لماذا العراق مختلف ويدعو للقلق؟ بقلم:صائب خليل
تاريخ النشر : 2019-11-13
لماذا العراق مختلف ويدعو للقلق؟ بقلم:صائب خليل


لماذا العراق مختلف ويدعو للقلق؟
صائب خليل

هناك حقيقة علينا ان نعيها جيداً ان اردنا ان نفهم ما يجري في بلدنا، وهي أن حالة العراق لا تشبه حالة أخرى في التاريخ! فالتصور بأننا أمام المشهد المعتاد لـ "حكومة فاسدة تستميت في الدفاع عن نفسها امام شعب يتظاهر ضدها فترد عليه بالعنف"، تصور يشوبه الكثير من علامات الاستفهام، ولا يبدو قادراً على تفسير الاحداث.

من علامات الاستفهام تلك، الموقف الأمريكي. فأمامنا حكومة عميلة لأميركا بالكامل، واقرب حكومة للتطبيع مع إسرائيل، ورغم ذلك فأدوات اميركا في البلد، تبذل الجهد الأكبر لقيادة التظاهرات مثل عملائها المعروفين مثل ستيفن نبيل وغيث التميمي والخوة النظيفة، إضافة الى قناة "الحرة"، فكيف نفسر ذلك؟

هناك حقيقتان تميزان حالة العراق، من الضروري لمن يريد ان يرى دربه في هذه المعمعة، ان يهضمهما جيداً:

الحقيقة الأولى الشديدة المرارة التي يجب ان يواجهها الشعب العراقي هي أن أميركا تسيطر على بلده ومقدراته، سيطرة لم يسبق لدولة ان سيطرت فيها على بلد في التاريخ ابداً.

والحقيقة الثانية التي لا تقل مرارة عنها، هي ان هذا الاحتلال ليس كبقية الاحتلالات في التاريخ، يكتفي بهدف امتصاص ثروات البلد المحتل، إنما يهدف قصداً إلى التدمير التام له إضافة الى ذلك. بل ان الأخير هو الهدف الأساسي الذي قد يتنازل عن الأول من اجله.

والحقيقتان بحاجة الى الأدلة طبعا، وإلى تفسير هذه الخصوصية.

تفسير الحقيقة الثانية هي أن اميركا تخضع بشكل شبه كامل للأجندة الإسرائيلية، وبشكل لم يسبق له مثيل في الماضي، وان هذه الأجندة تستهدف تحطيم العراق تماما، مثلما تستهدف تحطيم سوريا وليبيا وبقية الدول العربية، مع أولوية لتلك التي يصعب اقناع شعوبها بتطبيع مذل يجعل منها خادمة لها. ولن اذهب اكثر في هذه النقطة لضيق المجال.

صورة سوداوية قاتمة جدا؟ دعني ابرهنها لك:

يجب ان نتذكر اننا بلد أجهزة كشف المتفجرات المزيفة التي يفترض أن يضحك منها أي طفل. جهاز عبارة عن علبة فارغة وخرافة من خرافات العصور الوسطى يخترق بها محتال معروف ومدان، الدولة بكل امنها ومهندسيها وجامعاتها و"حلفائها" الذين يقفون في قمة التقدم التكنولوجي العالمي! وتكتشف الحيلة وتكشف، ورغم ذلك تبقى سنيناً تستعمل، والإرهاب يحصد الأرواح بفضلها.. والشعب ساكت!

يجب ان نتذكر اننا بلد له مجلس نواب تقر فيه كل قوانين البلاد، ويعرف كل العالم ما يدور فيه إلا شعبه. فإيران لديها من ينقل لها ما يجري في كل جلسة سرية أو غير سرية. والسعودية كذلك وربما أية دولة تدفع بضع دولارات. أما اميركا وإسرائيل فأنهما تستلمان بثاً مباشراً من الأجهزة الالكترونية التي نصبوها ومن تلفونات النواب. أما الشعب فلا يرى من جلسات مجلس نوابه إلا ما يتكرم بتهريبه أحد النواب من لقطات.. والشعب لا يهتم!

يجب ان نتذكر اننا البلد الذي يدفع فيه الساسة جزية صريحة، لإقليم كردستان راضخين خانعين، والشعب لا يقوى على وقفها رغم الاحتجاج، بل لا يقوى حتى على وقف تزايدها كل عام! حتى بلغت أن يأخذ لصوص الإقليم ثروة نفطه لأنفسهم، وتتكفل بغداد بدفع رواتب موظفيه!

