قراءة في ديوان "جسور على صهوة الريح" بقلم : محمد الصفى
تاريخ النشر : 2019-12-01
قراءة في ديوان "جسور على صهوة الريح" بقلم : محمد الصفى


قراءة في ديوان " جسور على صهوة الريح " للشاعرة المهاجرة ( سلمى الزياني )

عندما تطل القصيدة المشبعة بالحنين من شرفة مفعمة بالشوق والأنين

بقلم : محمد الصفى

        من الصعب على أي قارئ الغوص في أغوار قصيدة أو ديوان شعري إذا لم تجذبه أو تثير شهيته و فضوله، لأنه عندما تولد القصيدة من ذات الشاعر و تصبح تجربة شعرية خاصة به، فهو في حد ذاته إبداع يستمد جمالياته و تصوراته مما يختزنه الشاعر و يكتنف أحاسيسه و مشاعره الدفينة، كلغة دلالية تشكل فيما بعد صورة بلاغية لا يعرف عمقها إلا هو، ليتلقفها ذلك القارئ حسب مقدار تفاعله معها، أو تأثيرها فيه للوصول إلى المتعة التي يبحث عنها، و هنا تبرز قيمة العمل الإبداعي للشاعر و مقدرته على التأثير.

      و في ديوان " جسور على صهوة الريح " تمثل الشاعرة ( سلمى الزياني ) أحد أولئك المبدعين الذين استطاعوا تفجير القصيدة الشعرية التي اتخذت من الإيحاء دالة ذات أبعاد ورؤى شفافة عكست ما تعانيه النفس من الآلام و الكدمات و الأوجاع أصبح لازما علينا عدم السكوت عليها وذلك بلغة شعرية بليغة لامست عمق الواقع السؤال الثقافي للقارئ و جعلته يتذوق كتاباتها التي رغم تكسيرها لحاجز الوزن و التفعيلة خوضها تجربة الشعر و الوقائع بكل سلاسة و طواعية و مرونة في اللغة و النظم، فهي حين تقول (1) :

أنفاسي

مداد القصيدة

و ما تزاوج من رحم الشمس

أذيب لها حرفا خياليا

تلبي ليلا حاسما

يتمنى عناق حلم

      فهي بتكثيفها الرمزي و الدلالي هذا قد جسدت لنا تمثيلا لما يمكن أن تشكله قصيدة النثر على مستوى الرؤية التي تختزل انفعالات و هواجس الشاعرة من خلال الحالات التي تعيشها و تراها، و بمعنى أدق الصور التي تعتصر الذات الشعرية في وعيها الوجودي، كحضور طاغ لهذه الذات أما الآخر فهو المخاطب " القارئ" بغية إشراكه هذا الولع و محاولة إيجاد الشفرة المناسبة كحل لهذه الأوجاع .

