اقتصاد الانتباه بقلم:محمد عبد الكريم يوسف
تاريخ النشر : 2019-11-14
اقتصاد الانتباه
بقلم محمد عبد الكريم يوسف

تسعى المنتجات الرقمية إلى شد انتباه المشاهد والمتصفح بكل ما أوتيت من قوة . ويسعى الاقتصاد الحديث إلى جذب انتباه الإنسان واستحواذ أكبر مساحة من عقله واحتلال أقصى ما يستطيع من اهتمامه باطراد. 

يُعد الانتباه أحد المصادر القيمة في العصر الرقمي  خاصة وأن البشر قد عانوا الكثير من قلة إمكانية الوصول للمعلومة وندرتها خلال عصور طويلة من التاريخ . لم يقرأ الإنسان خلال القرون السابقة ولم يثقف نفسه لأغراض الترفيه والمتعة وإنما للحصول على عمل ما يمول به نفسه ويلبي احتياجاته المتزايدة أما اليوم فالوصول للمعلومات متاح للغالبية الساحقة من البشر في مجالات متعددة لم تكن متاحة من قبل مثل الحقائق العلمية والمعلومات الإحصائية والأدب بأنواعه وانتماءاته وفروعه والفن ومذاهبه المختلفة والمعلومات الطبية والسياسية والأخبار الفورية المتناقضة لحظة بلحظة بمجرد الاتصال بالانترنت .  

تقدم شبكة الانترنت ثروة كبيرة من المعلومات الرقمية الجاهزة والتي تحتاج المعالجة الفكرية والمحاكمة العقلية والإدراك المنطقي لما يقدم خلال دقائق محددة . من المعروف أن الإنسان يخصص عدة دقائق من وقته للمحاكمة العقلية و12 ثانية للانتباه . لقد ازداد سيل المعلومات اليومية  وبقي وقت المحاكمة العقلية على حاله في حين نقص الانتباه من 12 ثانية إلى 8 ثواني . اليوم يشكل الانتباه التحدي الكبير والمحدود المصادر أكثر من سيل المعلومات المتدفق بازدياد وعاملا حاسما تسعى المؤسسات الاقتصادية لامتلاكه والاستحواذ عليه باطراد ونهم .  

ما هو الانتباه ؟ 

قبل الغوص عميقا في مناقشة اقتصاد الانتباه علينا أن نوضح تعريفا محددا للانتباه وعلينا أن نميز بين التعريف النفسي للانتباه والطريقة التي يقارب الناس بها الأمور . الانتباه هو التركيز الاختياري حيث يركز الناس انتباههم على مثير يحفز فضولهم باتجاه مسألة ما دون غيره من المثيرات الموجودة في الطبيعة أو البيئة المحيطة . في حواراتنا اليومية نقول لشخص ما :" انتبه " . يتضمن هذا التعبير خاصتين أساسيين من خواص الانتباه وهما الندرة والمحدودية والقيمة . وعندما ننتبه إلى شيء ما فإننا نخصص جزءا من عقلنا وقدراتنا الذهنية باتجاهه أكثر من أي شيء آخر .  وتتفق معظم النظريات العلمية على أن الانتباه من الموارد القليلة لدى الإنسان ويشير عالم النفس والاقتصاد هيربرت سليمون في معرض حديثه عن الانتباه إلى أنه الخروج من عنق زجاجة الفكر الإنساني . ويلاحظ أيضا أن " وفرة المعلومات تقود إلى فقر في الانتباه ."

وما انتشار فكرة متعدد المهام إلا كذبة خادعة بالنسبة لعلماء النفس والانتباه لأنهم يعتقدون أن الإنسان لا يمكن أن يقوم بعدة مهام في وقت واحد على أكمل وجه ويذهبون إلى أن الإنسان أيضا لا يمكنه أن يقوم بمهام عديدة حتى بالتناوب . قد يستطيع الإنسان مشاهدة التلفاز وتصفح هاتفه في وقت واحد ولكنه إذا انتبه إلى جدول الأخبار على شبكات التواصل الاجتماعي سيفوته ما يقال على شاشة التلفاز . 

