جدل الكتابة الرقمية والورقية بقلم:د. محمد عبدالله القواسمة
تاريخ النشر : 2019-12-08
جدل الكتابة الرقمية والورقية
د. محمد عبدالله القواسمة
لقد أضافت التكنولوجيا الرقمية قيودًا جديدة على الكتابة؛ فلم تعد القيود الاجتماعية والسياسية والدينية هي التي تتكالب على الكاتب فحسب، فقد أضيف إليها في هذا العصر قيد تكنولوجي رقمي، يتمثل في ضرورة الانصياع لمواصفات الحواسيب، والأجهزة الخلوية، والشبكة العنكبوتية وما تناسل منها من برامج وتطبيقات، مثل: الفيس بوك، والتويتر، والواتس أب وغيرها؛ فهذه التكنولوجيا وإن وفرت للكاتب وسيلة النشر، وسهلت له سبل جمع المعلومات وتوثيقها فإنها فرضت عليه في أحيان كثيرة عدد الكلمات التي يجب أن يحتويها ما يكتبه، وترك مساحات للصور والإعلانات في ثناياه، ومراعاة أحوال الناس الذين يتوجه إليهم بالكتابة وظروفهم.
كما سهلت هذه التكنولوجيا الطريق أمام كثيرين ليكونوا كتابًا، وأغرت كل من يتقن استخدام الحاسوب أو الجهاز الخلوي، ولديه معرفة يسيرة بالإنترنت بأن يكون كاتبًا معتدًا بنفسه وكتاباته. كما صار المتلقي مشاركًا في الكتابة؛ فهو يكتب ويعلق وينتقد بجمل وتراكيب استقرت في الأذهان، ويستقبل مثلها على حاسوبه أو جهازه الخلوي، مثل: منور، دام قلمك، يسعد أيامك، سلمت روحك، ما أروعك! أنت تستحق التقدير، كتابتك جديرة بالتمعن والتدقيق.
هكذا كثر الكاتبون والكتبة، ورحنا نقرأ كتابات بلغة عامية غالبًا، تحت مسميات مختلفة: مقالات وخواطر وقصص قصيرة وروايات وحكايات وغيرها، وقد خرجت كلها عن مواصفاتها الأجناسية الأصيلة؛ بما تزخر من أخطاء لغوية، وأفكار ساذجة، وركاكة تعبير، وحشو. ولا غرابة في أن تحظى هذه الكتابات بالقبول والرضا من المتلقين؛ لأنها تتلاءم مع متطلبات هذا العصر، عصر الحداثة السائلة. كما يصفه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان.
وانتقلت عدوى هذا النوع من الكتابات إلى الكتاب المعروفين؛ فرأينا بعضهم ينجزون أعمالًا رقمية تحت مسمى شعر أو قصة أو خاطرة، تتوافر فيها متطلبات التكنولوجيا الرقمية، ومواصفات وسائل التواصل الاجتماعي لكنها تفتقد إلى العناصر الفنية الأصيلة التي يجب توافرها في هذه الأجناس الأدبية. وهي، مع ذلك، تظل في خانة النجاح من خلال إقبال الآلاف والملايين أحيانًا من الناس على قراءتها والتفاعل معها. لقد أغرى هذا النجاح بعض الكتاب إلى تحويل بعض هذه الأعمال من الشكل الرقمي إلى الشكل الورقي؛ لتظهر في كتب ورقية دون تغيير أو تعديل.
إن ظهور هذه الأعمال في شكل ورقي يغير من طبيعتها الأدبية المعروفة، كما استقرت في وجدان القراء والنقاد على مر العصور؛ لأنها تخضع لمتطلبات التكنولوجيا أكثر مما تخضع لمتطلبات الفن؛ فتغدو كتبًا جافة، وغير ممتعة، وغير ذات قيمة إبداعية كبيرة؛ فهي كالنبات الذي اقتلع من تربته ليغرس في تربة أخرى. استنادًا إلى هذا فإن من المجازفة أن نجمع ما نشر على وسائل التواصل الاجتماعية، لنعيد طباعته ونشره في كتاب؛ فإن كتابات المبدعين حتى المشهورين منهم على الفيس بوك أو التويتر أو الواتس وغيرها لها جمالياتها الفنية والفكرية الخاصة التي تفتقدها إذا ما تحولت إلى كتب ورقية؛ لأنها جماليات تتلاءم مع متطلبات التكنولوجية الرقمية، ونابعة من جمالياتها، فهي في الأساس كتابات وضعت في شكل رقمي، ولم توضع لتتحول فيما بعد إلى شكل ورقي. فلكل شكل من أشكال الكتابة جمالياته وقراؤه.
ما نريد أن نقوله في هذا المقام: إن ما نشهده في هذا العصر من التقدم الهائل في التكنولوجيا الرقمية وتكنولوجيا الاتصالات قد أثر في طبيعة الأجناس الأدبية وأساليبها وتراكيبها، وفي أذواق الناس الفنية والأدبية؛ حتى أصبحنا إزاء واقع إبداعي جديد له مواصفاته الخاصة، مما يجعل من تحويل ما يكتب للنشر في وسائل التكنولوجيا الرقمية لا يصلح للنشر في الكتاب الورقي. لا شك في أن هذا الواقع سيغير في أذواق الناس وطرائق الكتابة، وسيجعل من استخدام الورق في صناعة الكتب من الماضي .

[email protected]