      إن أول ما يستوقفنا في ديوان الشاعرة المغربية " سلمى الزياني " هو العنوان، حسب قول الناقد الفرنسي "ميشال هاوسر": " قبل النص هناك العنوان، وبعد النص يبقى العنوان "عنوان يضم بين طياته تنافرا دلاليا حيث أنه يجمع بين بناء معماري ثابت و هو الجسر، كما هو الحال مع الصهوة و التي هي وفق معجم اللغة العربية المعاصرة، أعلى الشيء، و بين شيء متحرك و غير ثابت و هي الريح،  .فــ " جسور على صهوة الريح"، عنوان يجسد صورة معبرة تحمل من الدلالات و الايحاءات ما يجعله مدخلا شهيا لمجموعة من التأويلات على مستوى البنية و الوظيفة الرمزية التي يحملها، و التي لها ارتباط قوي بالعبور السريع نحو الضفة الأخرى، من أجل معانقة الحلم المنشود، و المستقبل الواعد، سيما أن هذه الجسورعلى صهوة الريح، هذه الأخيرة التي جعلت لها في نصها " حروف هاربة " جياد، " يتوجع بك ... تزاحمك جياد الريح "  و بالتالي فجسور سلمى الزياني لا يمكن لمن يود العبور من خلالها و الدخول لعوالمها - نصوص الديوان - لتفكيكها و التعرف على دواخلها الدلالية، دون أن يكون فارسا في القراءة و التحليل، إضافة أن العنوان ابتدأ باسم نكرة  " جسور" فهو مبتدأ و الذي سوغ الابتداء به هو الابهام الذي يخلق نوعا من التوتر في ذهن المتلقي، و يجعله يتساءل أي جسور؟ و أي دلالة يقصدها الشاعر؟ لنلاحظ بعدها أن حالة البدء باسم نكرة ظاهرة لغوية هيمنت على جل عناوين النصوص التي بالمجموعة الشعرية ( رقصة الجراح - أميرة التراب - لسعة الصمت - همسات في أذن المكان - حروف هاربة...). و هذا هو الأصل في الكلمة فيما تبقى المعرفة فرع، و هي لا تحتاج إلى قرينة للدلالة عليها، فيما المعرفة تحتاج إلى قرينة، يقول سيبويه في " الكتاب " (1/22 ): " واعلم أن النكرة أخف عليهم من المعرفة وهي أشد تمكناً، لأن النكرة أول ثم يدخل عليها ما تعرف به، فمن ثم أكثر الكلام ينصرف في النكرة).

      قبل أن نغوص في قرائتنا لنصوص المجموعة لابد من الإشارة إلى أن الشاعرة "سلمى الزياني" هي فاعلة جمعوية و مناضلة، الأمر الذي نلمسه من خلال كتاباتها المعتقة بروح التمرد على سياسات  الظلم والتفقير والتحقير التي تطال المواطن العربي بصفة عامة، و هي التي تقول في ختام ديوانها " حين تصبح القصيدة شبهة / تكون الكلمة تهمة / يصبح الحرف مقصلة / تغتال الشاعر في نص لم يكتب بعد " .

      فقد حاولت الشاعرة من خلال نصوصها التي زاوجت بين القصيدة الطويلة و القصيدة القصيرة وصف أكبر قدر من مشاعرها بأبسط التعابير و الايقاعات الداخلية ذات الدلالة العميقة، بعيدا عن التعقيدات و التفعيلات الشعرية لتفادي الملل لدى المتلقي و الاقتصاد ما أمكن في استخدام اللغة مما أضفى  على هذه القصائد جمالية و أعطاها رونقا و حسا موسيقيا داخليا و بالتالي فالشاعرة سلمى الزياني تجسد لنا قولة " الشعر مرآة الروح" كونها تعتبر أن الشاعر الذي بداخلها هو شخص آخر يختلف عن حالتها العادية، لتتحول إلى نهر دافق من الهذيان اللاشعوري أمام الحالات التي تكتب عنها، تقول في " حروف هاربة " :

عشقي جوهرة لا تحسن اللمعان إلا على صدرك

حنيني خاتم لا يستهويه إلا أصبعك

قصيدتي سوار تأبى أن تكتب إلا على معصمك

و أنت ..... أنت

نبتة زمن خلقت لتنمو في رحم الفصول

مرة على شرفة الفرح

و مرات على بوابات الشجن

      لقد لامست الشاعرة من خلال متنها هذا كما في أغلب قصائد المجموعة شغاف الحس الإنساني و آهاته في صورة امرأة معشوقة كرمز للوطن فالمرأة هنا وطن معشوق رغم أنه يبحث عن العدل والحرية و المساواة، عشق نابع من ذات معلقة في الغربة، متعطشة لنسمات و أطياف هذا الوطن، و العيش بين أحضانه بكل أريحية دون عنف أو ظلم أو تفرقة بين كافة البشر أنا كان توجههم أو ملتهم أو جنسيتهم.