شعب تأكل كردستان ثلث أمواله وتطالبه بديون، رغم انها مدينة له بأكثر من 42 مليار دولار، من الديون الرسمية فقط، وقبل تمكنها من تنصيب تابعها المطيع عبد المهدي على الحكم. اما الآن فقط ضاع الحساب لكثرة ما تضخم!

ونحن شعب يجبر ان يدفع جزية أخرى للأردن الأفضل حالاً منا، وهي التي لم تقدم للعراق الا الإهانات والمؤامرات، منذ زمن صدام، ومازالت الجزية مستمرة منذ ذلك الزمن أيضا!

نحن شعب البلد الذي لا نعلم لأية جهة يخضع مصرفنا المركزي، ولا كيف نسيطر عليه او نمنعه من بيع العملة كما يشاء، على سبيل المثال، مبذرا اموالنا وناشرا الثراء للفاسدين. معظم الناس لا يعلمون أن موظفيه، ويا للعجب، محميون من سلطة القضاء، بقانون وضعه بريمر ولا يجرؤ أحد ان يغيره! بل ان التحرش برئيس البنك المركزي، يستدعي قدوم مستشار للقوم الأمني الأمريكي وتطمينه من قبل الرئاسات الثلاثة!

أما البنك التجاري العراقي فملزم بموجب قانونه بعدم التعامل مع اية جهة أخرى عدا بنك جي بي موركان في كل تحويلاته الخارجية التي تزيد عن بضعة ملايين من الدولارات. وبالتالي فأن أي جهة يمتنع بنك جي بي موركان عن التعامل معها، سيكون البنك التجاري العراقي مجبر على مقاطعتها!

لقد تمكن هذا الاحتلال حتى اليوم من منع شعب العراق من استعمال مئات مليارات الدولارات من نفطه، لبناء أية طابوقة في بلاده ولأكثر من 16 عشر عاماً، بل العكس، تم تحطيم ما كان له من صناعة وزراعة ودمر القطاع العام وباعه مجاناً للصوص الأثرياء وأغرقه بالديون المتزايدة عاماً بعد عام واختتم كوارثه باتفاق حرية تجارة يكفي للقضاء على بلد صناعي، فكيف ببلد يحبو في تصنيع نفسه كالعراق؟

نحن نعلم ان الأمريكان جلبوا داعش وهيأوا الأرض لها لترتكب جرائمها وسلموها المدن ودعموها وقصفوا الجيش والحشد حين كان يقاتلها، وحين سقطت انقذوها، ورغم ذلك مازال من في الناس يدافع عنهم ويسميهم "محررين"، وما زال من يدافع عنهم يلقى الاحترام من الناس بدلا من البصاق، كما يفترض بشعب يحترم نفسه وضحاياه ان يفعل.

نحن أيضاً الشعب الذي تلقى كل ذلك دون تظاهرة واحدة امام السفارة الامريكية، لعلها تكشف للعالم حقيقة ما يفعله هؤلاء، بدلا من الدعاية الكاذبة المؤلمة، بأنهم معنا وأنهم يضحون من اجلنا وانهم يحاربون داعش!

نحن البلد الذي يختار الشعب فيه اكثر جهتين تناديان بطرد الامريكان من البلد، ليقوما باختيار أسوأ وأقدم عميل للأمريكان على قيد الحياة في البلد! يعدان بقانون لطرد القواعد الأمريكية، ثم ينتهكان الدستور من اجل تنصيب العميل الذي يعلن صراحة انه لا يرى في القواعد الأجنبية انتهاك للسيادة!

نحن الذين يتم فضح تزويرات انتخاباتهم، وتحرق صناديق الاقتراع، ثم يقدم رئيس اكبر كتلة اعتذاره لمفوضية الانتخابات! مفوضية الانتخابات التي تعود جذور فسادها الى سابقاتها، والتي كشفت التحقيقات البرلمانية فضائح لها لا يستطيع رأس انسان ان يعقلها. فعدا الفضائح المالية، تم اكتشاف هوية مفوضية الانتخابات في جيب إرهابي اشتبك مع الشرطة في قتال بالشوارع! وكان له ان يدخل الى غرفة الحاسبة وغيرها!

وأعلن كاتب هذه السطور أيضا فضيحة كبرى لتلك المفوضية، حيث كشف ان من يقوم على هيكل الاتصالات في المفوضية، شركة مجهولة اسمها "ناشتا" يرأسها شخص من مجاهدي خلق، المعروفة بتبعيتها لإسرائيل! ولم تختف ناشتا بسبب الفضيحة، بل هددت الكاتب نفسه!