سوق الانتباه : 

يعد الانتباه من الموارد القيمة التي يمكن أن يمتلكها الإنسان . ويستحوذ هذا المورد على أهمية خاصة في عالم المال والأعمال والحملات السياسية والدعايات الانتخابية والحملات الترويجية والمنظمات غير الربحية والمخابرات والاستطلاع والتصوير الفوتوغرافي والفيديو والتحليل السياسي والاقتصادي والأعمال التطوعية وفي عدد لا يحصى من المؤسسات العامة والخاصة . في عام 1997 ، انتبه الاقتصادي ميشيل غولد هابر إلى مسألة هامة وهي أن الاقتصاد العالمي ينحرف عن مساره ويتغير من اقتصاد يعتمد على المواد إلى اقتصاد يعتمد على الانتباه البشري . حيث بدأ المؤسسات الاقتصادية تقدم الخدمات الاقتصادية عن طريق البيع المباشر على شبكة الانترنت كما بدأت مؤسسات أخرى بتقديم الخدمات والمعلومات والاستشارات المجانية مجانا . وعلينا أن ندرك في اقتصاد الانتباه إلى أن الانتباه ليس فقط من الموارد ولكنه عملة  يدفعها المستخدمون في عملية انتباههم إلى منتج ما .

تعتمد آليات اقتصاد الانتباه  اليوم على تركيز الشركات الكبيرة للفت انتباه المستخدمين على الإعلانات المنزلقة  والنوافذ المنبثقة والمواقع الصديقة ويعتمد مصممو المواقع على إبداع مواقع قادرة على الاستحواذ على انتباه المشاهد أو المتصفح وقدراته المحدودة في سوق عالي التنافس والتصارع وكلما استطاع الموقع جذب انتباه المزيد من المتصفحين صار أكثر نجاحا ورواجا في السوق الجديد ذي المواصفات الجديدة . تأمل الكثير من الشركات الحصول على الشهرة وتكريس نفسها ومنتجاتها المخالفة من خلال جذب انتباه المتصفح إليها من خلال تقنيات معلوماتية تلفت نظر المشاهد وتشده إليها خاصة وأن العناوين والصور تتنافس في الاستئثار بانتباه المشاهد أو المتصفح على مدار الساعة في زوايا الشاشة الأربعة مثل :

- أفلام الرسوم المتحركة القصيرة الجاذبة للعين والمثيرة للدهشة والانتباه

- التصاميم الكثيرة والمتنوعة التي قد يجذب أحداها انتباه المشاهد ويشده للقراءة.

- الحملات الإعلانية التي تستميل وتجبر المستخدمين لتكريس انتباههم للإعلانات كما تلجأ بعض الشركات لتقديم الألعاب المجانية التي تحتوي الإعلانات الكثيرة الهادفة لغايات محددة . 

- يتم تصميم المواقع والتطبيقات بطريقة ترسل فيها الإخطارات المتكررة وغير الضرورية لتعزيز الارتباط بين المتصفح والمنتج . 

كيف يؤثر اقتصاد  الانتباه على المستخدمين:

يتجاهل المصممون رغبة المستخدمين المختلفين وحاجتهم للانتباه أثناء استخدام أنظمتهم الحاسوبية وبرامجهم ويبتكرون تصاميم جدية ومستحدثة  هدفها لفت انتباههم لمنتجاتهم  المختلفة وإعلاناتهم المتنوعة .   

تشير الدراسات الحديثة عن المساعد الصوتي حيث وجدت أن الناس يستخدمون المساعد الصوتي للهواتف الذكية أثناء القيادة عندما تكون أيديهم وأعينهم مشغولة . وقد تم رصد شكاوي عديدة ضد مساعدي شركة سيري وغوغل لأنها كانت تعرض إعلانات مرئية على شاشات المتصفحات بدل نطقها بصوت عال . وعلى سبيل المثال يحتاج السائق أن يسأل صوتيا عن الاتجاهات أو الإرشادات المختلفة صوتيا بدل كتابتها لأن الكتابة تشتت انتباه السائق بين المساعد والطريق أما المساعد الصوتي فيغني السائق عن هذا العناء .  

