نظرات في مجموعة "على باب عينيك" للشَّاعر ناظم حسُّون بقلم:محمود مرعي
تاريخ النشر : 2019-11-06
نظرات في مجموعة "على باب عينيك" للشَّاعر ناظم حسُّون  بقلم:محمود مرعي


نظرات في مجموعة "على باب عينيك" للشَّاعر ناظم حسُّون

بقلم: الشَّاعر العَروضي محمود مرعي

إِنَّ منَ البَدهيَّات الَّتي تكشف جماليَّات الشِّعر العربي، أَنْ تشعر بانسياب الكلام، دون ترهُّل ودون حشو مفرط، يفقد الكلام جماله وبلاغته وسلاسته، فحين يطغى الحشو تشعر بثقل الكلام بدل خفَّته وانسيابه الَّذي يكسبه جمالًا، إضافة لباقي مقوِّمات الشِّعْر.

شاعرنا ناظم حسُّون، شاعر جزل العبارة، لشعره رونق لا يخفى، يجيد السِّباحة، ويغوص تحت السَّطح ويأتي بالدُّرر، الَّتي لا يقدر عليها إِلَّا الـمهرة، ولديه صور جميلة تشيع السُّرور في نفس القارئ، لكنَّه أحيانًا لا يعطي شعره حقَّه مِنَ العناية فيأتي على غير الـمتوقَّع، ولا غضاضة فالجواد يكبو وينهض.

شاعرنا في قصائده الغزليَّة نجده يقفو القدماء في تغزُّلهم، ونجده الفارس النَّبيل، وكذلك العاشق الـمتيَّم الَّذي يخاف افتقاد محبوبته، بل يخشى أَنْ يدركه الرَّدى، والمرأة عنده كائن رفيع فيقبِّل يدها (ص 49):

قَبَّلْتُ ظاهِرَ كَفِّها فَتَوَتَّرَتْ.. وَمَضَتْ حَرارَتُها إِلى أَرْجائي

على أَنَّ الـمعنى في عجز البيت فيه ما يقال، فالحرارة تسري وليس تمضي، والأرجاء، الأنحاء، وليست ممَّا يلائم إطلاقها على الجسد، ولو قال:

قَبَّلْتُ ظاهِرَ كَفِّها فَتَوَتَّرَتْ.. وَسَرَتْ حَرارَتُها إِلى أَعْضائي

ونراه يخشى على نفسه الهلاك لهجرها، كقوله (ص/46): 

فَصِحْتُ وَنارُ البَيْنِ تَجْتاحُ خافِقي.. وَقَدْ لَفَّها لَيْلُ النَّوى، آهِ مِنْ وَجْدي

حَنانَيْكِ يا لَيْلايَ وَالعِشْقُ قاهِرٌ.. وَهَجْرُكِ قَدْ يودي بِمُضْناكِ لِلَّحْدِ

توزَّعت نصوص الـمجموعة بين مقطوعات لم تبلغ حدَّ القصيدة، وقصائد، وقصائد تفعيليَّة، وتنقَّل في مضامينه بين الغزل والحبِّ وخوف الفراق والجوى، وبين حبِّ المكان، فهو يكتب لحيفا  ولمصر ولشفاعمرو ولعَمَّان، لكنَّ المكان عنده بأهله، فحبُّه لساكن المكان، ولا ينسى شاعرنا والدته، كذلك للفيسبوك نصيب وشكر لأنَّه أهدى إليه الحبيب، وقد أجاد شاعرنا في جميعها، ولا غرابة فهو مِنْ شعرائنا الـمجيدين، وعليه، فالنَّقد لا بدَّ أَنْ يكون حازمًا معه، بمعنى رؤية القوَّة والوهن، والتَّحليق والهبوط، وسنقبس بعض القبسات منعًا للإطالة، وسنقف على بعض جوانب المجموعة، ولنا أَنْ نبدأ مع معانيه الَّتي حلَّق فيها، ثمَّ نعرِّج على الـمعاني الَّتي لم نر الشَّاعر أفلح فيها، ثُمَّ الأخطاء النَّحويَّة، ثُمَّ الأوزان، حيث وجدنا لديه هنات هنا وهناك.


التَّحليق الإبداعي:

في قصيدته "أنت كأسي/14-16" وهي مِنَ الخفيف، مطلعها:

أنْتَ كَأْسي وَخَمْرَتي وَنَديمي.. وَحَياتي وَجَنَّتي وَنَعيمي

وممَّا جاء فيها:

وَشَذا الرُّوحِ حينَ نَفْحُ شَذاها.. يَتَهادى عَلى جَناحِ النَّسيمِ

أنت لِلْقَلْبِ نَبْضُهُ حينَ تَغْدو.. نَبْضَةُ القَلْبِ مِثْلَ وَمْضِ النُّجومِ

وَأَعَدْتَ الحَياةَ لي مِنْ جَديدٍ.. كَانْبِعاثِ الرَّبيع بَعْدَ الهَشيمِ

أَنْتَ كَالنَّبْعِ حينَ يَسْري زُلالًا.. رائِقَ الدَّفْقِ مِنْ صُخورِ هُمومي

أَيُّ سِحْرٍ أَتَيْتَ فيهِ عَظيمٍ.. هُوَ سِحْرُ العَصا بِكَفِّ الكَليمِ

هذه الأبيات نجد فيها، إسقاط الـمعنوي على الحسِّي (أَي الـمُدرك بالحواسِّ)، إسقاط الحسِّي على الحسِّي، إسقاط الحسِّي على الـمعنوي.

الأوَّل: شذا الرُّوح، معنوي، لا ندرك كنهه، لكِنْ جناح النَّسيم، حَتَّى وإن كنَّا لا نبصره، فإنَّنا نحس به مِنْ خلال أثره فينا، بردًا، حرًّا، ناعمًا، شديدًا، وعاطرًا، أو خبيثًا، كلُّها ندركها دون أَنْ نرى النَّسيم، وبالتَّالي يكون شذا الرُّوح طيِّبًا محمولًا على النَّسيم، فقد انتقل مِنَ الـمعنوي إلى الحسِّي الـمُدرك بأثره.

في البيت الثَّاني إسقاط محسوس على محسوس:

أنت لِلْقَلْبِ نَبْضُهُ حينَ تَغْدو.. نَبْضَةُ القَلْبِ مِثْلَ وَمْضِ النُّجومِ

المحسوس الأول باللَّمس، والثَّاني بالنَّظر، والمشترك هنا هو الخفق، فخفق القلب ينتج في جانب منه النَّبض، وخفق النَّجم هو ضوءُه القادم مِنْ بعيد على شكل ومض نور يَبينُ ويخفى، وخفاؤه أشبه بالسَّكون بين كلِّ نبضتين للقلب.

في البيت الثَّالث: الصُّورة مقلوبة، إسقاط معنوي على حسِّي وكلاهما حياة:

وَأَعَدْتَ الحَياةَ لي مِنْ جَديدٍ.. كَانْبِعاثِ الرَّبيع بَعْدَ الهَشيمِ

تشبيه رائع، فهي هنا معادل للمطر الَّذي يروي الأرض فتنبت وتزهر بعد فصل الجفاف، وبعد أَنْ يكون الأخضر قد تحوَّل هشيمًا يابسًا، فينبعث الرَّبيع مِنْ خلاله، وهذا يعني انبعاث الحياة، وهي تمثِّل انبعاث حياته تمامًا كانبعاث الرَّبيع بعد الهشيم، وفي القرآن الكريم نجد الصُّورة عينها:

﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5].