بالمناسبة، هل تعلمون من كتب برنامج حاسبة عد الأصوات؟ إن كنت لا تعلم عزيزي القارئ فليس ذلك غريبا، لأنه لا احد يعلم!! كل ما اعلن عنها انها "شركة إماراتية".. بلا اسم ولا تعريف ولا... وطبعا فأن مثل هذا البرنامج بسيط يمكن لأي مبرمج ان يكتبه (أنا مبرمج فلا أتكلم بلا علم) وقد أعلنت وزارة التعليم العالي استعدادها لكتابة البرنامج، لكن...

نحن الشعب الذي يزيح له الاحتلال حكامه وينصب من يشاء متى يشاء. نصب علاوي، وأزاح الجعفري خلال بضعة اشهر، فجاء المالكي ثم ازاحه ونصب العبادي، ثم نصب رجله المفضل عبد المهدي بانتهاك دستوري! (إن يراودك الشك بهذا راجع مقالتي "هل عبد المهدي عميل امريكي ام إيراني؟").

ونحن شعب تضخ في رأسه كل يوم، مدافع التضليل الشاملة التي يمتلكها جميعا، اعداءه، سمومها الإعلامية المسببة للهلوسة. سموم تجعله يطارد الأشباح مثل "سانت ليغو" وقانون الانتخاب والنظام البرلماني ليظن انها هي الكارثة وان تغييرها هو الحل لكل كوارثه.

رغم كل ذلك، فقد حققنا إنجازات ليست قليلة ابداً. لقد تمكنا من اخراج القوات المحتلة يوماً. ودحرنا الحرب الطائفية وداعش بفضل المرجعية ومن ضحى من الحشد بأرواحه ببسالة متناهية، وافشلت خطط تدميرية للعدو مثل مشروع الحرس الوطني الذي كلف به العبادي بغرض فصل المحافظات عسكريا عن بعضها البعض، ومشروع ما سمي قانون شركة النفط الوطنية الذي تبناه عبد المهدي وشلة من محتالي النفط، وتم اسقاطه بتضحية وبسالة أربعة من الوطنيين، فافشلوا المشروع الذي "يهدد بالحرب الاهلية وافلاس العراق" كما وصفه مستشار المحكمة الاتحادية. وقبلها افلتت ثروة البلد من عقود مشاركة الإنتاج التي تلح عليها الشركات وكردستان ومن يدفعان له من "الوسطاء". كذلك افلت البلد حتى الآن من ضغوط التطبيع الشرسة التي مورست عليه.

إلا ان اعظم انجازاتنا بلا شك هو اننا مازلنا على قيد الحياة كبلد اسمه العراق، رغم انه ممزق ومدمى.

إنها إنجازات عظيمة افلتنا بها المرة تلو المرة من مؤامرات مدمرة، لكن إلى متى سننجو؟ فالقوة التي كانت وراء جلاء الأمريكان، أي التيار الصدري، صارت معهم! والحشد الذي انقذنا من داعش تمزق وصار جزءاً من ابشع حكومة عميلة رآها البلد. والمرجعية متورطة من وراء الستار بدور ما في جريمة تنصيب عبد المهدي بانتهاك الدستور، إضافة الى تورط اكبر كتلتين سياسيتين بتلك الجريمة مباشرة.

هذا كله، والحال كما وصفناه: احتلال لكل مفاصل البلد من عدو يهدف للقضاء عليه، ابتزاز كردستاني اردني متزايد، دستور منتهك ومحتقر، اعلام معادي يبث السموم يوميا، نظام بنكي يمسك خيوطه الأعداء، فساد يسيطر على البلاد تماما، يرفع رأسه ويتحدى، ويترك الناس تصرخ حتى تتعب ولا يبالي. برلمان لا يرى الشعب جلساته، قضاء مرتشي، قوات مسلحة تعمل للعدو وتسلم داعش كل شيء ان جاءتها الأوامر وتفلت من العقاب، ساسة من ابشع ما خلق الله. مفوضية انتخابات مخترقة حتى العظم، مهمتها تزوير الانتخابات حسب تعليمات الاحتلال، ويشارك موظفيها في اعمال الإرهاب المسلح، كشف احدهم صدفة، والله يعلم كم بقي غير مكشوف. نحن اهل كل هذه الفضائح، وهذه المآسي.. وغيرها و غيرها..

