على هامش-المد-التكفيري المتوحّش بقلم:محمد المحسن
تاريخ النشر : 2019-10-20
على هامش-المد-التكفيري المتوحّش بقلم:محمد المحسن


على هامش-المد-التكفيري المتوحّش

..حين يحمل الفكر السلفي التكفيري الذي يستخدم الإرهاب لبلوغ أهدافه،بذور فنائه في داخله..

من إن المتأمل في المد التكفيري المتوحّش،يلحظ أنّ هذه الظاهرة المرَضية (الإرهاب التكفيري) غدت أوسع انتشاراً وأبلغ تأثيراًبالمقارنة مع الموجات التكفيرية السابقة في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم،وعندما نقوم بتشخيص قضية التكفير يجب أن نعلم أننا أمام ظاهرة تتنوع تعبيراتها وتتداخل أسبابها،وتتعدّد مستويات الحديث عنها،كما يصعب فهم ترابطها ومدى علاقتها،لأنها تتباين أحياناً وتتقاطع أحياناً أخرى.
قد يصعب تحديد أسباب انتشار ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي،لكن بإستعانة علم الاجتماع الديني من جهة،وعلم النفس التربوي من جهة أخرى،قد يعطينا نتيجة تكون قاصرةً إلى حد ما.
ولكن يجب أن نعلم بأن التكفير ليس أمراً جاء صدفة كما يتوهمه الغرب وحلفاؤه،بل هو عملية تراكمية ظهرت وتجمعت لأسباب مختلفة حتى انفجرت في النهاية.
إن الفكر التكفيري السلفي الجهادي المعاصر،يمثل تياراً إيديولوجياً،ومشروعاً تحمله بالأساس جماعات حركية مناهضة بشكل مطلق لما هو قائم من النظم الاجتماعية والسلطات السياسية والثقافية السائدة والنظام الدولي،وخطاب هذا التيار هو الأكثر تشدداً،والأكثر استخداماً لمصطلح الكفر والتكفير بإعتباره قائما على سبب عميق الجذور ولم تتم إلى حد الآن مقاربته ومعالجته وفق منهج عقلاني تنويري يغلّب العقل على النقل،فالصراع على الحق والحقيقة الأبدية كانت محل نزاع بين الإيمانيين وبين الملاحدة في العصور الإنسانية،فقد كان الإيمانيون يسمون الملاحدة بالكفار،وقد تطور هذا المصطلح حتى دخل بين الإيمانيين نفسهم،فأنتشر مصطلح الردة المقصود به كل من ارتد ورجع على عقبه بعد أن اعتنق الإسلام،ولذلك نلاحظ في التاريخ الإسلامي الصراع القائم بين الفرق الإسلامية ومدى توسع استعمال كلمة الكفر والردة في بعض الأحيان،ومثله مصطلح البدعة الذي هو أقرب إلى الكفر،واحتكار الحقيقة والإيمان بصوابية الرأي يؤدي دائماً إلى التكفير المخالف.
وبما أننا في مواجهة ظاهرة متوحشة،فإنّ استخدام كل الوسائل الثقافية والمعرفية والإعلامية والعسكرية..أمر مشروع،إلا أننا نلاحظ في المقابل و-على سبيل الذكر-لا الحصر،تقصيرا واضحا في دور الإعلام العربي الذي لم يستطع-في تقديري-القيام بدور فاعل في مواجهة الإرهاب،كما لم يقم أيضا بدور معرفي ودور تنويري.
والدور المعرفي يتمثل أساسا في التشخيص الدقيق لظاهرة الإرهاب من وجهة نظر العلم الإجتماعي حتى تتبين أبعاده المختلفة،ويمكن بناء على هذا التشخيص رسم سياسة متكاملة لمواجهته.
ومن ناحية ثانية لابد من معالجة موضوع تجديد الخطاب الديني بإعتباره ضرورة حتمية في المواجهة الثقافية للإرهاب.
وأخيرا حتى يقوم الإعلام العربي بدوره التنويري المفتقد،لابد من التركيز على أهمية تكوين العقل النقدي بإعتبار ذلك البداية الضرورية لتجديد الفكر الديني.
هنا تبرز مهمة المثففين بالتوجّه إلى الحداثة كهدف وككل متكامل،بما ينطوي عليه ذلك من تبنّي لسلطان العقل على النقل،والفصل بين الخطابين الديني والسياسي،والتخلّي عن الشعارات والأوهام،وفهم اتجاه الحقبة التاريخية المعاصرة،والدعوة إلى التحديث السياسي باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر،والدفاع عن المواطنة التي قوامها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات،والتمسّك بإحترام الحق في الإختلاف انطلاقا من نسبية المعتقدات والقناعات حسب قول المفكر الجزائري مالك بن نبي * ” رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأيهم خطأ يحتمل الصواب ” .