شبَّه نفسه بالأرض الهامدة، وهي الـمطر يسقط عليها فيبعثها مِنْ جديد، وهذا التَّناصُّ القرآني زاد رونق البيت وأكسبه جماليَّة، وفي الـمعنيين عند شاعرنا قاسم مشترك، هو الحياة، ونلمح ما يشبه الجناس، في الانبعاث، (أعدت الحياة) (كانبعاث الرَّبيع) وهو حياة له أيضًا.

في البيت الرَّابع أيضًا إسقاط الحسِّي على الـمعنوي:

أَنْتَ كَالنَّبْعِ حينَ يَسْري زُلالًا.. رائِقَ الدَّفْقِ مِنْ صُخورِ هُمومي

فالنَّبْعُ محسوس ومُدرك بالبصر، لكنَّه يتدفَّق مِنْ صخور همومه، وهذه شيء معنوي، نحسُّ بأثره مِنْ ضيق الصَّدر، لكنَّها ليست ممَّا يُرى، بل لا يحسُّ بها غير مَنْ يشكو ثقل الهموم على صدره، بينما النَّسيم يحسُّ الجميع به وبما حمل، وإن كان لا يدرك بالبصر، ونقف على معنى جميل، وهو انبثاق النَّقيض منَ النَّقيض، فالنَّبع يمثِّلُ الرِّقَّة واللِّين، وصخر الهموم يمثِّل الصَّلابة وقسوة الحال والثِّقل، وانفجار الرِّقَّة مِنَ الصَّلد يضفي جمالًا على روح البيت.

البيت الخامس إسقاط معنوي على حسِّي:

أَيُّ سِحْرٍ أَتَيْتَ فيهِ عَظيمٍ.. هُوَ سِحْرُ العَصا بِكَفِّ الكَليمِ

وِالـمشترك بينهما هو السِّحر، فسحرها يقلب الأشياء كعصا موسى، لكنْ هنا ملاحظة جديرة بالتَّسجيل، ونرى أنَّ شاعرنا جانب الصَّواب، فعصا موسى لم تنقلب بالسِّحر إلى ثعبان، بل انقلبت ثعبانًا على الحقيقة، وهذا ما صدم السَّحرة وجعلهم يؤمنون بموسى، لأنَّها لو انقلبت بطريق السِّحر لعرفوا، فهم أرباب السِّحر، وصلت قدرتهم أَنْ يسحروا أعين النَّاس فيروا الحبال والعصيَّ أفاعي تنساب، لكنَّهم أبصروا أمرًا خارقًا لم يألفوه ولا يندرج في إطار ممارستهم وسحرهم، فقد رأوا عصا تتحوَّل إلى ثعبان على الحقيقة وتلتهم حبالهم وعصيَّهم ثمَّ ترجع عصا، ولذلك لا أرى شاعرنا وُفِّقَ في الأمر هنا، ففعل عصا موسى لم يكن سحرًا، بل انقلبت العصا ثعبانًا حقيقيًّا.

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ  فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)}. هذه الآيات من سورة الأعراف، تكشف بوضوح حيثيَّات ما جرى مع موسى، لقد استرهب السَّحرة النَّاس بسحرهم، ثُمَّ ألقِ عصاك فإذا هي تلقف، أَي أَنَّ السَّحرة رأوا العصا انقلبت حقيقة إلى أفعى، وليس الأمر كما يفعلون مِنْ سحر أعين النَّاس، فحبالهم وعصيُّهم لم تكن تتحرَّك حقيقة، لكِنْ تأثيرهم كان على أعين النَّاس بحث جعلوا النَّاس يرون الحبال والعصيَّ تتحرَّك، وهي ثابتة حقيقة، لكنَّهم عندما ألقى موسى رأوا العصا كيف انقلبت إلى ثعبان وراح يلتهم حبالهم وعصيَّهم حقيقة، ثُمَّ يرجع عصا، وهو ما جعلهم ينقلبون على فرعون (الحاكم) ويخرُّون سجَّدًا، ويؤمنون بموسى وإلهه.

هذه الصور عند شاعرنا كثيرة وهي شهادة له، حَتَّى وإن أخفق في جانب فقد أصاب في جوانب كثيرة.

ردُّ الأعجاز على الصُّدور:

وهو مِنَ المحسِّنات البديعيَّة الَّتي تنشأ عن تكرار لفظين متَّفقين في اللَّفظ والمعنى أو متجانسين، أو كان يجمع بينهما الاشتقاق أو شبهه. ويكون أحدهما في أوَّل البيت والآخر في آخره أو في حشوه، كقول الشَّاعر  في قصيدة حنين/الكامل/9- 11):

أُعْطيكَ مِنِّي يا حَبيبي ما تَشا.. حَتَّى الحَشا إِنْ شِئْتَهُ أُعْطيهِ

لكِنَّ شاعرنا لم ينتبه أَنَّ الفعل "أعطيه" جواب الشَّرط، والواجب حذف يائه، ولو قال: (حَتَّى الحشا عَنِ طيبة أُعطيه)، لكان أوفق ولسلم، ولو كان البيت:

أُعْطيكَ مِنِّي يا حَبيبي ما تَشا.. حَتَّى الحَشا عَنْ طيبَةٍ أُعْطيكَا

لبلغ الغاية، لكِنَّ القافية تحكم.

كذلك البيت الَّذي يليه:

وَالحُبُّ أَنْ تُعْطي حَبيبَكَ سُؤْلَهُ.. فَعَساكَ تُعْطيهِ الَّذي يُرْضيهِ

أَيْضًا هنا، تُعْطي، تُعْطيهِ.

وَكَذلِكَ في قصيدته (ياطبيب القلوب/ الخفيف/19-20)

يا طَبيبَ القُلوبِ ما بالُ قَلْبي.. نازِفَ الحُزْنِ، يا طبيبَ القُلوب

جاء به في أكثر مِنْ كلمة (يا طَبيبَ القُلوبِ).

وكذلك في الـمقطوعة (أما لِهَواكَ مِنْ حَدِّ/ كامل أحذ مضمر/33- 34):

لَمْ يَبْقَ مِنْ جَسَدي سِوى جِلْدي.. وَنُثارِ قَلْبٍ ظَلَّ في الجِلْدِ

(جِلْدي، الجِلْدِ). وفي البيت الأخير منها:

فَإِذا قَضَيْتُ وَأَنْتِ لَمْ تَصِلي.. فَلِمَنْ يَجوزُ الوَصْلُ مِنْ بَعْدي

(تَصِلي، الوَصْلُ).

أو كقوله في قصيدة (قولوا لها/ الكامل/40- 42):

فَالرُّوحُ مَسْكَنُها وَلَيْسَ لِغَيْرِها.. تَهْفو وَلا تَرْتاحُ في سُكْناها

(مسكنها، سكناها).

أو قوله في قصيدة (أَنْتِ الرِّهان/الكامل/53- 56):

أَنْتِ الرِّهانُ عَلى زَماني وَالـمُنى.. فَعَسايَ أَرْبَحُ في هَواكِ رِهاني

(الرِّهانُ، رِهاني).