يجدر التنويه أن شركات مثل سيري وأي فون  تميل إلى فصل انتباه المشاهد للإعلانات عن عمله بحيث يضطر للتوقف لمشاهدة الإعلانات والعودة لمتابعة نشاطه.  

ويحدث نفس الشيء في الهواتف الذكية حيث ينقسم انتباه المستخدم بين الإعلان والموقع المفتوح وجهاز التلفاز والمثيرات الخارجية الأخرى وقد يبرر ذلك سبب قصر جلسات تصفح الهاتف الذكي أكثر من الحاسب إذ تكون فترات الانقطاع كثيرة ومتعددة . 

وحتى نفهم الطريقة التي يعمل بها مصممو البرامج الإعلانية والتي تستحوذ على اهتمام وحاجات المستخدمين علينا أن نخصص وقتا للدراسات الميدانية والملاحظات المدونة والمقابلات الشخصية  وكيف يتصرف المستخدمون في الحياة الحقيقية الواقعية . 

في الحقيقة ، يدرك الكثير من المستخدمين أن المواقع الإلكترونية ومصممي الإعلانات يحاولون الاستحواذ على انتباههم . وخلال اختبار عدم الاستقرار أجري حديثا شاهد أحد المستخدمين فيلما حول تحضير الفطائر المحلاة على موقع تحضير الوجبات All Recipes.com وبعد انتهاء الفيديو تابع الموقع أليا  عرض قائمة بالأفلام المقترحة والطريف في الأمر أن الموقع لم يزود الفيلم بزر للتوقف وإنما أراد من المستخدم إجباره على متابعة الموقع أو الخروج من الموقع. كان الخيار الوحيد المتاح إما إعادة مشاهدة الفيلم أو مشاهدة الفيلم التالي على القائمة .  وكان الهدف من تصرف الموقع هو لفت نظر المشاهد والاستحواذ عليه لطفا أو أمرا. وأثناء تقدم الملفات في القائمة يلاحظ المستخدم يلاحظ المستخدم بقاءه أمام شاشة الحاسوب أطول مما يجب أن يكون . وقد كان الموقع يعرض إعلانات قبل كل فيديو ويقدم الموقف حوافز مادية للزوار عند تثبيت انتباههم على الإعلانات . 

قد يشعر بعض المستخدمين بالإحباط نتيجة عدم قدرتهم على التحكم والسيطرة على الوقت الذي يقضونه على أجهزتهم خاصة وأن تصميم المنتجات الرقمية يستدعي التعلق بها والمزيد من التعلق بها وتستميلهم للبقاء متصلين على مدار الساعة . إن بقاء الأبناء متصلين بالتكنولوجيا مسألة مثيرة للقلق بالنسبة للوالدين لأن البقاء في حالة اتصال وجذب للانتباه يتحول إلى عادة وقد تتحول إلى حالة من الإحباط في حال سحب التكنولوجيا وأجهزتها منهم .  

وقد يكيف بعض المستخدمين سلوكهم  مع التكنولوجيا حيث أن بعض التكيف  ينبع من الوعي والسلوك المتعمد فيحددون زمنا معينا لا خروج عنه للبقاء في حالة اتصال. ويتضمن سلوك التكيف تحديد وقت مخصص للاتصال بالشبكة أو حذف بعض التطبيقات أو القبول بالرقابة الوالدية وحجب المواقع التي لا يقبلها الوالدان . 

