ذاكرة ضيقة على الفرح 23
تاريخ النشر : 2019-12-09
ذاكرة ضيقة على الفرح 23


سليم النفار 


الشارع الذي يقسم المدينة الى قسمين ، كان يُسمى قديماً " بغداد " ولكن بعد الحركة التصحيحية التي شهدتها سويا في الثامن من آذار من العام 1963 ، سُميَ الشارع باسم الثامن من آذار ، ولكن كان البعض من سكان المدينة يحلو لهم تسميته بشارع العشاق .

هناك في شارع بغداد العريض ، الذي يقسم اللاذقية الى شطرين : اللاذقية الفوقا اذا جازت تسميتي ، حيث الأسواق والمحال المختلفة والأحياء السكنية ، واللاذقية التحتا حيث الأحياء السكنية الأرستقراطية ، والمقاهي العصرية ودور السينما ، بخلاف أنها الشرفة المُطلة على البحر ، حيث المرفأ البحري ومتنزه البطرني والمطاعم الفاخرة ، على كتف ذلك الشارع كان يربض مقهى الأوديسا الثقافي ، الذي كان دائماً عامراً بلقاء المثقفين ، يستمعون الى بعضهم البعض ويتحاورون فيما يستجد من أمورهم ، هناك على ناصية الشارع الذي يضجُّ بالحياة ، وكأن عوليس الأوديسا يواصل رحلة البحث عن الوطن والحبيبة ، غير أن رواد الأوديسا في اللاذقية كانوا يواصلون رحلة البحث ، عن الوطن داخل الوطن ، عن معنى الحرية في أوطانٍ تأكلُ شمس أبنائها !

 هناك تعرفتُ على شعراء كبار كانوا يأتون من دمشق وحمص وحلب ، في مهرجان نيسان للأدباء المكرسين و الذي كان يُعقد سنوياً من قِبل اتحاد الكتاب العرب ، وذلك بعد مهرجان آذار الخاص بالأدباء الشباب : خالد أبو خالد ويوسف طافش وعلي الجندي و علي كنعان و ممدوح عدوان ، وحسن حميد وعصام ترشحاني وآخرون ، يرسمون بالكلام سلالم الحلم ، الى الغد المُشتهى .

بعضٌ من هؤلاء كانت لقاءاتنا فيهم موسمية ، لا أعرف اذا ما زالوا يتذكروننا ، غير أن البعض الآخر توطدت فيما بيننا وبينهم علاقات صداقة ، ومازلنا نتواصل على ذات الأمل الذي نحاول ، ضخَّهُ في عروقِ الهواء ، مهما اتسعت دائرة السواد .

ذات يومٍ كنتُ هناك أنا وصديقي : محمد وحيد علي الشاعر الجميل ، صاحب ديوان – فرس في برية الليل – وكنت بصدد حوار معه لصالح صحيفة الاسبوع الادبي ، كما كنت قد اتفقت في هذا الموضوع مع الصديق الاستاذ : حسن حميد .

كان ابن مدينة " حارم " الذي يكبرني بثمانيةِ سنوات ، صاحب تجربة في التثقيف الذاتي ، فهو لم يتحصّل على شهاداتٍ عليا غير البكالوريا .

 كان هادئاً وديعاً ، رقيقاً في جملته القصيرة ، التي تلسعكَ بدون استئذان بإنسانيتها الطافحة ، فهو لا يغضب ، ولكن جملته وتقاطيع وجهه اثناء الحوار معه ، تدلكَ على جمرٍ يتقلبُ في دواخلهِ ، فيحمل القول الهادئ نسائمه اللاسعةَ .


كان حواراً شيقاً حول التجربة الشخصية ، وحول أسئلة الواقع الثقافي المختلفة ، وربما الحداثة وما تثيره من أسئلة ، كانت حاضرةً بقوة في الحوار ، الى جانب الحديث عن القصيدة وأدواته في صوغ لحظتها ، وأرقها وايقاعها ، تلك المقابلة التي أخذت حيزاً واسعاً بعد 

اسبوع من اللقاء ، في صحيفة الأسبوع الأدبي ، خلقت أجواء أعلى من الحميمية بيني وبين الشاعر محمد وحيد ، وكثيراً ما كنا نلتقي في الأوديسا ، أو نتمشى في شارع " ابراهيم  هنانو" في اللاذقية الفوقا ، حيث تأخذنا الخطى الى ساحة " الشيخ ضاهر العمر " فنركن قليلاً في مقهى الحكيم الشعبي ، نحتسي القهوة مُنصتين الى تفاصيل الحياة في ذلك المقهى ، الذي كان رواده من المتقاعدين و كبار السن ، الذين يزجّون وقتهم بلعب الورق أو النرد ، وأثناء لعبهم تسمع أحاديثهم المختلفة وآرائهم في الحياة بكل أشكالها .

ساحة الشيخ ضاهر العمر ، وسط المدينة حيث النوافير ، التي على جوانبها المطاعم الشعبية والمقاهي ، ومواقف السيارات التكسي المُتجهة الى المحافظات ، هناك ضجيج الحياة الجميل الذي يعمل في كل الاتجاهات ، من المقاهي نرقب تلك الصور المختلفة .

وسط ذلك الضجيج كنّا نتحدث في كلّ شيء ما عدا السياسة التي تمس النظام ، لأن الإحساس بالخوف من عواقب الامور ، مرتفع في تلك البلاد ، وتلك الامكنة المفتوحة ، المخيم وحده الذي كان يشكل حاضنة آمنة ، للحوار فيما بيننا وبين الاشقاء السوريين ، حيث السهرات الجميلة في بيوت الاصدقاء ، تلك السهرات التي تجمع القوميين والشيوعيين ، والبعثيين المحترمين الصادقين ، الغيورين على مصلحة الامة .

على الرغم من كل تلك التوجسات ، التي كانت تحيق بنا ، لكنني الان أستذكر ذلك الواقع ، وأنا بعيدٌ عن أي تأثيرات ، فأرى فيه اللوحة الجميلة ، وأنظر بدهشةٍ الى جرأتنا التي كنا نمارسها في التعبير عن رأينا ، في تلك الجلسات الخاصة ، و تلك اللقاءات في المقاهي الثقافية ومقهى الجامعة الكبير ، ذلك الذي كان وسط جامعة تشرين في كلية الآداب ، حيث صخب الحوار في الأدب والفن والحياة . 

سوريا مهما اختلفنا معها ، فإننا لا نختلف على دورها الحيوي ، والفاعل والصادق تجاه القضية الفلسطينيية ، وعلى الرغم من اختلاف النظام هناك مع القيادة الفلسطينيية ، في تلك المرحلة  أعتقد أن القيادة الفلسطينيية في تلك الفترة ، لو قدمت قليلاً من التنازلات لصالح القيادة السورية ، وأحسنت ادارة التحالف معها لكنا بخير أفضل مما نحن اليوم عليه ، ولكن يبدو لي الان بعد ذلك الزمان ، وما نحن الان فيه ، أن شاشة الرؤيا كانت مُعطلة عند البعض ، لصالح رؤيا مختلفة أعتقد أنها أفقدتنا الرؤيا تماماً ، ومن يمتلك غير ذلك فليدلنا .