كذلك قصيدته (ربيع في خريف العمر/ الوافر/61- 63)، وفيها عدَّة أبيات:

وَيُرْجِعُهُ إِلى عَهْدٍ تَوَلَّى.. وَما أَحْلى الرُّجوعَ لِـما تَوَلَّى

تَجَلَّى اللهُ في سِحْرِ الصَّبايا..بِما وَهَبَ الصَّبايا إِذْ تَجَلَّى

وَلَوْلا ما تَجودُ بِهِ عَلَيْنا.. وُرودٌ مِثْلَما الأَحْلامُ لَوْلا

يَقولُ النَّاسُ إِنَّ الحُبَّ جَهْلٌ.. وَنَرْضى أَنْ يَكونَ الحُبُّ جَهْلَا

(تَوَلَّى، تَوَلَّى/ تَجَلَّى، تَجَلَّى/ لَوْلا، لَوْلا/ جَهْلٌ، جَهْلَا)، وهناك الكثير سوى ما ذكرنا.

جماليَّات الحسِّي في الغزل:

يستغرق شاعرنا في الوصف، في غزله، لكنَّه يظلُّ في نطاق الغزل البريء غير ذي الإثم والفحش، وَمِنْ جماليَّات غزله قوله في قصيدة (كيف لا أعتذر/مجزوء الرَّمَل/43- 44):

فَبِعَيْنَيْكِ أَرى العَنْبَرَ في فِنجانِ مَرْمَرْ

وَبِخَدَّيْكِ أَرى اللَّوْزَ عَلى خَدَّيْكِ نَوَّرْ

وَأَرى العُنَّابَ وَالمِشْمِشَ وَالخَوْخَ الـمُعَطَّرْ

وَعَلى ثَغْرِكِ أَغْفى غُصْنُ رُمَّانٍ وَأَزْهَرْ

وَتَهاوى قُرْصُ شَهْدٍ مِنْ لَـماهُ الشَّهْدُ ثَرْثَرْ

كُلُّ مَنْ جُنَّ بِما يُبْصِرُ في بَدْرِكِ يُعْذَرْ

جمال النَّصِّ هنا أَنْ نتركه ينطق عَن نفسه، دون أَنْ نرهقه بشرح قد يذهب ببعض جماله.

كذلك قصيدته (أنتِ الرِّهان/الكامل/ 53- 56)، والَّتي يكاد كلُّ بيت يستقِلُّ بنفسه جمالًا، ونقتبس بعضها:

عَيْنانِ حَوْراوانِ يا لي مِنْهُما.. بِهِما الدُّجى وَالصُّبْحُ يَلْتَقِيانِ

الحَوَرُ شِدَّةُ سواد المُقْلَةِ في شدّة بياضها، يقابله سواد الدجى وبياض الصُّبح.

وَعَلَتْ بَياضَ الخَدِّ لَـمْعَةُ حُمْرَةٍ.. مَمْزوجَةٍ كَمَفالِقِ الرُّمَّانِ

وَكَأَنَّ لِلْبَلُّورِ فيها لَهْفَةً.. مَشْبوبَةً كَشَقائِقِ النُّعْمانِ

وَكَأَنَّها عِنَبُ الكُرومِ تَهَدُّلًا.. وَقُطوفُها لِلنَّاظِرينَ دَوانِ

وَالأَنْفُ كَالسَّيْفِ الصَّقيلِ، وَنَفْحُهُ.. لَـمَّا سَرى صَوْبي بَخورَ لُبانِ

أَوْ رَوْضَةٌ قَدْ أَرْسَلَتْ أَنْفاسَها.. طَيَّ النَّسيمِ الهائِمِ الحَيْرانِ

وَفَمٌ أَراقَ الوَرْدُ ناطِفَ شَهْدِهِ.. فَتَنَعَّمَتْ بِرَحيقِهِ الشَّفَتانِ

نكتفي بهذا القدر، وفي القصيدة كثير.

يكتب شاعرنا لحيفا (في حُبِّ حَيْفا/ الكامل الأحذّ/ 57- 60):

سَجَدَ الجَمالُ لَها وَقَبَّلَها.. وَأَقامَ فَوْقَ الـمَجْدِ مَعْقِلَها

يرينا الشَّاعر حيفا قدِّيسة أو إلهة في القمم، والجمال يسجد لها، ويحلُّها بين النُّجوم، ويضيء بالآمال كرملها، ويطأطئ البحر خجلًا، ويبلِّلها برذاذه العطريِّ، قصيدة نرى حيفا مِنْ خلالها لوحة فنِّيَّة نقشت بريشة رسَّام مبدع، ويستمرُّ شاعرنا يسبغ على حيفا التَّبجيل والتَّمجيد، حَتَّى يرينا محبَّة أهلها لبعضهم مِنْ خلال محبَّتها الَّتي وهبتْ لهم، إلى أَنْ يختم بالقول:

وَالنَّاسُ فيها أُخْوَةٌ فُطِروا.. سُبْحانَ مَنْ بِالحُسْنِ كَمَّلَها

في حُبِّ حَيْفانا بَذَلْتُ دَمي.. وَمِنَ القَصائِدِ صُغْتُ أَجْزَلَها

ويكتب لمصر (في حضرة النِّيل/ البسيط/ 64- 67):

في حَضْرَةِ النِّيل جُدْ بِالشِّعْرِ يا شِعْرُ.. وَاخْشَعْ جَلالًا وَحُبًّا.. إِنَّها مِصْرُ

هُنا الحَضارَةُ وَالتَّاريخُ قَدْ وُلِدَا.. فَالدِّينُ وَالعِلْمُ وَالعِمْرانُ وَالفِكَرُ

ولا يقلُّ تمجيد مصر وتقديسها عَنِ حيفا، فشاعرنا مغرم بها، يصوِّرها ويرينا ما التقطت عدسة فكره وما سطَّرت ريشته، فإذا نحن أمام لوحة بديعة الجمال، يطلُّ التَّاريخ مِنْ خلال ألوانها ونضارتها، مزهوًّا مفتونًا، بأنَّ هناك مَن يقدِّره عبر العصور ولا ينساه، ويستمرُّ شاعرنا في وصف جمال مصر ومحاسنها حَتَّى يكشف عَنِ عجزه أمام جمالها الباهر ومكانتها القدسيَّة:

تَبارَكَتْ مِصْرُ بِالأمجادِ وارِفَةً.. وَبورِكَ النِّيلُ حَيْثُ الخِصْبُ وَاليُسْرُ

ماذا أَقولُ بِشِعْري عَنْ مَآثِرِها.. وَهَلْ تُطالُ بِشِعْري الأَنْجُمُ الزُّهْرُ

أَنا الـمُتَيَّمُ، لا لَوْمٌ وَلا عَتَبٌ.. وَقَدْ تَساوى لَدَيَّ السِّرُّ وَالجَهْرُ

قالوا: هُوَ الشَّوْقُ كَمْ أَوْدى بِصاحِبِهِ.. فَقُلْتُ: يا لَيْتَهُ... لكِنَّهُ الجَمْرُ

مِنْ عادة الشَّاعر أَنْ يبدأ بذكر بلده ومرابع صباه، ومهما أحبَّ مِنَ البلدان يظلُّ بلده هو الأجمل بعينيه والأطيب ريحًا وناسًا، ولا أدري هل تعمَّد شاعرنا تأخير قصيدته عَنْ بلده ومسقط رأسه شفاعمرو، أم أَنَّ الأمر جاء عفو الخاطر، وليس الأمر ذا بالٍ، وها هي نبرته في حديثه عَنِ بلده تأتي مميزة قويَّة تختلف عَنها في وصف حيفا ومصر، فمسقط الرَّأس، كما يقول المثل (خيرنا مِنْ أكتافه)، ونظلُّ مدينين له مهما شطَّ بنا الـمكان ونأينا عنه، فالحنين إليه لا ينطفئ.

