مسرحية جسر إلى الأبد لغسان كنفاني بقلم:د. أحمد جبر
تاريخ النشر : 2019-12-01
مسرحية جسر إلى الأبد لغسان كنفاني
د. أحمد جبر

غالبا ما يصل الجسر بين ضفتين أو منطقتين جغرافيتين فالتضاريس تفرض ذاتها، وتجعل الآخرين مضطرين للتعامل معها وفق شواهدها ورسومها المتشكلة فوق الأرض بين انحناء والتواء وانخفاض وارتفاع وتلال وهضاب ووديان وانهار، لذلك؛ يلجأ المهندسون إلى إنشاء الجسور أو الأنفاق تذليلا للصعاب ودرءا للأخطار وتقريبا للمسافات،  فالجسور غالبا ما تصل بين منطقتين بسبب الجغرافيا، وإذا كان المهندسون قد توصلوا إلى وصل الأماكن بعضها ببعض بطرق وأساليب شتى فإن الجامعات أصبحت تقوم بعملية تجسير أيضا، وكذلك يفعل الكتاب المبدعون حين يصلون أجزاء إبداعاتهم ذات الشحنات والعواطف المتناغمة مع الموقف بين ارتفاع وانخفاض وانحراف وانزياح حتى يكون الجزء مع الجزء الكل؛ ليكون النص الكامل نسيجا أدبيا متّصلا، وغسان كنفاني في مسرحيته هذه يمد الجسور إلى الفلسفة كما يمدها إلى علم النفس والى عالم من الوهم الذي يبحر فيه ليكون حقيقة في نسجه إياه؛ ذلك أن فصوله  وشخوصه الرئيسة قد تواصلت واتصلت وان كان ذلك الاتصال والتواصل قد حدث بأسلوب يشبه العدوى التي تنتقل من شخص إلى شخص ولكن المرض أيها السادة لم يكن مرضا عضويا بل وهما له تفاعلاته في النفس وانعكاساته التي تظهر في أداء الشخصية لدورها المرسوم لها بشكل فني يجسد الصراع المتشابك غير المنفصل.

غسان كنفاني في مسرحيته ( جسر إلى الأبد ) يطل علينا من خلال حلقات لا فصول مسرحية أو مشاهد ذلك أن المسرحية أُعدّت للراديو ما يجعل الشخوص غير مشاهَدين فلا تظهر لغة أجسادهم وإنما يجري الاعتماد على ما يحدثه الصوت من اثر في نفس المتلقي ليقوم بدوره برسم الحدث أو المشهد وكأنه يراه بمكانه وبشخوصه وانفعالاتهم المرسومة على وجوههم والمتناغمة مع كل حركة يؤدونها وكأنهم أمامه، ما يستدعي تدخلا من المؤلف ليقوم بالمشاركة الفاعلة في توزيع الموسيقى وطريقة الإخراج الأولية الموضوعة في هذه التمثيلية الإذاعية، فالمبدع هو الذي يرسم أبعاد عمله و يحدد ما يتناغم معها من موسيقى كما يرسم طريقة الحركة وأسلوبها لتكون معبرة عن فيض المعاني والدلالات التي يريد الكاتب إيصالها.

وقد جاءت الأصوات الرئيسية محصورة في ( رجاء وفارس ووالد رجاء والدكتور والشبح) وهي مرتبة حسب الظهور، أما الأصوات نصف الرئيسية فتتجسد في صوت ( الأم )، ويبقى الصوت غير الرئيسي الذي انحصر في ( أصوات رجال وصوت نسائي)، ويقدم الكاتب للحلقة الأولى بقوله ( صوت مفاجئ لبوق سيارة مع زعيق عجلات مكبوحة مرفقة بعد هنيهة بصوت عصبي لفتاة تصيح بنوع من التحذير الخائف) وفي هذا التقديم يكون غسان كنفاني قد قدم الحدث الأول في هذه المسرحية الإذاعية كما انه قد قام بخلق جو متوتر مشحون منذ البداية يحتاج إلى تفسير وإيضاح ومعرفة ما ترتب عن هذا الحدث، فرجاء تصرخ  وتحذر بينما فارس أمام السيارة وقد اصطدمت به وجرحته وتبدأ الحوارية بين فارس ورجاء والحديث على الجرح والموت والحياة والقضاء والقدر ففارس يعتقد جازما بان زمن موته لم يحن بعد لذلك يهدئ من روع رجاء التي رأت منه ما يشبه السحر والخيال ثم يحكي لها قصة الشبح الذي يأتيه ليلا وما كان من أمر أمه وموتها وقد عزم على ترك البيت ليسافر إلى بلد يعمل فيه.

في الحلقة السادسة يأتي غسان كنفاني على ذكر الجسر وقد جاء به على لسان رجاء في سياق ردها على فارس عندما ألحت في طلب معرفة قصة مقتل أمه حيث قالت: أنا أريد مساعدتك يا فارس...أنا لست جسرا بينك وبين الموت كما كنت تريد... أنا أكثر من ذلك، نعم لقد كانت رجاء بالنسبة لفارس أكثر من ذلك حيث أحب كل منهما الآخر  وكانت لفارس جسرا مع الحياة. فقد اهتدت إلى أن أمه قد توفيت قبل أن يغادر البلد اثر جلطة قلبية فلم يعد يستحق العقاب وجلد الذات بل يستحق الحياة التي كانت رجاء جسر عبورها.