الجو الإيماني في المؤسسات التعليمية الإسلامية بين الأمس واليوم بقلم: د.عبد الوهاب القرش
تاريخ النشر : 2019-12-10
الجو الإيماني في المؤسسات التعليمية الإسلامية بين الأمس واليوم بقلم: د.عبد الوهاب القرش


الجو الإيماني في المؤسسات التعليمية الإسلامية بين الأمس واليوم

" إن السيف لم يفتح المصريين ، بل القرآن هو الذي فتح قلوبهم "..

السير آرثر كيث (1866-1955م)

القرآن الكريم ليس كلاماً يتلى ولكنه دستور شامل كما أنه دستور للحياة العلمية وقد تضمن بصفة خاصة تجارب الدعوة الإيمانية من لدن آدم وقدمها زاداً للأمة المسلمة في جميع أجيالها وتجاربها في الأنفس وتجاربها في واقع الحياة.. وبهذه القوة الفكرية فتحت قلوب كل الشعوب الإسلامية الأخرى التي تعيش فيما نطلق عليه " العالم الإسلامي " في آسيا وأفريقيا..فكيف حدث أن هذه الشعوب نبذت أديانها القديمة ، بل و لغاتها المحلية في كثير من الأحيان ، ودخلت دائرة الأخوة الإسلامية؟!

لعل الإجابة على هذا السؤال هو أن المؤسسات التعليمية الإسلامية التي أنشأها المسلمون عقب فتح هذه البلاد الجديدة هي التي قامت بالدور الأكبر في استقطاب عقول هذه الشعوب..وكانت هذه المؤسسات التعليمية تدرس القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة واللغة العربية. وكان المتخرجون من هذه المؤسسات التعليمية يعودون إلى بلادهم فيؤسسون هناك مدارس جديدة على غرار المدارس التي درسوا بها .

الحق نقول: إن العمل الدعوي من خلال المؤسسات التعليمية الإسلامية الأولى هو الذي أحدث ذلك التغيير الكبير في الخريطة الدينية والحضارية واللغوية لجزء كبير من العالم خلال قرن من الزمان.

وكانت المؤسسات التعليمية في القرون الأولى تحدث هذا التغيير عبر التركيز على تدريس القرآن الكريم معجزة  الله الدائمة .. فهو حلقة الاتصال بين الرب وعبده في هذا العالم . إنه يلهب القلوب ويُحيىِ المشاعر . إن مضامينه العليا وأدابه السماوية يجبران كل من يقرأه بتدبر على قبول صدقه.

و سُنة النبي الكريم وصحابته الغر الميامين كانت من أهم مناهج تلك المؤسسات التعليمية ..لما في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم – و صحابته - رضي الله عنهم أجمعين –من الوقائع المدهشة في تاريخ الإنسانية .. وهذه الوقائع تتمتع بخاصية قصوى لإحداث التغيير في حياة الإنسان ..

كما كانت تلك المؤسسات تعلم الدارسين اللغة العربية بأسلوب بسيط ثم تتركهم ينهلون من منابع القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، خزائن الإيمان و حرارة القلوب ..فكان العلم الديني لدى المتخرجين في هذه المؤسسات التعليمية الإسلامية بمثابة صحبة النبي الكريم وصحابته الكرام..فكان كتاب الله يوقظ فيهم فطرتهم ، و كانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم و حياة أصحابه الكرام تدفعهم نحو العمل والانطلاق لنشر دين الله..وهكذا كان يظهر إلى الوجود جيش من العلماء الربانيين لا يعرف سوى العيش لله والموت لله.

أما اليوم فلدينا من المدارس والمعاهد الدينية والجامعات الإسلامية ما هو أكثر من أي وقت مضى على هذد الأمة ..ولكن هذه المؤسسات التعليمية الإسلامية عقمت عن تخريج أمثال الذين كانوا يتخرجون في المؤسسات التعليمية الإسلامية الأولى من تاريخنا..فما هو السبب في هذا التراجع؟!!

الحق أقول:أن السبب في هذا هو أن هيكل مؤسساتنا التعليمية الإسلامية اليوم يختلف عن المؤسسات التعليمية الإسلامية في عصر الصحابة والتابعين ومن تبعهم من العلماء المسلمين..فمؤسساتنا التعليمية اليوم حولت تعليم الدين إلى فن تعليمي بينما بينما نزل القرآن الكريم ليبعث الروعة والخوف في قلوب سامعيه وقارئيه ، ولكي تتزلزل قلوبهم من خشية الله..ولكن مؤسساتنا التعليمية اليوم تدرس القرآن كجزء هامشي من مناهجها ..أما سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم ووقائع حياة صحابته الكرام ، التي هي بمثابة حياة دافقة ونموذج أعلى للتغيير الأكمل في تاريخ الإنسانية، فلا تجد مكانًا في مناهج مؤسساتنا التعليمية ..أما الأحاديث والآثار فلا تدرس في مؤسساتنا التعليمية إلا لكي تكون عنوانًا للخوض في مناقشات غير متناهية حول جزئيات فقهية اخترعناها..أما " العلوم الدينية" التي تدرسها المؤسسات التعليمية اليوم ، فهي لا تفعل شيئًا سوى ترسيخ الجمود في العقول وتعويدها على المماحكة التي لا طائل من ورائها.. وكيف يمكن ، والحالة هذه ، أن يتزود طلبتها بزاد الحرارة الإيمانية ، وأن يصاغ بها الرجال ذوو الخلق الإنساني الرفيع؟!..ومتى لهذا المؤسسات التعليمية الإسلامية أن تخرج العلماء الذي يعيشون لله وللآخرة ، وأنى لها أن يتفجر منها الطوفان الذي تدفق من بين جدران المؤسسات التعليمية الإسلامية في العصور الأولى فساد العالم نورًا وهداية.