قصيدة (شفاعمرو/ الخفيف/ 72- 73):

هذه القصيدة، كما قلت، تختلف نبرة الشَّاعر فيها، كيف لا؟، وهي مهد طفولته ومرابع صباه، وما يفارقها إِلَّا ليرجع إليها. لغة الشَّاعر هنا مفعمة عزَّة  ولا تخفى نبرة الفخر والقوَّة في مفرداتها، وهذا دليل على ما لشفاعمرو في نفس شاعرنا، وكأنَّه حين يكتب عنها تعتريه نشوة:

يا شَفاعَمْرو يا عَرينَ الأُسودِ.. يا جَبينًا مُكَلَّلًا بِالوُرودِ

زادَكِ الدَّهْرُ رِفْعَةً وَجَمالًا.. وَتَعالَيْتِ فَوْقَ كُلِّ الحُدودِ

لَكِ ذِكْرٌ عَلى الزَّمانِ ثَرِيٌّ.. خالِدٌ ظَلَّ مُمْعِنًا في الخُلودِ

إذا أخذنا هذه الأبيات الثَّلاثة، وفق مؤشِّر م/ع، نجد البيت الأوَّل مؤشِّره منخفض جدًّا، ربَّما كان الشَّاعر يدير الأفكار وما سيكتب عَنِ بلده، فلم يكن تركيز، لكِن البيت الثَّاني والثَّالث ارتفع الـمُؤشِّر بصورة حادَّة، وَمِنْ سياقهما والفخر الَّذي فيهما يمكن معرفة سرِّ ارتفاع المؤشِّر:

يا/ شَفا/عَمْـ/رو/ يا/ عَريـ/نَ ٱل/أُسو/دِ/.. يا/ جَبيـ/نًا/ مُكَلْ/لَّلًا/ بِالـ/وُرو/دِ

2/ 3/ 2*/2/2/ 3/ 2*/ 3/ 2 ...............  /2/3/2*/3*/3*/2*/3/2 = 6÷ 11= 0،5454

زادَكِ الدَّهْرُ رِفْعَةً وَجَمالًا.. وَتَعالَيْتِ فَوْقَ كُلِّ الحُدودِ

2/3*/2*/3*/3*/1/3/2ّ*/.. 1/3/2*/3*/3*/2ّ*/3/2/ 9÷ 5= 1،8

لَكِ ذِكْرٌ عَلى الزَّمانِ ثَرِيٌّ.. خالِدٌ ظَلَّ مُمْعِنًا في الخُلودِ

1/3*/2*/3*/ 3/1/3*/2*/.. 2/3*/2*/3*/3*/2*/3/2/ 10 ÷ 4= 2،5

بعد أَنْ سطَّر البيت الأوَّل تجلَّت له شفاعمرو الَّتي يعرفها ويحبُّها، فَعِلَتُ النَّبرة واعترته نشوة الفخر ببلده، فارتفع الـمؤشِّرُ تلقائيًّا، كونها تستحقُّ منه ما يسطِّر فيها.

وعلى هذا الـمنوال مِن الفخر ببلده ينسج شاعرنا، ويتوقَّف عند تآخي الأديان بين أهلها:

تَتَآخى الأَدْيانُ بِالوُدِّ فيها.. فَوَدودٌ مُعانِقٌ لِوَدودِ

لا تَرى بَيْنَ أَهْلِها مِنْ خِلافٍ.. لَيْسَ فيها مِنْ سَيِّدٍ وَمَسودِ

إلى أَنْ يختم بها، فهي عنده الشِّعرُ وبيتُ القصيد، وهي شريان قلبه والوريد:

وَهْيَ بَيْتُ القَصيدِ في كُلِّ شِعْرٍ.. أَيِّ شِعْرٍ وَأَيِّ بَيْتِ قَصيدِ

يا شَفاعَمْرو أَنْتِ شِرْيانُ قَلْبي.. كُلَّما هَزَّني الهَوى، وَأَنْتِ وَريدي

ويكتب عَن عمَّان فإذا هي حبُّه القديم، الَّتي لا ينسيه الغياب هواها.

قصيدة (في حُبِّ عَمَّان/ الرَّمَل/ 74- 76):

آهِ يا عَمَّانُ يا حُبِّي القَديمْ.. فيكِ قَلْبي مِنْ لَظى الوَجْدِ سَقيمْ

لا غِيابي عَنْكِ يُنْسيني الهَوى.. لا وَلا بَعْدُكِ يُنْسيني الهُمومْ

كَمْ دَرَجْنا فَوْقَ هاماتِ الرُّبى.. وَلَـمَسْنا الحُبَّ مِنْ شَعْبٍ كَريمْ

ويمضي يحكي عَن هوى عمَّان، ثُمَّ تصبح عمَّان الأردنَّ كلَّه:

يا أَريجَ الزَّهْرِ وَالطَّيْرُ شَدا.. أَنْتَ يا أُرْدُنُّ في قَلْبي مُقيمْ

يا حَبيبي يا غَرامي وَالهوى.. أَنا أَهْواكَ وَفي حُبِّي أَهيمْ

إلى أَنْ يختم بالقول:

أَنْتَ خَفْقُ القَلْبِ في أَفْراحِهِ.. وَبِكَ الرُّوحُ مَدى العُمْرِ تَهيمْ

أَصْداء

يتميَّز شاعرنا بثقافة عالية واطِّلاع واسع، وكانت تطرق سمعي وأنا أقرأه أصداء أصوات قديمة وحديثة، وأصداء قرآنية (تناصّ)، وهذه بعض الأمثلة:

في قصيدته (حَتَّى متى/ الكامل الأحذّ/ 12- 13):

حَتَّى مَتى سَأَظَلُّ أَنْتَظِرُ.. وَهَواهُ لا يُبْقي وَلا يَذَرُ

قوله (لا يُبْقي وَلا يَذَرُ) يعيد أصداءً، أحدها للشَّاعر السُّعودي حسين بن علي بن سرحان الرُّويس العتيبي (ولد في مكة المكرمة عام 1914م)، وهو قوله:

لَوْ لَمْ يَعِشْ كانَ أَحْجى بَيْدَ أَنَّ لَـهُ.. حَظًّا مِنَ الشِّقْوِ لا يُبْقى وَلا يَـذَرُ

وكذلك قول الشَّاعر فوَّاز اللَّعبون (شاعر وأكاديمي سعودي، ولد عام 1975 في الرِّياض):

إِنَّ الحَليمَ إِذا ثارَتْ حَمِيَّتَهُ.. مِثْلُ العَواصِفِ لا يُبْقي وَلا يَذَرُ

وقد قرأناها للشَّاعر أحمد مطر، وسمعتها بصوت الشَّيخ أحمد القطَّان قبل غزو العراق للكويت:

لَوْ أَنَّ أَرْبابَ الحِمى حَجَرُ،

لَحَمَلْتُ فَأْسًا فَوْقَها القَدَرُ،

هَوْجاءُ لا تُبْقي وَلا تَذَرُ؛.....الخ.

ويظلُّ التَّعبير القرآني سابقًا الكلُّ، والكلُّ فيه شركاء، ويقول شاعرنا في نفس القصيدة:

الرُّوح في الهُجْرانِ باكِيَةٌ.. وَالقَلْبُ.. كادَ القَلْبُ يَنْفَطِرُ

عجز البيت سمعت مِنْ خلاله صدى شاعرنا الـمتألِّق نزيه حسُّون، ولا غرابة، فهو ابن عمِّ شاعرنا، رنَّ في سمعي صدى نزيه في مجموعته (أبحث عَنِ جسد يلد النَّصر/ قصيدة: أيا بيروت أطلب منك معذرة/ الوافر التَّام):

فَصَمْتُ الأَهْلِ مَزَّقَ وَجْهَ أُغْنِيَتي.. إِلامَ الصَّمْتُ كاد القَلْبُ يَنْخَلِعُ

مَفاعيلُنْ مُفاعَلَتُنْ مُفاعَلَتُنْ.. مَفاعيلُنْ مَفاعيلُنْ مُفاعَلَتُنْ

(كادَ القَلْبُ يَنْفَطِرُ)، (كاد القَلْبُ يَنْخَلِعُ)، نفس الصَّوتِ.

كذلك قول الشَّاعر في نفس القصيدة:

وَصَبَرْتُ حَتَّى لاتَ مُصْطَبَرٍ.. عَلِّي أُلاقي مِثْلَ مَنْ صَبَروا

صدر البيت أعاد صدى شاعرنا العظيم الـمُتنبِّي وقوله:

لَقَدْ تَصَبَّرْتُ حَتَّى لاتَ مُصْطَبَرٍ ... فَالآنَ أَقْحَمُ حَتَّى لاتَ مُقْتَحِمِ

(وَصَبَرْتُ حَتَّى لاتَ مُصْطَبَرٍ)، (تَصَبَّرْتُ حَتَّى لاتَ مُصْطَبَرٍ)، وبيت شاعرنا الـمتنبِّي مِنَ الشَّواهد الَّتي اختلفوا حولها، فقد زعم الفرَّاء أَنَّ لات تستعمل حرفًا جارًّا لاسم الزَّمان خاصَّة، كما أَنَّ مذ ومنذ كذلك.

وقد جرى المتنبِّي على هذا القول بقوله:

لَقَدْ تَصَبَّرْتُ حَتَّى لاتَ مُصْطَبَرٍ ... فَالآنَ أَقْحَمُ حَتَّى لاتَ مُقْتَحِمِ

قال أبو البقاء: والجرُّ به شاذٌّ، وقد جرَّ به العرب وأنشدوا:

طَلَبوا صُلْحَنا وَلات أَوانٍ.. فَأَجَبْنا أَنْ لاتَ حينَ بَقاءِ

كذلك قوله في البيت الأخير مِنْ نفس القصيدة:
إِنْ كانَ لي ذَنْبٌ فَمَغْفِرَةً.. وَأَنا الـمَلومُ وَمِنْهُ أَعْتَذِرُ

يقول (إِنْ كان لي ذنب) أَي لا يعلم ذنبًا، ورغم ذلك يلوم نفسه ويعتذر، وعجز البيت يعيد صدى جميل بثينة في قوله:

خَليلَيَّ، فيما عِشْتُما، هَلْ رَأَيْتُما.. قَتيلًا بَكى، مِنْ حُبِّ قاتِلِهِ، قَبْلي؟

قتيلٌ يبكي مِنْ حبِّ قاتله، تماما كشاعرنا غير ذي ذنب ويعتذر.

كذلك قوله في قصيدة (قولوا لها/الكامل/ 40- 42):

يا جُلَّنارَ الرُّوحِ حَسْبي في الهَوى.. أَنِّي بِحُبِّكِ قَدْ عَرَفْتُ اللهَ

عجز البيت يعيد أصداء عدَّة، فقد طرق الـمَعنى كثيرون، ومنهم الشَّاعر الـمهجري إيليَّا أبي ماضي في قصيدته (ليل الأشواق) يقول في آخر بيت منها:

أَنَا بِالحُبِّ قَدْ وَصَلْتُ إِلى نَفْسي (م) وَبِالحُبِّ قَدْ عَرَفْتُ اللهَ!

وهناك من استغرق في الـمعنى أكثر فصار في هواها يعبد الله، كهذا الشِّعر:

فإن عبدتها لا إشراك بالله.. لأنَّنى فى هواها أعبد اللهَ

رغم الخلل في وزن صدر البيت، وقد غنَّاه الـمطرب لطفي بشناق، وغناه كذلك الوشَّاح أديب الدَّايخ.

أصداء قرآنيَّة:

في قصيدته (حَتَّى متى/ الكامل الأحذّ/ 12- 13):

حَتَّى مَتى سَأَظَلُّ أَنْتَظِرُ.. وَهَواهُ لا يُبْقي وَلا يَذَرُ

(لا يبقي ولا يذر) تناصٌّ مع الآية الكريمة (28/الـمُدَّثِر):

{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ}.

قوله في قصيدة (أنتِ كأسي/ الخفيف/ 14- 16):

وَأَعَدْتِ الحَياةَ لي مِنْ جَديدٍ.. كَانْبِعاثِ الرَّبيعِ بَعْدَ الهَشيمِ

تناصٌّ معنوي مع الآية الكريمة (5/الحجّ):

﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾.

قوله في قصيدته (لأنَّك لست ككلِّ النِّساء/ تفعيليَّة فَعولُنْ/ 24- 28):

تَعالَيْ وَكوني ضَلالي

وَكوني هُدايا

وَلا تَتْرُكيني أَهيمُ مَعَ الشِّعْرِ في كُلِّ وادٍ

تناصٌّ مع الآيتين الكريمتين (224- 225/ الشُّعراء):

{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)}.

لم نُشرْ إلى قوله (ص 16):

أَيُّ سِحْرٍ أَتَيْتَ فيهِ عَظيمٍ.. هُوَ سِحْرُ العَصا بِكَفِّ الكَليمِ

وذلك لأنَّ ما جرى لعصا موسى لم يكن سحرًا بل كان معجزًا إليهيًّا حوَّل العصا إلى ثعبان على الحقيقة، وليس كحبال السَّحرة وعصيِّهم، الَّتي سحروا بها أعين النَّاس بينما السَّحرة أنفسهم يرونها حبالًا وعصيًّا، ولو أَنَّ ما وقع لعصا موسى كان سحرًا لَـما آمن السَّحرة، لأنَّهم يميِّزون بين السِّحر والمعجزة الخارقة للقوانين، ولذلك حين رأوا العصا تلقف الحبال والعصيَّ خرُّوا سُجَّدًا وآمنوا، لأنَّ ما شاهدوه كان حقيقة وليس تخييلًا وسحرًا.

لو قال كذا بدل كذا:

كثيرًا ما يريد الشَّاعر الـمعنى الرَّائع الـمحلِّق، لكنْ لا يقف عليه، أو يعييه اصطياده، ويأتي تعبيره ضعيفًا نوعًا ما، وهذا ما قصدته، أَيْ لو قال كذا بدل كذا، لكان أجمل، يقول (ص 14):

وَحَبيبي وَهَلْ سِواكَ حَبيبي.. مِنْ جَديدٍ في خافِقي أَوْ قَديمٍ

عجز البيت ضعيف، ولو قال:

وَحَبيبي وَهَلْ سِواكَ حَبيبٌ.. مُسْتَجِدٌّ في خافِقي أَوْ قَديمُ

لكان بلغ الغاية، ويبقى عليه مناسبة القافية مع باقي القوافي.


يقول (ص 18):

يُفَرِّقُنا الزَّمانُ فَلا وِصالٌ.. فَوَيْلي مِنْ فِراقِكِ إِذْ يَطولُ

ولو قال:

وَيُقْصينا الفِراقُ فَلا وُصولُ

يقول (ص 30):

وَتَسْكُنُ في حَنايا القَلْبِ

بَيْنَ الكافِ وَالنُّونِ

لو قال:

إِثْرَ الكافِ وَالنُّونِ

فتعبير (بين الكاف والنُّون) مِنَ الأخطاء الشَّائعة، ويقصد به قول الله تعالى (كُنْ فَيَكون)، فحتَّى التَّعبير الإلهي يؤكِّد أَنَّ الأمر يتمُّ بعد لفظ (كُنْ) وليس بين الكاف والنُّون، والقول (بين الكاف والنُّون) خطأ شائع على ألسنة النَّاس، وكثيرًا ما سمعناه مِنَ الخطباء والدُّعاة.

