هذه ثورة شعب أغرقه الفساد فما عاد يخشى البلل بقلم:إنعام كجه جي
تاريخ النشر : 2019-12-09
أثناء الانتفاضة الشهيرة للطلبة في فرنسا عام 1968، جرى لقاء في مصنع رينو للسيارات في ضاحية باريس بين عدد من المنتفضين وبين العمال. وبعد الاستماع لوجهة نظر الطلبة، نصحهم مسؤول نقابي قائلاً: «كونوا واقعيين ولا تطلبوا المستحيل». وكان بين الحاضرين طالب صار فيما بعد مصوراً ومخرجاً معروفاً، هو جان ماسكولو، نجل الروائية مرغريت دوراس. وفي شهادة له نُشرت بمناسبة مرور خمسون عاماً على تلك الانتفاضة، يروي أنهم خرجوا من الاجتماع غاضبين وعادوا إلى رفاقهم المعتصمين في الجامعة. كانت لديهم لفافات من القماش ومواد طباعة وعليهم عمل لافتات بعبارات غير تقليدية. وبدون كثير تفكير، بعد ظهيرة اليوم ذاته، ولد الشعار ابن لحظته: «كن واقعياً واطلب المستحيل».

قالها أحمد شوقي من قبل وأنشدتها أم كلثوم: «وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا». والمنتفضون في العراق منذ شهرين وتسعة أيام يريدون وطناً. فهل تؤخذ الأوطان بالأغاني وبالرسوم وبالصدور المكشوفة التي لا تحميها قوة على الأرض؟ مثل كل الانتفاضات التي تفجرت في بلادنا العربية، تطورت الحركة على مراحل. يركب الشباب حماستهم ويبذلون دماءهم بينما تتمسك السلطة بالخطابات والوعود ومحاولات الترقيع. لكن الرقعة صغيرة والشق كبير. ومع تدفق نهر الدم لا يبقى هناك من يُصدّق حكاية «المندسين» و«الفوضويين» و«الطرف الثالث». تسقط أنظمة وينخلع حكّام وتتبدل دساتير. هذه ثورة شعب أغرقه الفساد فما عاد يخشى البلل.

نعم، يُبدع الشباب والبنات في الهتاف والأهازيج واللوحات الجدارية. ينيرون نصب الحرية وينظفون حديقة الأمة. يكنسون ساحة التحرير والنفق ويمسحون السخام عن وجه شارع الرشيد. يدركون أهمية التوثيق لتلك اللحظة التاريخية ويشهرون هواتفهم لتسجيل الحدث بالصوت والصورة. تظهر عشرات الأغاني الثورية على مواقع التواصل. يرفعون التوك توك شعاراً وينظمون فيه القصائد ويصوغونه قلائد وأقراطاً من الفضة. يقترحون علماً ونشيداً وطنياً جديدين. يخاطبون العالم بعدة لغات على أمل أن يفهم ويتحرك. هل القتيل في هونغ كونغ أهم من مئات الشهداء في بغداد والناصرية والنجف؟

لكن هذه ليست سوى الواجهات الخارجية. بل إن أدبيات المنتفضين لم تأتِ بجديد حين كشفت عورات الطبقة المتنفذة في البلد. فهؤلاء قد غسلوا وجوههم بماء المجاري وما عادوا يستحون. أما قلب الثورة الحقيقي فهو أنها تجرأت على من كانوا يمسكون بالفرد من أخطر عصب فيه: إيمانه. أولئك الذين أوصلوا العراقيين إلى حد الهتاف: «باسم الدين باكونا الحرامية». أي سرقونا ونهبوا ثروة البلد وفككوه وباعوه وأجلسونا على «الرنكات»، أي على الحديدة. ما عاد لوعاظ السلاطين أن يموهوا ما بين الموعظة الحسنة والفعل القبيح.

هل يطلب ثوار العراق المستحيل أم نصيبهم الواقعي؟ في بلد نفطي ثري لا تكون الحقوق الأساسية للمواطنين ترفاً ولا منّة. ولا يكون تنظيف الفساد من رابع المستحيلات، بعد الغول والعنقاء والخل الوفي. لقد تغوّل الفاسدون وبات من الطبيعي جداً أن يساقوا للقضاء ويسلموا مفاتيح ما اكتنزوا ويعودوا من حيث أتت بهم العاصفة.