجٌ من علوجهم –وهو طبيب فاشل، وصديق حميم للصحفي صاحب الحمَّالات- وقد نَصَّبَوا أنفسهم مفكّرين ومُحدِّثين وفقهاء- يملأون الصحف والفضائيات ضجيجاً وسخريةً من الشعائر الدينية، وتهكّماً من النصوص الدينية! معاركهم كلها تدور حول "الحجاب والنقاب والختان ... يبدو أنَّهم مولودون دورات المياه!  فلمْ نسمعههم يوماً يتحدثون عن الإبادة الجماعية لمسلمي الروهينجا، أوْ عن قضية فلسطين التي أرّقتْ الضمير العالمي، أوْ عن القدس التي تباع في مزاد عالمي، أوْ عن جرائر الأنظمة العربية المستبدة، أوْ غير ذلك!

 وهذا علجٌ آخَر من علوجهم، يكشف عما يجيش بصدره، فيقول: "إن القرآن نفسه إبداع، وكذلك السنَّة.. والإبداع القرآني والنبوي أوصدا الطريق أمام الإبداع الأدبي، وأوقعا الخوف في روع الأدباء.

وينتهي -هذا الأعرابي في آخر كلامه- قائلاً: "إن العرب لنْ يبدعوا إلاَّ إذا حرروا أفكارهم من التقيّد بالدِّين، والنظم السائدة في المجتمع، سواء أكانت اجتماعية أو وطنية أو قومية..".

ويقول عِلْجٌ آخر: "عندما كان طه حسين وعلى عبد الرازق يخوضان معركة -زعزعة النموذج (يعنى الإسلام) بإسقاط صفة الأصالة فيه، وردِّه إلى الموروث التاريخي، فيؤكدان أن الإنسان يملك موروثه، ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر فيما اكتسب صفة القداسة ]القرآن والحديث[ وحق نزع الأسطورة عن المقدس، وحق طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة"!

ويقول أحدهم -بوقاحة شديدة-: "يجب أن نخلع جبَّة الأصول، وقلنسوة الوعظ، لنترك حرية مساءلة النص، ونقض الماضي وتجاربه، ولنترك لأنفسنا فسحة، وما نقترحه من أسئلة".

وهذا الكلام (الماضي والتراث، وسلطان التاريخ، والقداسة) وما شابه هذه الكلمات التي لا يقصدون منها سوى الإسلام وما يتصل به من فكر وأدب، وقيم وسلوك وتراث.

 لقد منحوا أنفسهم حق نزع صفة القداسة عن المقدس (الإسلام) ومارسوا حق تصرف الوارث في إرثه، فأخضعوا الإسلام للنقض والأخذ والرد، وأعطوا أنفسهم حق مناقشته وتأويله!

أخيـــــــراً؛ لا نريد أن ينشغل الناسُ بمثل هؤلاء الأدعياء، وهؤلاء الأقزام، بلْ ندعو إلى تجاهلهم؛ حتى تأكلهم الكلاب الضالة، أوْ تهوي بهم الريح في مكان سحيق .. وحتى لا نصنع منهم أصناماً .. فإنَّهم لَمْ، ولنْ يفلحوا أبداً. و]قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ[.