تجرع لوعة العشق و الحنين للوطن لم ثتن الشاعرة من الانصات لنبات القلب و أحاسيسها الفياضة التي تهمس بحرارة الشوق والوجد، وآهات روح تهفو لتضميد جراح  هذا العشق، عندما تقول في " مرج الياسمين "

أنا و أنت

فرعان ثابتان في مسافات متقاربة

الأشجار التي لعبنا تحت ظلها صغارا عانقت أراجيحنا

أهدتنا ثمارها الناضجة

.....

قلبي ثمرة يانعةو قلبك سيفه

أتفتح فيك

مبللة بالندى و الموسيقى

و أنوثة السنديان

    و من اللافت في نصوص الديوان أن معظمها يكون لوحات من الطبيعة اختزلت فيها أرق اللمسات و التشكيلات الفنية ووظفت أدق أدواتها (الفراشات، الحمامة، الورد، الأزهار، الشوك، الثلج، الربيع، الخريف، البحر، الثرى، الريح ... ) مولدة مشاهد غنية الوصف و التشبيه، حيث نلمسها بقوة في قصيدتها " وشاية كاذبة" حين اعتبرت الواشي بمثابة ذاك الشخص الذي يزرع الأشواك في طريق و بأن الوشاية هي السم الذي تغرسه الأفعى ثم تغيب أو بمن يشتري النور بالظلام على جنبات المارين.

أفعى تغرس السم و تغيب

أنثر نقاء سريرتك

دع للكائدين بكل ممر خيبة التسديد

لعنة الوشاية ضباب الأمكنة المزخرف بالظلام

          جاءت لغة الشاعرة واضحة ومقروءة كما الوجع العربي الظاهر الأثر, وعبارات الأسى والألم لم تفارق القصيدة مغلفة بالحنين والشوق, و الأمل المتجلي في الحلم الذي يعتلي قصائدها، متحدية كل الآهات و الانفعالات المغلغلة في الذات الشاعرية، تقول في " هكذا نحن "

كطفل يلهو بكريات الثلج

كصقيع يخيم على خطواته

كفارس لا يظهر إلا في كفن

خذلان آخر و نضيع

في انتظار الربيع المزهر

في انتظار عبق الحياة الدافئ

      و بما أن الطفولة دلالة شعرية ترمز للبراءة و سهولة السيطرة فقد كان لها بديوان " جسور على صهوة الريح" لسلمى الزياني نصيبها ضمن قصائدها و هي التي مرت كمربية و فاعلة جمعوية قبل أن تكون أما، و أدركت معنى الطفولة و مدى إصرارها على الحياة بكل عفوية، ( تعجبني طفولة / كطفل يلهو / الطفلة الهرمة / إنسانية ذبحت طفولتي )

    و من المحسنات البديعية التي اعتمدتها الشاعرة في نصوصها و التي أضفت عليها جمالية و تناسيقية بلاغية لا يمكن نظمها إلا شاعر امتلك ناصية الشعر و الإبداع إلى جانب المخيال و الثقافة الواسعة، الطباق أو ما يصطلح عليه بالتضاد، أي الجمع بين ثنائية اللفظ و ضده، لقد أبدعت في تصوير هذه الصور، متنقلة بينها بكل انسياب و رقة:

 " لطفا أيتها الريح

  عناقا أيتها الريح "

" يزرع من خطوه أشواكا

  يحصد بالسراب "

" مدان بريء "

" تمردي يعتصر صحاريه

 شموخي يمتد جبالا

  بحري صاف "

      هذه جسور سلمى الزياني، جسور عشق و ألم، وجع و أمل، تأمل و حلم نحو غذ أفضل، عابرة إياها في تحد و ثقة نفس من خلال شدو و تغاريد مبثوثة بكل عناية في هذا الديوان،  و هو ما شدني لمضامينه و جعلني أسبح بكل طواعية في قراءته بكل تأن، لقد استطاعت سلمى الزياتي أن توقعنا شركها الذي نصبته لنا و أوقعتنا في فخ ذاتها لنجد أنفسنا مشاركين في لعبتها الشعرية، معاناتها، آلامها، فرحتها، أحلامها،...