الواقع المأزوم للدولة العربية:

لقد تمّ تشريح واقع-الدول العربية-التي ينتظم إجماع على إخفاقها في التصدي للتحديات الكبرى التي واجههتها،والمتمثلة في صيانة الإستقلال الوطني وتحقيق التنمية الإقتصادية المستقلة وإقرار العدالة الإجتماعية وتدعيم المجتمع المدني..
إنّ هذا العجز،يجعل مستقبل هذه الدول معلقا بين ثلاثة مشاهد تتأرجح بين مزيد من التفتّت والتشرذم والإيغال بالتالي في الظلم والظلمات وتكريس الجمود العقائدي والتزمت الفكري،أو الإتجاه في التنسيق والتعاون أو كإحتمال أقصى،تجاوز الحدود التي تمنع الجسم العربي الواحد من الإمتداد والعمل على بناء التقدّم المنشود.
ولا ريب في أنّ أهم مشكلة تواجهها الدول العربية في هذا الوطن العربي الشاسع،منذ الإستقلالات السياسية إلى الآن،تكمن في ضعف المشاركة السياسية وتدني مستوى الممارسة الديموقراطية،وغياب أفق ثقافي يحتضن الإبداع وينتصر إليه ويدفع إلى ازدهاره،الأمر الذي مهّد الطريق ل”ولادة” تفكير جهادي تكفيري يعادي ويجرّم كل تجليات العلم والمعرفة والثقافة،ويغلّب بالتالي النقل عن العقل..
ومما لاشك فيه أنّ أحداث الإرهاب التي شهدها العالم طرحت تحديا حقيقيا أمام كافة المبادرات الخاصة بحوار الثقافات لإثباتمصداقيتها وتأثيرها المتعدد الأبعاد،سواء على دوائر صنع القرار أو وسائل الإعلام أو المراكز الأكاديمية والبحثية أو منظماتالمجتمع المدني،فهذا التأثير وتلك المصداقية هما المعيار والحكم على صلة هذه المبادرات بالواقع المعاش والقدرة على إحداثتغيير إيجابى فى مناهج التفكير والسلوك والتعامل مع الآخر وتوصيفه بشكل بنّاء،والتفاعل معه بديلا عن الانعزال عنه أو التصرفمن منطلق أنّ هذا الآخر هو العدو أو الخطر أو التهديد،وبدون تجاهل مرجعية قيم العدل والإنصاف والمساواة والاحترامالمتبادل،وعدم الادعاء باحتكار الحقيقة.
ما العمل؟
إن غاية التغيير الثقافي لايمكن أن تكون في إقصاء العلم أو إقصاء التراث،وإنما تحرير العقل،أي إطلاق يديه من كل قيد وتوسيع دائرة النقاش والحوار العقلي.وأي سياسة ثقافية تقوم على فرض أيدلوجية على العقل،حداثية كانت أو تراثية،تقتل-في تقديري-الحوار وتفضي بالضرورة إلى إلغاء الوعي وإلغاء الثقافة كنبع للإبداعات والتجديدات الذاتية وتغلق بالتالي أفق أي تغيير فعلي. إنالسياسة الوحيدة المنتجة في الثقافة لايمكن إذن أن تكون إلا حرية الثقافة..
ما أريد أن أقول ؟
أردت القول أنّ الآوان قد آن للإعتراف بحقيقة مؤلمة وهي أن الفكر التكفيري لا ينتشر إلا في حال غياب للفكر التنويري المترافق مع أزمة اقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها في المجتمع،فالفكر التكفيري ينتشر في أوقات الأزمات.
ففي الفترة التي انتعش فيها فكر القاعدة ارتبطت بتحول في رؤية الغرب تجاه العالم الإسلامي واعتباره عدواً،وصعود فلسفة صدام الحضارات وتحولها إلى واقع وسياسة على يد المحافظين الجدد،واحتلال بلدان من العالم العربي كالعراق،وفي العالمالإسلامي كأفغانستان.