قوله (ص 38):

خَدَرٌ سارَ في عُروقِ عُروقي.. كَدَبيبِ الفَناءِ في الأَجْسامِ

استعماله الفعل سار للخدر لا يستقيم، لأنَّنا نستعمل الفعل يسري، ولن يختلَّ الوزن.

قوله (ص 48):

كوني شَواطِئَ ثَوْرَتي، وَتَقَبَّلي.. إِنْ هَبَّ صَوْبَكِ هادِرًا إِعْصاري

الفعل كوني فِعْلُ أمر، والفعل تقبَّلي رغم أَنَّهُ أمر، إِلَّا أَنَّ فيه ضعفًا ونوعًا مِنَ الرَّجاء، لا يستقيم مع الفعل كوني، ولو قال: وَاسْتَقْبِلي، فهو أَيْضًا أمر وفيه قوَّة الأمر، كونه ليس في موقف رجاء:

كوني شَواطِئَ ثَوْرَتي، وَاسْتَقْبِلي.. إِنْ هَبَّ صَوْبَكِ هادِرًا إِعْصاري 

قوله (ص 49):

قَبَّلْتُ ظاهِرَ كَفِّها فَتَوَتَّرَتْ.. وَمَضَتْ حَرارَتُها إِلى أَرْجائي 

استعماله الفعل مضت للحرارة لا يستقيم، فهي كالخدر، وقد ذكرناه، ولو قال وسَرَتْ لكان هو التَّعبير الصَّحيح، كذلك استعماله أرجائي، ولا تستعمل كلمة الأرجاء للجسم، أَرْجاءُ الْمَعْمورَةِ: رِحابُها بادِيَةٌ مُنْبَسِطَةٌ فَسيحَةُ الأَرْجاءِ، الرَّجا: النَّاحيةُ، والأرجاء النَّواحي، وفي القرآن الكريم (وَالمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا/ الحاقة آية 17) أَي السَّماء. ولو قال أعضائي لأصاب:

قَبَّلْتُ ظاهِرَ كَفِّها فَتَوَتَّرَتْ.. وَسَرَتْ حَرارَتُها إِلى أَعْضائي

قوله (ص 51):

فَإِذا انْتَهَيْتُ فَكَفْكِفي ما قَدْ جَرى.. بِيَدِ الرِّضى مِنْ دَمْعِيَ الـمُهْراقِ

ولو قال:

فَإِذا انْتَهَيْتُ فَكَفْكِفي بِيَدِ الرِّضى.. ما قَدْ جَرى مِنْ دَمْعِيَ الـمُهْراقِ

لكان أجمل وأوفق معنى وسبكًا.

قوله (ص 55):

فَعَلامَ حُكْمُكِ، دونَ ذَنْبٍ، جائِرٌ.. وَأَنا البَريءُ، وَمَنْ سِواكِ الجاني؟

استعماله (ومن) أضعف الـمعنى، رغم أَنَّهُ سؤال إنكاري، إِلَّا أَنَّهُ لو استعمل (وَما) أَي نفي أَنْ يكون الجاني سواها، لكان أبلغ، والنَّفي هنا يفيد تأكيد أَنَّها الجانية:

فَعَلامَ حُكْمُكِ، دونَ ذَنْبٍ، جائِرٌ.. وَأَنا البَريءُ، وَما سِواكِ الجاني

قوله (ص 64):

في حَضْرَةِ النِّيلِ جُدْ بِالشِّعْرِ يا شِعْرُ.. وَاخْشَعْ جَلالًا وَحُبًّا.. إِنَّها مِصْرُ

قوله: جُدْ بِالشِّعْرِ يا شِعْرُ، ضعيف جدًّا، وهل يجود الشِّعر غير الشِّعر؟ ولو قال:

في حَضْرَةِ النِّيلِ حاذي الشَّمْسَ يا شِعْرُ.. وَاخْشَعْ جَلالًا وَحُبًّا.. إِنَّها مِصْرُ

كناية عَنِ السُّمو والفخر، لكان قمَّة الرَّوعة، أو لو قال: 

في حَضْرَةِ النِّيلِ غَنِّ النِّيلَ يا شِعْرُ.. وَاخْشَعْ جَلالًا وَحُبًّا.. إِنَّها مِصْرُ

ولا تحصى البدائل. 

قوله (ص 94):

سَلامًا يا أَحَبَّ النَّاسِ عِنْدي.. وَأَغْلاهُمْ إِذا قيسَ الغَلاءُ

قوله قيسَ يوجب السُّؤال قيسَ بماذا، فهو لا يعطي الـمعنى الـمرجو، ولو قال:

سَلامًا يا أَحَبَّ النَّاسِ عِنْدي.. وَأَغْلاهُمْ إِذا ذُكِرَ الغَلاءُ

لأصاب كبد الـمعنى المطلوب.

أخطاء نحويَّة:

في رحلة شاعرنا مع قصائد مجموعته، وقع في أخطاء نحويَّة، سنبيِّنها:

قوله (ص 19):

يا طَبيبَ القلوب ما بالُ قلبي.. نازِفُ الحزنِ، يا طبيب القلوبِ

الصَّواب: نازِفَ القلب، لأنَّه خبر ما، فقد اعتبر الاسم المنصوب بعد ما بال أو مال خبر ما بال وأخواتها، رغم أَنَّ جلَّ النَّحويِّين لم يعتدَّ بهذا الوجه من النَّصب واعتبروا الاسم هنا منصوبًا على الحاليّة.

قوله (ص 31):

وَنِعْمَ الصَّحْبِ إِذْ حَضَروا

الصَّحْبُ حَقُّها الرَّفع لأنَّها فاعِل.

قوله (ص 39):

يا غَرامًا قَدْ اسْتَباحَ كَياني.. كانَ مُذْ كُنْتُ غايَتي وَمَرامي

تسكين آخر قَدْ خطأ، ولعلَّه خطأ طباعي، لأنَّ استباح فِعْلٌ سداسي، وهمزته وصل، وتحريك دال قَدْ لا يخلُّ بالوزن 

قوله (ص 44):

كُلُّ مَنْ جُنَّ  بِما يُبْصِرُّ في بَدْرِكِ يُعْذَرْ

تشديد راء يبصر أخلَّ بالمعنى، وإن لم يخلَّ بالوزن، وقد يكون خطأ طباعيًّا أيضًا.

قوله (ص 49):

وَسَرى الجَوى مِنْ مُقْلَتَيَّ لِقَلْبِها.. شَلَّالَ عِشْقٍ دافِقٍ بِسَخاءِ

دافق نعت لشلَّال، وحقُّه النَّصب (شَلَّالَ عِشْقٍ دافِقًا بِسَخاءِ).

قوله (ص 60):

ما فَرَّقَتْ ما بَيْنَ ذاكَ وَذا

الصَّواب: ما فَرَّقَتْ بَيْنَ ذاكَ وَبَيْنَ ذا، ويجب حذف ما الثَّانية، وإضافة (وَبَيْنَ) بعد ذاكَ.