قد يتعلم بعض المستخدمين طرقا للمحافظة على الانتباه بعدة وسائل مثل حجب الإعلانات الصغيرة وتجاهل الإعلانات التي توضع على يمين أو يسار أو أعلى الشاشة عن قصد أو عمد وما هذا السلوك إلا نوع من التكيف الذي يتولد لدى الإنسان نتيجة هذا السيل الجارف من المعلومات . ويتكيف بعض المستخدمين مع الكم الهائل من الإخطارات الكثيرة  التي يتلقونها على شاشة الهاتف الذكي وعلى كل أنواع وسائل التواصل الاجتماعي ويتعمدون تجاهلها وعدم قراءتها كما يضغطون زر الإعجاب على مقالات وتعليقات لم يقرؤونها . وخلال جلسة اختبار المستخدمين لوحظ أن امرأة تستخدم جهاز أي فون وتتصفح أخر الأخبار والمنتجات الجديدة . وعندما انتهت الجلسة ، اعتذرت من المشرفين  وسألت لماذا يستخدم هذا النوع من برامج العرض في هذا البحث . فأجابها أن ليس هناك مشكلة تذكر فتابعت بحثها ورغم انبثاق عدد كبير من الإعلانات لم تعرها أدنى انتباه ولم تقاطع سلسلة أفكارها .

مستقبل اقتصاد الانتباه:

يتوقع أن تستمر النزعات المادية في تصميم المنتجات التي تثير الانتباه في التطور وسوف تختار العديد من الشركات ابتكار منتجات وإعلانات تستحوذ على الانتباه  بالإضافة إلى برامج الفيديو الرقمية ذاتية التشغيل والإعلانات التي لا يمكن تجاوزها أو إهمالها من قبل الشريحة الواسعة من المستخدمين وسوف يستمر المصممون في دراسة سلوك المستخدمين وما يحبون وما يكرهون وما يستحوذ على انتباههم قسرا ولطفا . وقد تطورت الإعلانات على منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية مثل الفيسبوك وانستغرام وسناب لتفرض نفسها على المتصفح أو المستخدم بغض النظر عن مركزه الاجتماعي . 

وتستمر بعض الشركات في إنتاج التصاميم المشكلة للعادات والتي تغوي المستخدمين يوما بعد يوم وتستحوذ على انتباههم بطريقة ناعمة لا تلفت النظر. إن مستقبل اقتصاد الرقمي واعد وقابل للتطور والتطوير السريع وقد يصبح من الاقتصاديات الرائدة في المستقبل القريب . هناك أيضا من يدعو لاستخدام النموذج الذي يفصل بين الانتباه والاهتمام والذي يسمح للمستخدم أن ينتبه ويتصفح الإعلانات ثم ينتبه إلى اهتماماته الأساسية . 

على سبيل المثال ، تعرض شركة سبوتفاي الإعلان أعلاه بخيارين الأول مجاني وهو الذي يحتوي إعلانات والخيار الثاني هو أن تدفع مبلغ 9.99 دولار في الشهر في حال رغبت بالمشاهدة من دون إعلانات .

تستجيب بعض الشركات لشكاوي زبائنها حول التصاميم التي تستحوذ الانتباه فقد غيرت شركة أبل طريقة إرسال وعرض الإخطارات المتتابعة على جهاز أي فون وأضافت برنامجا إحصائيا عن المدة التي يقضيها المستخدم على جهازه الالكتروني . 
خاتمة :

هناك حقائق راسخة في الاقتصاد الرقمي لا تتغير . والإعلانات تمول تقديم المحتوى المجاني في المستقبل المنظور وسوف تتنافس شركات إنتاج الإعلانات في ابتكاراتها لجذب الانتباه والاستحواذ عليه بأي وسيلة ممكنة وهناك حقيقة راسخة هي أن انتباه الناس كبير ويحتاج للاستثمار فيه. لكن على المصممين الذين يختارون اقتصاد الانتباه أن يوازنوا بين حاجة المؤسسات في دنيا الأعمال والمال واهتمامات المشتركين ونوعية المستخدمين وعائد أرباح الإعلانات والربح الصافي مقارنه مع اهتمام المستخدمين . 

المراجع

Goldhaber, Michael H. (1997) “Attention Shoppers!” Wired Magazine. Retrieved from: 

Simon, Herbert A. (1992) “The Bottleneck of Attention: Connecting Human Thought with Motivation.” Retrieved from: