ذاكرة ضيقة على الفرح 19
تاريخ النشر : 2019-11-11
ذاكرة ضيقة على الفرح 19


سليم النفار

19

لم تكن جامعة تشرين تبعد عن المخيم كثيراُ ، نخرجُ من السّطح المُنخفض ، والذي على تماسٍ مع موجات البحر ، الى الهضبة المُطلّة على الشوارع الواسعة ، حيث مُدخل المدينة والطريق المُحاطة بأشجار الكينا على الجانبين ، نركب اليها كل صباحٍ في باصات الحكومة ، ولكن غالباً ما نعود مشياً ، حيث نمرّ بمنطقة المشروع الأول وحي القلعة ، نتجاذب أطراف الحديث بما يشغلنا ، والذي على الأغلب يكون سياسياً أو في شؤونٍ ثقافية ، و تطول الطريق في تلك الشجون على الرغم من جماليات المسالك ، تلك التي نجتازها ، ولكنها تكون قصيرة ماتعة عندما تكون مع الصديقة الجميلة ، حيث لا حوار بغير شؤون القلب ، تلك اللحظات حيث ينشط القلب خارج فضاءات الأسى ، ولكنها سرعان ما تمضي ، ونفترق عند ساحة اليمن ، هي الى حي صليبة ، وأنا الى المخيم ، ليأتي المساء حيث سهراتنا عند الصديق محمود أبو حامد ، نلتقي في غالب الأيام هناك ، مع صحبة جميلة بعضهم رحل وترك في قلوبنا غصّة الفراق مثل الصديق الجميل بهاء العم علي ، وخالد البطل  وخالد متولي ، وبعضهم تبعثر حيث لا نعلم بأي بلاد يهيم ... على الرغم من نقاشاتنا الساخنة ، واختلافاتنا أحياناً حول فكرة ما ، في السياسة أو الثقافة ، لكنها كانت أيام رائعة كم نحن بحاجة اليها اليوم .  لم تكن الحالة تماماً في تمام صحتها ، فقد كان فيها الكثير من الأمراض ، التي أوصلتنا الى يومنا المتهالك ، غير أن كوّة الحلم لم تكن قد أُغلقت تماماً ، وكانت مساحة الاشتباك أكثر جدوى ، على الرغم من يقيني الثابت : أنّ أحداً لا يستطيع قطع الماء والكهرباء عن حلمنا ... ولكنّ عوامل الحتّ والتعرية السياسية ، تترك منعكسات سلبية على همم الناس واستعداداتهم ... ربّما في تلك الفترة - التي شهدت تنازعاً كبيراً بين القوى السياسية الفلسطينيية – لم يكن ممكناً اعادة التوهج الى الروح الفلسطينيية ، لولا الانتفاضة التي قلبت المعادلات كلها آنذاك ، على رؤوس مقاولي السياسة العربية ، ولكن ذلك القلب لم يدم طويلاً ، فسرعان ما غيرت الثعابين جلدها ، لتدخل دوراً جديداً مختلفاً ، في سياقات التفافية على ذلك التوهج الذي يحرجهم ، لكن أخطاء كبيرة وحوامل سياسية غير متناغمة ، وغير متناسبة طرداً مع الأفق السياسي الصحيح لحالتنا ، سرنا فيها وتناغمنا معها ، وكأنّها خشبة الخلاص ، ذاك الفهم وذاك السلوك ، ساعد المقاولين في ادارة العملية ، وكان طوق نجاة لهم .

في تلك الأيام التي شهدت تطوراً في مفرداتنا وأدواتنا الفنية ، كان أبو العبد يطور قدراته ، على رتق شباك الصيد ، هناك على التلة الملاصقة لمدرسة " جبع " ، يشرب كوبين أو أكثر من حليب السباع ، يدوزن رأسه ويده التي تُحيك شباكاً أو ترتق ، وابتسامة لا تُفارق وجهه ، ذاك الذي يشبه خارطة الوطن العربي .

التجاعيد ناتئة كجزر متباعدة ... توحي الى الناظر بوعورة المسالك ، وعتمة الدروب في قلب ذاك الرجل الستيني ، نجلس بالقرب منه عندما تأخذنا أقدامنا هناك ، نشتمُّ عبق البحر وندير حواراً لطيفاً معه ، لا يخلو من المُزاح والنِكات ، تلك محاولات لاقتناص لحظة انفراجٍ في تصاعد الحوارات ، التي تكون على أشدها فيما بيننا ، فترى أحدنا يلجأ الى أبي العبد قائلاً : شو رايك بسياسة جماعتنا يا ابو العبد ؟

من اليسير عليك أن تطرح السؤال على أبي العبد ، ولكن ليس من اليسير عليك أن توقف تدفقه الذي يبدأهُ بتأكيد عدم فهمه لتلك السياسة ، مُضيفاً لكنني أفهم شيئاً واحداً : طالما أنه لا يوجد حديث عن عودتي للطنطورة ، فليس هناك شيءٌ صحيح ، يقول ذلك باختصار ، ولكن يُتبع ذلك بسردٍ ممتدّ عن حكايات ابيه وجده ، عن البلاد التي ضاعت في غفلةٍ ، وكأنها ماءٌ تسرب من بين الأصابع !

غير أننا لم نكن نستوعب درس أبا العبد ، على الرغم من بساطته ، ومن ادعائنا للفهم المتقدم ، فترانا عندما نعود للحوارات ، نتكئُ على تفسيراتٍ  ذات صلة بالاستراتيجي والتكتيكي ، لنبرّر انحيازنا لتلك الفكرة ، التي تبني صرحاً منقوصاً لأحلامنا ، غير أن الانحياز له لم يكن الاّ لأنه فعلاً في السياق التجريدي للأشياء ، هو أول محاولة لرؤية الشكل المتجسّد للحلم ... فهل هو كذلك ؟