وهنا يقفز السؤال: إن كان الحال بهذا السوء، فلماذا القلق من التظاهرات؟ ألا يفترض أن تكون الشيء الذي نرحب به اشد ترحيب لأنه الأمل الوحيد لتغيير مثل هذا الواقع اليائس بقلب النظام كله؟

إنه منطق سليم. لكن الجانب المعاكس سليم أيضا. فالتظاهرات التي تقلب النظام تحول الساحة الى ركام، وهذا لا بأس به بحد ذاته، فالحطام هو خير ساحة لبناء الجديد. لكن المشكلة هي ان من يقرر شكل الجديد الذي يتحول اليه الحطام هو من يملك الأدوات الأقوى لفرض ذلك التغيير. وهنا المشكلة.

المشكلة أن تلك الأفاعي أعلاه ستجعل من فرصتنا لتوجيه النتيجة، صغيرة لا تتحقق الا بمعجزة.

اقلق بشدة لأني اعرف ان بلادنا التي أنهك شعبها الجهل والكوارث المتتابعة بتخطيط متعمد، ليست ككل البلدان. إنها تحت نير احتلال لا يشبهه احتلال في التاريخ. احتلال لا يهدف للنهب، بل التحطيم التام.. أن يلحقها بليبيا وسوريا، ويجزئها اجزاءاً ويعصرها حتى تبيع نفطها وهو تحت الأرض بأبخس الثمن، وأن يطبّع شعبها مع من يحتقره، ويقبله سيداً عليه وهو صاغر. هذه هي المهمة، وهي تسير حتى الآن بنجاح. لا تقل لي انه لا يمكن ان يصبح الوضع أسوأ، فقد تبين ان هذه اغبى جملة تقال بعد كل ما رأيناه من انحدار متتالي نحو الأسوأ وما شهدته الدول المجاورة من تدمير.
مقابل كل ذلك الضعف، نواجه عدواً يقف على قمة تكنولوجيا المعلومات والتجسس وله خبرة قرون في تدمير الشعوب، ويضع في قلب بلدنا اكبر قاعدة استخبارات ومعلومات في العالم كله. آلاف من العلماء والخبراء، استقدمت وكلفت بدراسة البلد وشعبه وتاريخه ومعتقداته، وكل ما من شأنه تسهيل تحطيم هذا البلد.

عودة الى تساؤلنا في بداية المقالة عن الموقف الأمريكي المتناقض بين دعم الحكومة من جهة ودعم التظاهرات من الجهة الأخرى، وكيف تتيح لنا هذه المعلومات تفسيراً افضل له.

الحقيقة هي ان شدة السيطرة الامريكية على مقدرات العراق، صارت تتيح لها أشياء لم تكن ممكنة في الحالات الاعتيادية في الماضي. واحدة من تلك الإمكانيات هي ان تتخذ اميركا الموقف ونقيضه بشكل معلن، وتتخذ أي منهما هدفاً حقيقياً لها في السر. ومن الممكن جداً ان يكون موقفها الحقيقي يختلف عن كلا الموقفين المعلنين. وفي حالة العراق هذه، قد لا تهدف الإدارة الامريكية، لا الى دعم الحكومة ولا الى دعم المتظاهرين، بل الى تحطيم كليهما والبلد كله. وهذه حالة ليست نادرة في ثورات الربيع العربي مثلا.

النقطة الثانية التي تتيحها لأميركا سيطرتها غير الاعتيادية على البلد، هي القدرة على إخفاء تلك السيطرة. فالسيطرة على الإعلام تتيح لها إخفاء سيطرتها على الحكومة، اما بتجاهل الإعلام لتلك السيطرة أو حتى بتوجيه الناس للاعتقاد بأن السيطرة هي لجهة معادية لأميركا، وتنمية المشاعر المضادة لتلك الجهة.

هذه هي الحقائق التي تجعل من بلدنا مختلفا، وتجعل فهمه بحاجة إلى تفكير أعمق، والبحث عن الحل، اصعب كثيراً.

إذا كنت تراني سوداوياً أكثر من اللازم، قارئي العزيز، فالسبب هو انك تنسى هذه الحقائق اعلاه.. أما انا فلا انسى واحدة منها ابداً.

إذا رأيتني متواضعا في طموحاتي، شكاكاً في المستقبل، وشديد القلق، فلأني ابسط امامي كل يوم صفحات هذا التاريخ المقلق والحاضر المخيف، ولا أرى الا فسحة ضيقة للنجاة.. فقد تركنا ال
هل من أمل أن نتمكن من توجيه التظاهرات لتنقذنا بدلا من أن تكمل تحطيمنا؟ نعم.. والشرط الأول ان نتحلى بالشجاعة اللازمة لمواجهة حقائق هذا الوضع شبه المستحيل.. الشجاعة الكافية لكي نستطيع ان نحدق في تلك الحقائق المخيفة دون ان نصاب بالدوار، ودون ان نبعد اعيننا عنها، وإلا..