قوله (ص 69):

وَبِتُّ أَشْكو عَذاباتِ الهَوى دَنِقًا

الصَّواب دَنِفًا بالفاء، ولعلَّه خطأ طباعي.

قوله (ص 79):

أَيُّ فَضْلٍ لِلْـ "فِيسْ بوكْ" عَلَيَّا

تسكين آخر فيسْ بوكْ، أخلَّ بالوزن، وكان الواجب تحريكهما بالكسر ليستقيم الوزن.

(أَيُّ فَضْلٍ لِلْـ "فِيسِ بوكِ" عَلَيَّا).

قوله (ص 83):

دَعيني أَفِرُّ إِلَيْكِ كَعُصْفورِ نارْ

الصَّواب: أَفِرَّ لأنَّه جواب الطَّلب، والأصل أَفِرّْ، وفي القرآن { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.....} (الأنعام مِن الآية 151)، لاحظ قوله (تَعَالَوْا أَتْلُ) وليس (أَتْلو).

قوله في نفس الصَّفحة:

فما أنا لولاك إلا هشيمٍ؟

الصَّواب:  فَما أَنا لَوْلاكِ إِلَّا هَشيمٌ بالرَّفع.

قوله (ص 89):

لا تَنْسِني، وَاذْكُريني

الصَّواب تَنْسَيْني، لأنَّه منَ الأفعال الخمسة يرفع بثبوت النُّون وينصب ويجزم بحذفها، ولا تسقط الياء، والأصل تَنْسَيْنَني، تسقط النُّون الأولى لوجود عامل الجزم (لا)، وتبقى النُّون الثَّانية فهي نون الوقاية.

أخطاء عَروضيَّة:

وقع شاعرنا في عدَّة أخطاء عَروضيَّة، تراوحت بين الكسر في الوزن، إلى اشتمال شطور على تفاعيل زيادة في القصيدة، إلى خروج مِنْ وزن إلى وزن، إلى عدم التَّقيُّد بشكل واحد للقصيدة، ودمج شكلين مِنْ نفس الوزن دون فاصل، وسنبيِّن ذلك:

يقول (ص 24):

لأَنَّكِ لَسْتِ كَكُلِّ النِّساءِ

أُحِبُّكِ حُبًّا لَيْسَ لَهُ شَبيهٌ

قوله: ليسَ لَهُ شَبيهٌ، أخلَّ بالوزن، ولو قال: أُحِبُّكِ حُبًّا بِغَيْرِ شَبيهٍ، لاستقام الوزن.

يقول (ص 25):

وَحينَ عَرَفْتُكِ

أَدْرَكْتُ أَنِّي

ما كُنْتُ إِلَّا

كلمة أَنِّي كما وردت أخلَّت بالوزن، ويجب تحريك يائها بالفتح (أَنِّيَ) ليستقيم الوزن.

مقطوعة (أما لهواكَ مِنْ حَدِّ/ الكامل/ 33- 34):

وهي مقطوعة مِنْ خمسة أبيات، التزم في الثَّلاثة الأولى عَروضًا حَذَّاء مضمرة (فَعْلُنْ) وضربًا أحذَّ  مضمرًا (فَعْلُنْ)، لكِنْ في البيت الرَّابع والبيت الخامس انتقل إلى عَروض حذَّاء (فَعِلُنْ)، واستمرَّ بضرب أحذَّ مضمر، وهذا معناه جمع شكلين مِنْ أشكال الكامل في شعر دون فصل بينهما:

قالَتْ: أَما لِهَواكَ مِنْ حَدِّ؟.. قُلْتُ: الوِصالُ وَهَدْأَةُ الوَجْدِ

مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ فَعْلُنْ.. مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ فَعْلُنْ

مُسْتَفْعِلُنْ هنا ليست مُسْتَفْعِلُنْ الأصليَّة الَّتي تكون في الرَّجَز وسواه منَ البحور، بل هي مُتْفاعِلُنْ الـمضمرة، أيْ ساكنة التَّاء وتقرأ جوازًا مُسْتَفْعِلُنْ لتساوي الـمقاطع بينهما.

ويقول في البيت الرَّابع:

يَهْفو إِلَيْكِ وَمِلْؤُهُ أَمَلٌ.. أَنْ تُبْلِغيهِ شَواطِئَ السَّعْدِ

مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ فَعِلُنْ.. مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ فَعْلُنْ

العَروض حذَّاء والضَّرب أحذُّ مضمر، وأعاريض الأبيات الثَّلاثة الأولى حذَّاء مضمرة، وهذا جمع شكلين معًا في شعر واحد، خلافًا للقواعد العَروضيَّة.

يقول (ص 37):

هِيَ لَيْلايَ إِذْ تَجَلَّتْ بِنورٍ.. مِثْل حُلْمٍ عِشْتُهُ في مَنامي

عجُز البيت وزنه مختلٌّ، ويجب إضافة (قدْ) بعد حلمٍ ليستقيم الوزن:

هِيَ لَيْلايَ إِذْ تَجَلَّتْ بِنورٍ.. مِثْل حُلْمٍ قَدْ عِشْتُهُ في مَنامي

قصيدة (كيف لا أعذر/ مجزوء الرَّمَل/ 43- 44):

سارت القصيدة صحيحة حَتَّى البيت الأخير منها:

كَيْفَ لا أَعْذُرُ

وَالسِّحْرُ الَّذي يَسْطَعُ مِنْ عَيْنَيْكِ يَبْهَرْ

بالتَّدقيق نجد عدد التَّفاعيل خمس تفاعيل، أَي زادت تفعيلة على مجزوء الرَّمَل الَّذي جرت عليه القصيدة، والرَّمل الـمجزوء 4 تفاعيل.

قصيدة (في حضرة النِّيل/ البسيط/64- 67):

سارت القصيدة منْ أوَّلها على البسيط، عَروض مخبونة وضرب مقطوع حَتَّى البيت الأخير، فانتقل الوزن إلى الطَّويل الأخرم صدرًا والأثرم عَجُزًا:

قالوا بِأَنَّ الأَسْرَ قَهْرٌ وَذِلَّةٌ.. قُلْتُ بِحِضْنِ النِّيلِ كَمْ يَعْذُبُ الأَسْرُ

فَعْلُنْ مَفاعيلُنْ فَعولُنْ مَفاعِلُنْ.. فَعْلُ  مَفاعيلُنْ فَعولُنْ مَفاعيلُنْ

فَعْلُنْ هي فَعولُنْ سقطت فاؤها وهذا هو الخرم، يأتي في مطالع القصيد وليس في نهايته، فَعْلُ هي فَعولُنْ سقطت فاؤها ونونها، أَي خرم وقبض، واجتماعهما معًا يسمَّى الثَّرم، لكِن يظلُّ الأهمُّ هو خروج الشَّاعر مِنَ البسيط إلى الطويل.

