سليم النفار
22
اللاذقية مدينة ليس مثلها أيّاً من المدن ، ربما لأنني عشتُ فيها طفولتي وشبابي ، غير أنها بخلاف ذلك ، تتمتع بكيمياءٍ جاذبة لكلِّ من عاش فيها ، وتعمّد في بحرها الساحر .
في اللاذقية تجتمع الطبيعة الساحرة بكلّ عناصرها ، الجبلُ الأشمُّ الذي يزنرها ، وكأنّهُ الحارسُ الليلي على شُرفاتها ، والسهول الواسعة تلك التي تدرب النظر ، على امتداد الرؤية والرؤى ... و البحر الذي يهدر كطفلٍ غاضبٍ يريد مقتنياته ، ويرضى جانحاً للوداعة مع أول خيطٍ للفجر الناعم ، الذي يُغطي المدى بالندى ، حيث يُشرقُ البنفسج من كل ركن هناك .
اللاذقية أهلها الطيبون العاشقون للحياة ... اللاذقية تعني " البطرني " حيث تلهو الأطفال في متنفسٍ وسيع على كتف البحر ، في النزهات وأيام الأعياد حيث تضجُّ حياةً ، لا تُساوم عليها الا بمزيدٍ من الحياة ... وكذلك العشاق الهاربون من الضجيج ، الى دوحاتهم هناك يرسمون سلالم الغد السعيد .
اللاذقية سرعان ما تحزن اذا ما اصاب أهلها مكروه ، وسرعان ما تفرح لابتسامة طفل ، بسيطة كموجاتها حينما تعبر الرمل ، عنيدةٌ اذا ما لامست كبريائها بسوء ، اللاذقية كيف اللاذقية الآن يا هند ؟
كان المطر يُمارس رغبته الجامحة في الهطول ، في أواخر كانون الثاني في العام 1985 عندما ذهبت برفقة حمزة البشتاوي ، الى بيت الراحلة الشاعرة الكبيرة : هند هارون
هناك في حي الطابيات وفي الجهة المُطلة تماماً على البحر ، كان بيت أم عمار وكانت بانتظارنا تلك الليلة العاصفة ، فأيُّ جنونٍ يأخذنا ، وأيُّ رقّةٍ وأيُّ لطفٍ ، ذاك الذي استقبلتنا بهِ الشاعرة هند وزوجها المهندس : أبا عمار ؟
في العام 1985 كانت حرب ضروس على مخيمات بيروت ، لم تكن اسرائيل هي التي تشنُّ تلك الحرب ، بل " الأخوة " في حركة أمل ... وقد عانت المخيمات البائسة هناك ، عذاباتٍ مهولة تستفزُّ الحجر ، فكيف لا تستفزنا نحن ؟
في تلك المناخات الحزينة ، كان اتحاد الكتاب العرب يستقبل النصوص ، للمشاركة في مهرجان آذار للأدباء الشباب ، وكنتُ ممن أرسل نصوصاً غاضبةً ، على ذلك الحال وفيها غمزٌ بقناة الدولة ، حيث كان الموقف الرسمي لسوريا آنذاك ، مع حركة أمل ، ولما اطلعت هند هارون على نصوصي ، طلبت لقائي آنذاك من خلال اتصال مكتب اتحاد الكتاب ، على مكتبي الذي كنتُ أداوم فيه في المخيم ، مكتب جبهة النضال .
وفي تلك الأجواء ذهبت وأنا متيقنٌ ، بأنها ستطلبُ مني سحب نصوصي ، وعدم مشاركتي بتلك الدورة للمهرجان ، ففاجأتني بلطفها تلك الليلة بأن طلبت مني ، استبدال القصائد وقالت : نحن حريصون على مشاركتك ، فأنت شاعر جيد و لكن : دعْ دمشق وأعطنا فلسطينياتك ، طبعاً أمام ذلك الحرص الذي كان شاهداً عليه صديقي حمزة ، قلت : سأفعل يا أم عمار ولكن ما يحدث لشعبنا هناك جريمة ، وللضحية أن تعبر عن احساسها بالموت ، وبالظلم وبالقهر الذي يحيق بها ... ابتسمت أم عمار وأخذتنا برفقة أبي عمار الى حوارٍ وحديث شيق ، عن فلسطين وعن سوريا وعن علاقتها بالراحل جمال عبد الناصر ، وعن وحيدها – عمار – الذي سرقه الموت مبكراً ، و لم تُخفِ حزنها وغضبها ، للذي يجري لنا وقد لمعت في عينيها غيمة دمع ٍ ، جففتها بمنديلها وهي تقول : لا بدَّ من أمل بُني
كانت اللاذقية في تلك الليلة ، مضيئةٌ شوارعها من حَمّامٍ سماويٍّ ، كعروس تُزفُّ الى مخدعها ، تفوح أزقتها برائحة المطر ، وكنتُ ثملاً بتلك السهرة ، وبذاك الحديث الذي ، لا أشكُّ بصدقيته وحرصه .