ولكي نفهم الدور المطلوب من المؤسسات التعليمية الإسلامية اليوم من هذا المثال..لو تخيلنا أن مجموعة من الزائرين يتجلون داخل حديقة حيوانات ، وإذا بها تفاجأ بإدارة الحديقة تعلن أن أسدًا من الأسود قد أفلت من قفصه الحديدي, وسيعني هذا الإعلان شيئًا واحدًا لكل زوار الحديقة وهو أن يهربوا بأقصى سرعة للنجاة من الأسد الهارب..وسيتحول العلم بإفلات الأسد من قفصه والخوف منه شيئين مترادفين..ومثل هذا الإدراك والسعي للهروب وإنقاذ الآخرين من الهلاك هو المطلوب من التعليم الديني..فغاية التعليم الديني هو تعريف العبد بربه وتربية الشعور الإنساني لإدراك خالقه وبارئه لكي يقيم الإنسان العلاقة الصحيحة بربه. ولو توقد هذا الإدراك في عبد من العباد فسنجد أن واقعة هروب الزوار من حديقة الحيوانات ستقع في حياته بشدة أكبر لإنقاذ الناس من خزي الدنيا وعذاب الآخرة..فخالق الأسد أقوى من الأسد..ويمكننا أن نقتل الأسد أو نلوذ ببيت للوقاية منه ، ولكن لا سبيل للإفلات من قبضة رب العالمين..وهذا هو السبب في جوًا عامرًا بالتعليم الديني الحقيقي سيكون هو جو الخوف من الله...إن معرفة الله والخوف منه سيصبحان شيئين مترادفين..

والحق نقول:إن مؤسسات تعليمية خالية من جو الخوف من الله لن تكون مؤسسات تعليمية إسلامية بأي حال من الأحوال يقول الله جل في علاه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(فاطر:28)..ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أعلمكم بالله أشدكم له خشية "..وقال بن مسعود:"ليس العلم بكثرة الرواية ، إنما العلم خشية الله " وقال مجاهد:ط الفقيه من خاف الله " ، وقال عطاء:" من خشى الله فهو عالم " ..أما  الحسن البصري فقال :" العالم من خشي الرحمن بالغيب".

ولو أردنا أن ننزل المؤسسات التعليمية الإسلامية المعاصرة بهذا المعيار فسنجد أنها تخلو من هذه الكيفية..فما هو السبب؟!

يرجع السبب في هذا هو أن تلك المؤسسات التعليمية لم تؤسس على خشية الله وتقواه ، بل أسست لتعليم بعض الفنون والعلوم..وبالتالي فهي تخرج علماء من هذه الفنون..وهي قد لا تكون فاشلة في تحقيق أهدافها التأسيسية..أما فيما يتعلق بتدريس علم الدين الحقيقي فهي فاشلة دونما شك..وقد روي عن الإمام مالك قوله :" لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " ..وهذا القول ينطبق على العصر الحاضر تمامًا كما كان انطبق على العصور السالفة..فالبعث الذي وقع في أجيال الإسلام الأولى كان أساسه القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم..ويمكن إحداث هذا البعث في حياة المسلمين باستخدام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة..وأكثر الوسائل عملية اليوم هو أن نؤسس مؤسسات تعليمية إسلامية على طراز المؤسسات التعليمية الإسلامية الأولى التي كان أساس مناهجها التعليمية قائمًا على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بدلاً من الفنون والعلوم التي استحدثت فيما بعد.

إن الأمة الإسلامية اليوم في أشد الحاجة لأن تقيم مؤسسات تعليمية إسلامية على الطراز المنهجي القديم..وعلى المؤسسات التعليمية إسلامية أساتذةً وطلابًا ومسؤولين أن يكونوا في مستوى سلفهم الصالح في المعنويّات والسلوكيات والعلاقة مع الله، وحياة الإنابة والتقوى..وأخيرًا وقبل كل شيء في الشعور القويّ الدائم بمنصبهم ومكانتهم ومسؤوليتهم ممّا يدفع عجلتهم إلى الأمام، ويُسعدهم في الدنيا والآخرة، ويعيد إلى المؤسسات التعليمية الإسلامية خيريّتها الأولى.

د.عبدالوهاب القرش
باحث في العلوم الإسلامية

 المصادر والمراجع:

القرآن الكريم

-       النسفي: مدارك التنزيل وحقائق التأويل، دار الكلم الطيب،ط1، بيروت: 1419هـ - 1998م.

-       ابن عبدالبر:جامع بيان العلم وفضله، دار ابن الجوزي،ط1، المملكة العربية السعودية: 1414هـ - 1994م

-       Sir Arthur Keith,A new theory of human evolution.london,Watts&Co.,1950,p303.