أجساد متحركة تتوق للشعور بالحياة بقلم: جنان زيدان
تاريخ النشر : 2019-11-18
أجساد متحركة تتوق للشعور بالحياة بقلم: جنان زيدان


أجساد متحركة تتوق للشعور بالحياة
بقلم: جنان زيدان

كانت ليلة من ليالي دبي الجميلة حين قصدت فيها احدى المطاعم في سنتر تجاري للقاء صديقة لي خلال رحلتي الى هناك منذ سنوات. الضجيج كان سيد الموقف، أصوات، ضحكات، مجموعة مشاهد في مكان واحد. 

وصلت الى المطعم وسمعت صديقتي تناديني بلهفة وتركض اتجاهي بفرحة لا زلت اشعر بها الى الآن. جلسنا وبدأنا بالأحاديث التي لم تعرف الانتهاء، كان الأصوات عالية جداً لكننا نسينا أنفسنا وبعد وقت ربما طويل شعرنا بهدوء مُريب لنكتشف ان المطعم اصبح خالٍ من الناس. وعندما اشارت صديقتي برأسها الى احدى الطاولات تنبَّهت عندها ان هناك طاولة واحدة فقط ليست شاغرة، يصدر من ناحيتها صوت امرأة في أواخر العشرينيات تجلس مع رجل لا اعرف ان كان صديق او حبيب. 

خطفت دموع تلك المرأة انتباهنا وساد الصمت ليحدث ضجيج داخل عقلي وافكار وأسئلة لا نهاية لها.

كانت تتحدث ويداها لا تتوقفان عن الحركة. كانت تبكي تارة بكاء ارملة ثكلى وتارة اخرى كعروس فقدت عريسها يوم الزفاف.

تصرخ عليه حيناً وتنظر بعيداً خارج النافذة أحياناً، وهو جالس أمامها لا يتكلم وكأنه صنم.

رؤيتها آلمت قلبي وان كنت لا اعرفها ولا اعرف الى اي جنسية تنتمي، لكنها امرأة تتوجع امامي. شعرت بالقهر الذي يسكنها، قطعت النادلة الصمت لتُخبرنا انه علينا المغادرة فالوقت متأخر والمطعم سيُقفل. غادرتُ المكان ودخلت المنزل رغم الإبتسامة التي رسمتها صديقتي على وجهي عندما صرخت بأعلى صوتها في الشارع الفارغ وهي تستقل التاكسي "احبك جداً"، إلا ان هذا لم يوقف شعوري بالمرارة على تلك الفتاة.

وبدأت التساؤلات، ما السبب الذي يدفع امرأة الى البكاء بهذا الشكل امام رجل؟! ما الذي يجعلها تتخلَّى عن كبريائها وتُظهر ضعفها في العلن؟! هل تعرّضت للخيانة؟ هل خذلها هذا الصنم الذي لم ينبسّ بكلمة؟! هل فقدت احد أفراد عائلتها وهي في الغربة وتخبره عن وجع الخسارة؟!

ما الذي يدفع بامرأة ان تنسى نفسها في مكان عام وتتجرّد من مشاعرها امام الغرباء؟! ما هذا الكمّ الهائل من الوجع الذي يسكنها، أهو الظلم ام تبرير لخطإٍ اقترفته بحقه ويرفض الغفران؟!

برودة ذلك الرجل كانت تدل إمّا على انه ثمل من ألم هي سبّبته او انه ضائع في متاهة رماها فيها ويشعر بالذنب.

أيّ كانت الأسباب يبقى المشهد موجع. ان ترى إنساناً يبكي أمامك وانت عاجز عن المساعدة او التدخل هذا قمة العجز، البعض يعتبر البكاء ضعف أمّا انا فأعتبره قوة لكن استمراره لأقل موقف وفي كل الأوقات هو ضعف. البكاء يُطهِّر ارواحنا من الاحزان وينقّي عيوننا فنرى الأمور بصورة أوضح، اما الصمت في اكثر الأوقات هو قوة وفي وقت المواجهة أحياناً هو ضعف.

الى اي درجة كان ذلك الرجل قوي ليتحمّل دموع امرأة أمامه في العلن دون ان يحرك ساكناً والى اي درجة كان ضعيف كي يعجز عن احتوائها واخماد ثورة غضبها بكلمة طيبة او بنظرة حنونة؟

فأحياناً الإنسحاب في اللحظة الأخيرة يُنقذ اللحظة ولكن يدمّرنا مدى الحياة، اما البقاء والمواجهة يؤلمان للحظة ويعيدان بناء ما تهدّم مدى الحياة.

اللحظة التي تُجرّدنا من كل مشاعرنا هي من اخطر اللحظات لأن بعدها لا نعد كما كنّا في السابق. هي المواقف ومن يكون سيّدها، الخوف او الشجاعة، الإنسحاب ام المواجهة، لحظة قادرة ان تُعيد لنا من نحب او ان تدفعه بعيداً الى الأبد.

في أماكن تعجّ بالفرح هناك دائماً زاوية بعيدة في مكان ما تغصّ بكلمات الحزن، في قلوب تملؤها الغبطة يبقى الألم موجود يحاول الإختباء، وفي عيون تطير نظراتها فرحاً هناك لحظات نفس العيون تستوطن فيها الدموع على وقع قدوم الذكريات. هي الحياة بكل جمالها وبشاعتها، بكل بساطتها وتعقيداتها نسكنها نحن وقليلاً ما تسكننا. تشعرُ بِنَا وقليلاً ما نشعر بها ففي اكثر الأحيان نحن اجساد متحركة تتوق للشعور بالحياة.

* كاتبة من لبنان صدر لها كتاب Let them go with a smile