كي لا تتكرر صفقة "شاليط" ثانية!بقلم:محمد عبدربه مطر
تاريخ النشر : 2019-10-20
كي لا تتكرر صفقة "شاليط" ثانية!بقلم:محمد عبدربه مطر


كي لا تتكرر صفقة "شاليط" ثانية!
محمد عبدربه مطر – باحث في شؤون المفاوضات

تعتبر عمليات الأسر لجنود الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه من أجل التفاوض عليهم سمة بارزة تميزت بها المقاومة الفلسطينية على مدار تاريخها المعاصر، وهو ما يعبر عن مدى الاهتمام البالغ الذي توليه قوى المقاومة الفلسطينية لقضية الأسرى في سجون الاحتلال. وكانت صفقة وفاء الأحرار، أو ما أطلق عليها "صفقة شاليط"، من أهم وأنجح التجارب التفاوضية، رغم طول مدتها ورغم الظروف الصعبة التي أحاطت بها، حيث مرت بالعديد من المحطات وواجهتها كثيرًا من العقبات، وقد تحققت من خلالها نتائج مهمة متفقٌ على قوتها وإبداعها، مع وجود بعض الانتقادات والمراجعات التي لا بد من الوقوف عليها لتداركها في أي صفقة تبادل قادمة.

ظروف الصفقة ونتائجها

كان لصمود الشعب الفلسطيني أمام كل التهديدات وأمام التضحيات التي قُدمت خلال الحملات العسكرية التي شُنّت على قطاع غزة، منذ اللحظات الأولى التي تلت عملية الأسر وصولًا إلى عدوان 2008-2009م، أن دفعت الفصائل الآسرة وعلى رأسها حركة حماس إلى مزيدٍ من التمسك بمطالبها، كي تحصل على ثمن يوازي ذلك الصمود وتلك التضحيات، ولم يجد المفاوض الصهيوني سبيلًا آخر غير الموافقة على غالبية الشروط.

لقد حققت صفقة وفاء الأحرار إنجازاتٍ غير متوقعة، وما كان ذلك لولا صبر المقاومة وحنكتها، ولولا لغة القوة التي لا يفهم العدو المحتل غيرها، فلأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية تتم عملية الأسر ويكون مكان الاحتجاز والتفاوض داخل الأرض الفلسطينية، كما راعت الصفقة وحدة الوطن جغرافيًا وفصائليًا. كذلك استطاعت حركة حماس فرض الكثير من شروطها على دولة الاحتلال، وانتزعت منها الموافقة على أسماء كانت مرفوضة سابقًا، وقللت من أعداد الأسرى المبعدين إلى الخارج.

وفي مقابل الشعور بالفرح الشديد من الشعب الفلسطيني ومقاومته تجاه ما أنجزته الصفقة، كان الاحتلال الصهيوني مصدومًا من نتائجها، ومن فشل أجهزته الأمنية في الحصول على أي معلومة تفيد بمكان الجندي "جلعاد شاليط" طوال خمس سنوات من احتجازه. فكانت عملية نوعية بكل المقاييس، وعلامة فارقة في أداء المقاومة الفلسطينية، من خلال طريقة التنفيذ وسرعته، والإجراءات الأمنية المعقدة التي صاحبت عملية الأسر والإخفاء والتسليم، فكانت حقًا صفقة تبادل مشرفة.