وقد أبرز الكاتب المغربي المعروف “علي أومليل”** في بحث له بعنوان “حوار الثقافات:العوائق والآفاق”،المعاني السلبية للأصولية.(نشر البحث في أعمال ندوة حوار الثقافات:هل هو ممكن؟ التي عقدت في الرباط في يناير2003) فقد استطاع أومليل ببراعة ومن خلال تتبعه التاريخي للمواجهة التي تمت بين العالم العربي والعالم الأوربي في بداية النهضة العربية الأولى،أن يبرز تبلور الإدراك العربي بأن تفوق العسكرية الأوربية يقف وراءها تفوق في تنظيم الإقتصاد والمجتمع والدولة،وأيضًا تفوق علمي وتكنولوجي،وأن وراء كل منظومة التقدم الغربي قيما ومبادئ كالتربية على الحرية والمساواة،وحق الشعب في اختيار حكامه،وحرية التعبير والصحافة،وسيادة القانون والمساواة أمامه.غير أنه إزاء ظاهرة التقدم الغربي تبلور وعيٌ مزدوج تجاه الغرب،فهناك إعجاب بمظاهر تقدمه،ولكن هناك أيضًا الغرب الاستعماري المزدوج المعايير.فهو يضمن الحرية لمواطنيه ويحرمها على الشعوب التي يستعبدها.
وقد كان “أومليل”موفقًا حين ربط بين توحش الدولة السلطوية العربية ونزعة تيار الإسلام السياسي لرفض الحداثة، والوقوع في فخ العقل التقليدي بكل رؤاه الرافضة والمتزمتة. وذلك على أساس أن فشل الدولة السلطوية في تحقيق تنميتها المزعومة ينتج عنه نوعان من رد الفعل. الأول ذهب إلى أنه لا تنمية حقيقية بغير تنمية سياسية ديمقراطية أساسها حقوق الإنسان. والثاني هو رفض الحداثة بما فيها الحداثة السياسية والتي أساسها الديمقراطية. وهذا هو موقف الإسلام السياسي الذي تمثله الأصولية. ويقول أومليل في شرح هذا الاتجاه أنه “ما دامت التنمية- نظريًا -هي طريق إلى الحداثة، وما دامت الدولة السلطوية قد فشلت في تحديث المجتمع، فقد كفر الإسلام السياسي بالتنمية والحداثة معًا!”.
على سبيل الخاتمة:
إنه لمن الصعب حقاً،تصور مواجهة الفكر التكفيري الوهابي المندلع بقوة اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية،ومعه دخول هذه المجتمعات في العصر،وتجاوز تخلفها المديد من دون ولوج الإصلاح في الفهم الديني،وتعيين موقع الدين،وإعادته إلى منطلقاته الأصلية الروحية والإنسانية والأخلاقية والتشريعية السمحة ومنع توظيفه في النزاعات السياسية والاجتماعية.ووضع سياسات تربوية وثقافية وخطاب ديني يحول دون تغلغل ذلك الفكر في الأوساط الاجتماعية وخاصةً جيل الشباب.إضافةً إلى معالجة أسباب الفقر والبطالة،وتحقيق درجة عالية من العدالة الإجتماعية والتنمية المستدامة والشاملة،وعدم ترك فراغات في جسم المجتمع يتسلل من خلالها ذلك الفكر التكفيري الإرهابي الذي لا ينسجم مع طبائع مجتمعنا وثقافته.
ختاما أقول:التاريخ يؤكّد أنّ الفكر المنغلق على فئة قليلة تتوسّل العنف للوصول إلى أهدافها،لا يعيش طويلا،والفكر السلفي التكفيري الذي يستخدم الإرهاب لبلوغ أهدافه،يحمل بذور فنائه في داخله..

محمد المحسن
شاعر،ناقد وكاتب صحفي
-عضو في إتحاد الكتاب التونسيين- 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مالك بن نبي:من أعلام الفكر الإسلامي العربي في القرن العشرين جزائري الأصل،ويعد من أحد روّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين،ويمكن إعتباره إمتدادا لإبن خلدون،ويعد أيضا من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة..
**علي أومليل: أستاذ جامعي معروف بـكـتبه في الفكر والفلسفة وأسـئلة الـنهضة،وقداقـترن إسمه بـنشاطه المتـمـيـز في المجتمع المدني المغربي والعربي،وبخاصةٍ في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان أيــامَ زمــنِ الـرصاص..