قصيدة (ضَيَّعْتُ رُشْدي 68- 71):

هذه القصيدة لا يمكن عدُّها مِن البسيط، لأنَّها خرجت عَنِ القاعدة العَروضيَّة، الَّتي تقول لا قطع في الحشو، ثُمَّ خروج آخر وهو إدخال مُتَفاعِلُنْ، ولا تكون مُتَفاعِلُنْ في البسيط، وقد أصَّلت الوزن النَّاتج بدخول مُتَفاعِلُنْ وأسميته الـمُنبسط، وذلك في كتابي العَروض الزَّاخر (صدر 2004)، لكِنْ تظلُّ مشكلة دخول علَّة القطع (فاعلن= فاعِلْ) وهذه مختصَّة بالضُّروب ولا تدخل في الحشو، وفي أغنية كاظم السَّاهر "مدينة الحبِّ" وردت مُتَفاعِلُنْ بصورة ملفتة في القصيدة، كذلك في أنشودة "مولاي إنِّي ببابك قد بسطت يدي" لسيِّد النَّقشبندي وردت:

مولاي إنِّي ببابك قد بسطت يدي

مُسْتَفْعِلُنْ فاعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ فَعِلُنْ

 ووردت فَعْلُنْ بتسكين الغين مِنْ كلمة "شُغُلٌ":

مَهما لَقيتُ مِنَ الدُّنْيا وَعَارِضِها

مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ

فَأَنْتَ لي شُغْلٌ عَمَّا يَرى جَسَدي

مُتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ

 يقول شاعرنا:

فَاشْرَبْ لِتَنْسى، إِنَّ الرُّوحَ ظامِئَةٌ.. إِلى السُّلافِ، فَطوبى لِلَّذي سَكِرَا

مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ.. مُتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ

ولو أضفنا حرف الفاء إلى إِنَّ في صدر البيت (فَاشْرَبْ لِتَنْسى، فَإِنَّ الرُّوحَ ظامِئَةٌ)، لاستقام الوزن على البسيط. ويقول:

مالي سِوى الصَّبْرِ خِلٌّ أَسْتَجيرُ بِهِ.. وَلَكَمْ صَبَرْتُ، وَإِنِّي خَيْرُ مَنْ صَبَرَا

وَلَكَمْ شَرِبْتُ كُؤوسَ الصَّبْرِ مُتْرَعَةً.. فَما ارْتَوَيْتُ، وَعادَ الصَّبْرُ مُعْتَذِرَا

في عجز البيت الأوَّل (ولَكَمْ صَبَرْ= مُتَفاعِلُنْ)، وفي صدر البيت الثَّاني (وَلَكَمْ شَرِبْـ= مُتَفاعِلُنْ).

وهناك سوى ما ذكرنا، فهذه القصيدة لا يمكن عدُّها مِن البسيط، وكذلك لا يمكن عدُّها مِن الـمنبسط لاشتمالها على علَّة القطع في الحشو.

يقول (ص 81) 

كُلَّما قُلْتَ هذا الدَّرْبُ يُفْضي.. لِحَبيبي، يَضيعُ مِنْكَ السَّبيلُ

صدر البيت وزنه مختلٌّ ويستقيم بتغيير هذا إلى هذه:

كُلَّما قُلْتَ هذهِ الدَّرْبُ تُفْضي.. لِحَبيبي، يَضيعُ مِنْكَ السَّبيلُ

مقطوعة (مساؤها/ الطَّويل محذوف معتمد/ 82)، وهي مِنْ خمسة أبيات، بيتان منها اختلَّت القافية فيهما، والطويل الـمحذوف المعتمد تكون آخر تفعيلتين في البيت (فَعولُ فعولن)، أَي باعتماد القبض في التَّفعيلة قبل الأخيرة، وتكون الأخيرة محذوفة، البيتان الثَّالث والرَّابع:

مَساءُ عُيونِ الشِّعْرِ يَسْري مُرَنِّمًا.. كَسِرْبِ فَراشاتٍ إِلى خَدَّيْكِ

فَعولُ مَفاعيلُنْ فَعولُنْ مَفاعِلُنْ.. فَعولُ مَفاعيلُنْ فَعولُنْ فَعْلُنْ

مَساءُ أَماني الرُّوحِ تَهْفو لِنَظْرَةٍ.. تُداعِبُها كَالطِّفْلِ، مِنْ عَيْنَيْكِ

فَعولُ مَفاعيلُنْ فَعولُنْ مَفاعِلُنْ.. فَعولُ مَفاعيلُنْ فَعولُنْ فَعْلُنْ

وليست فَعْلُنْ مِنْ تفاعيل الطَّويل ولا مِنْ تشكُّلات تفاعيله.

مقطوعة (حين يحلِّق فينا اللِّقاء/الـمُتَقارَب/ 83):

يقول في البيت الأوَّل:

دَعيني أَفِرَّ إِلَيْكِ كَعُصْفورِ نارْ

فَعولُنْ فَعولُ فَعولُ فَعولُنْ فَعولْ

وَفِرِّي إِلَيَّ جُنونَ انْتِظارْ

فَعولُنْ فَعولُ فَعولُنْ فَعولْ

خرج في صدر البيت الأوَّل عَنِ قاعدة المتقارت التَّام، فجاء الصَّدر خمس تفاعيل. 

يقول (ص 86):

أَنا غَيْمَةٌ مِنْ فَراشٍ تَحومُ

يا زَهْرَةَ الفُلِّ حَوْلَكِ

قوله (تَحومُ) كما هي مثبتة أخلَّ بالوزن، والواجب تشديد الواو (تُحَوِّمُ) فبها يستقيم الوزن.


يقول ( 87):


وَفي القَلْبِ أُرْجوحَةٌ لِلْحَبيبْ

القَريبِ البَعيدِ البَعيدِ القَريبْ

كان بالإمكان النَّظر إلى أَنَّ الوزن هنا منَ الـمُتَّفِق، وهو اجتماع فَعولُنْ وَفاعِلُنْ، لو وجدنا سوى هذا السَّطر في القصيدة، لكِن  الصَّواب أَنَّ تسكين آخر كلمة الحبيب في السَّطر الأوَّل قد أخلَّ بالوزن، ويستقيم بتحريكه بالكسر (لِلْحَبيبِ (م) القَريبِ....) والشِّعر هنا مدوَّر.

يقول (ص 92):

نِلْتُ مِنْكِ الَّذي كُنْتُ أَرْجو

وهذا خلل في الوزن، ولو قال:

نِلْتُ مِنْكِ الهَوى الَّذي كُنْتُ أَرْجو

لاستقام الوزن، والبدائل كثيرة.


يقول (ص 96 ) وهي قطعة مِنْ ثلاثة أبيات، على مجزوء الكامل مع خروج عنه، يقول فيها:


جافَيْتِني وَنَسيتِ حُبِّي.. وَصَدَدْتِ عَنِّي دونَما ذَنْبِ

مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفاعِلاتُنْ.. مُتَفاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ

وَنَأَيْتِ عَنْ دَرْبِ الهَوى.. وَسَلَكْتِ دَرْبًا غَيْرَ دَرْبي

مُتَفاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ.. مُتَفاعِلُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ

فَمَشَيْتُ وَحْدي في الطَّريقِ بِغَيْرِ ما روحٍ وَلا قَلْبِ

مُتَفاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ

كان عليه أَنْ يأتي بها مرفَّلة كعروض البيت الأوَّل وضرب البيت الثَّاني، ثُمَّ لا يستقيم البيت الأوَّل بعَروض مجزوءة مرفَّلة موجبة للتَّصريع، ولا يأتي البيت مصرَّعًا، والعجز مِن الكامل الأحذِّ الـمُضمر، وليس مجزوءًا ولا مرفَّلًا، ومثله ضرب البيت الثَّالث.

ختامًا: شاعرنا أبدع في مجموعته، رغم الهنات الـمنتشرة، وقد تعاملنا مع نصوصه بحزم دون مسايرة، كونه شاعرًا قديرًا، والهنات والكبوات تقع للجميع ولا حرج في ذلك. 

·       الكتاب 96 صفحة مِن الحجم الوسط، طبعة أولى 2019 ، مطبعة العبَّاسي، شفاعمرو، يشتمل على 40 نصًّا، تتراوح بين مقطوعة وقصيدة خليليَّة أو تفعيليَّة.