انتقادات ومراجعات:

رغم ذلك فقد وُجّهت العديد من الانتقادات والملاحظات على تلك الصفقة، وتحدث البعض عن أنه كان بالإمكان أفضل مما كان، ولعل أبرز تلك الانتقادات ما يلي:

أولًا: الوثيقة المجحفة

حيث كانت هناك وثيقة قد وقّع عليها الأسرى، تُعّد بنودها بمنزلة تقييد لحرياتهم الشخصية بعد تحريرهم. يقول بعض الأسرى المحررين إنهم أرغموا على التوقيع نتيجة وضعهم أمام خيارات صعبة، إما الإبعاد أو المؤبد، فيما تحدث البعض الآخر عن أن الوسيط أبلغهم بأن هناك بنودًا تحدثت عن الإبعاد، فإذا وقّعوا أو لم يوقّعوا فإنه سيتم الإبعاد. وكان من جملة ما وقعوا عليه أيضًا أن الأسير إذا شارك في مسيرة سياسية من خلال منظمة "إرهابية" فسيعاد الحكم عليه، وأنه إذا تلقى أكثر من (2000) دينارًا من مؤسسة "إرهابية" أو إذا سافر إلى بعض الدول فسيعاد الحكم، كذلك إذا كانت هناك مخالفة مرورية داخل الأراضي المحتلة استحَقّت السجن لمدة (3) شهور فسيتم إعادة الحكم. لذلك فالصفقة لم تقفل الملفات السابقة التي كانت على الأسرى المفرج عنهم، بل أعادت سلطات الاحتلال اعتقال العشرات منهم ومحاكمتهم، بحجة أنهم أخلوا ببنود الصفقة.

ثانيًا: الأسيرات في السجون

إن وجود نقص في المعلومات لدى المفاوض الفلسطيني فيما يتعلق بالعدد الحقيقي للأسيرات في سجون الاحتلال، قد أدى في حينه إلى عدم الإفراج عن الأسيرات كافة. حيث أورد المفاوض أن هناك (27) أسيرة يتوجب إطلاق سراحهن، لكن لم تتوفر لديه معلومات كافية حول وجود (36) أسيرة، ما أتاح للعدو الصهيوني تحديد (27) أسيرة واستبعاد (9) أسيرات من الصفقة، أفرج عن (6) منهن بعد انقضاء محكوميتهن، وبقي (3) أسيرات في السجون. واتهمت وزارة الأسرى حينها دولة الاحتلال بعدم الالتزام ببنود ومعايير صفقة التبادل، وعدم التزامها بإطلاق سراح الأسيرات كافة، وبقاء الأسرى المرضى داخل الأسر. فكان من الضروري تحديد أعداد الأسيرات بدقة، ومعرفة ظروفهن ومحكوميتهن وأعمارهن، لضمان وجود أولويات عادلة مثل باقي الأسرى.

ثالثًا: قادة الفصائل

لم تشمل الصفقة عددًا أكبر من رموز المقاومة وقادتها، ولو أصرّ المفاوض الفلسطيني لأحدث اختراقًا في هذا الملف، مما يشكل دفعة معنوية أكبر للشعب الفلسطيني. حركة حماس بررت عدم شـمل الصفقة للقادة الأسرى، بأن حكومة الاحتلال أصرت على استثنائهم، لأنها لا تريد أن يكون انتصار حماس كبيـرًا. ربما من الطبيعي أن لا تكون الصفقة كاملة وتحقق كل الشــروط، لأنها نتيجـة عمليـة تفاوضية شـاقة، تضمنت مســاومات عديدة، لكن كان لا بـد مـن اللعب بأوراق الضغــط بفاعلية أكبر، خاصة وأن حكومــة "نتنياهو" حينها كانت في وضع ضعيف للغاية داخليًا وخارجيًا.

رابعًا: الوسيط الضامن

لم يكن في صفقة وفاء الأحرار ضمانات، رغم أنه تم التوقيع على عدم إعادة الأسر كضامن، إلا أنه حدث عكس ذلك، ولم يكن لدى حركة حماس توقّع بالإخلال بالاتفاق إلى هذه الدرجة، لذلك كان لا بدّ من وجود العديد من الضمانات التي تضبط الاحتلال، وتمنعه من أن يخلّ بالشروط التي وقع عليها. فعلى سبيل المثال كان بالإمكان وجود أطراف تشهد على الاتفاق وتتعهد بمتابعة تطبيقه، كذلك لو شاركت أطراف دولية رسمية وكانت جزءًا من الاتفاق، كي تأخذ شكل إدانة مباشرة للاحتلال فيما لو أخلّ به، ولكن للأسف الشديد لم يتحقق ذلك. ما حدث أيضًا أن جيش الاحتلال أعاد اعتقال الأسرى المحررين، ولم يتم حتى الآن متابعة إطلاق سراحهم من قبل الطرف المصري الوسيط، وما زال العشرات منهم في سجون الاحتلال. 

تصور عملي لأي صفقة تبادل قادمة

سيضطر الاحتلال في يوم ما إلى الانصياع لعملية تبادل للأسرى، لذا يجب استثمار وجود أسرى لدى حركة حماس منذ عدوان 2014م، وتكثيف الجهود بسمت وطني، وبما يخدم قضية أسرانا، ويضمن الإفراج الكامل عنهم. وعليه فإن المصلحة تقتضي وضع رؤية وطنية موحدة، ووجود تشاركية في قرار صفقة التبادل القادمة، وهو ما سيزيد من الضغط على الاحتلال.

وهنا ينبغي العمل على تشكيل لجنة وطنية، يكون هدفها الأساسي التحضير والتنسيق والتخطيط لتلك الصفقة، تتضمن آليات عمل ومعايير من شأنها تحقيق أقصى استفادة للأسرى، من خلال تظافر الجهود المشتركة بين القوى كافة، وتلافي أي أخطاء حدثت في الصفقات السابقة. كذلك من المهم تحديد دور وآليات عمل كل الأطراف الفلسطينية التي ستساهم في إنجاح الصفقة، وتوحيد المنابر الإعلامية، والاتفاق على الأجندات والتكتيكات التفاوضية، مع مراعاة الحفاظ على إبقاء الجنود الأسرى طرف آسريهم، وذلك لحساسية وخطورة هذا الأمر.

كذلك لا بدّ أن يكون هناك دقةٌ ووضوحٌ في تداول أسماء الأسرى المنوي الإفراج عنهم في أي صفقات قادمة، وأن تتأكد الجهات الآسرة من صحة المعلومات لديها، ومن دقة الأسماء والأعداد الحقيقية للأسرى في السجون، وألّا يغلب على تفكيرنا حسن النوايا تجاه الأطراف الأخرى. وعند تحديد الأسماء لا بدّ من مراعاة المعايير التالية: (مدة المحكومية - الحالة الصحية والمرضية - المدة التي قضاها الأسير - المدة المتبقية له - أعداد الأسيرات خاصة ومعرفة ظروفهن ومحكوميتهن وأعمارهن - وجود أشقاء معتقلين - العمليات النوعية المنفذة - المستوى القيادي والفكري - شمولية الطيف الفلسطيني- شمولية الجغرافيا الفلسطينية- أن تشمل الإخوة العرب).

ختامًا لا بدّ من التفاهم على وجود وسيط عادل ونزيه، ووجود أطراف دولية ضامنة للاتفاق، والعمل على وضع بنود وشروط ضامنة في أي صفقة قادمة، واستحداث إجراءات وأوراق قوة بيد المقاومة الفلسطينية، وذلك بما يخدم قضية الأسرى، ويفرض شروط الصفقة ونتائجها على دولة الاحتلال. وأهم ذلك إغلاق الملفات السابقة، وشطب الاتهامات الموجهة ضدّ الأسرى المفرج عنهم، وعدم التعرض لهم أو إعادة اعتقالهم ومحاكمتهم من جديد تحت أي ظرف من الظروف. كما يجب التأكيد على أننا لسنا الآن بصدد الدخول في أي مفاوضات حول أي صفقة تبادل للأسرى، إلا بعد الالتزام بتنفيذ ما اتُّفق عليه سابقًا في صفقة وفاء الأحرار، والإفراج الكامل عن جميع الأسرى الذين أعيد اعتقالهم.