تونس تعانق الديمقراطية بقلم:عبدالرحمان الأشعاري
تاريخ النشر : 2019-10-20
تونس تعانق الديمقراطية بقلم:عبدالرحمان الأشعاري


تونس تعانق الديمقراطية

بانتهاء الحملة والانتخابات الخاصة بالدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التونسية، التي مرت بشهادة الجميع في أجواء نزيهة وشفافة، بفوز المرشح قيس سعيد بكرسي الرئيس، تكون تونس قد قطعت أشواطا مهمة ودخلت عهدا سياسيا جديدا.

حملة بالتأكيد لم تكن أبدا مثل سابقاتها سواء التي كانت تجرى في تونس أو التي أجريت في غيرها من الأقطار العربية الأخرى، وشاءت الأقدار أن تكون تونس الخضراء مرة أخرى على موعد مع حدث سياسي مهم سيتسبب في الكثير من الحرج في منطقتنا العربية، وسيثير لا محالة فضول باقي مكونات المنتظم الدولي خاصة منه السياسي والحقوقي.

فبعد أن استطاعت تكسير طابو الثورة، وأثبتت بالصوت والصورة أن الشعوب العربية كما الشعوب الأخرى وتحديدا الغربية، قادرة على المواجهة وإحداث الثورة والتغيير والنزول إلى الشارع، هاهي تونس تعود من جديد لتؤكد للعالم أجمع أن هذه الشعوب قادرة أيضا على ممارسة العمل الديمقراطي بكل تفاصيله وبكل قواعده ومقوماته. فلأول مرة في التاريخ سيشهد عالمنا العربي مقابلات ومناظرات تلفزيونية غير مسبوقة بين مرشحي الرئاسة في تونس، كل يبدي في جو من النزاهة والشفافية، آراءه ومواقفه حول مجموعة من القضايا المحلية والدولية ويبسط برنامجه الانتخابي، آخرها كانت تلك التي بثتها الجمعة 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عدد من القنوات التونسية والأجنبية، بحيث حظيت هذه المناظرة بمتابعة عدد كبير من الباحثين والمتخصصين وغيرهم في تونس وخارجها، بين مرشحي الرئاسة قيس سعيد ونبيل القروي تناولت عدة ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية وحقوقية.

وعرض كل مرشح على حدا تصوره للتعامل مع ملفات اقتصادية وسياسية تونسية، وأخرى دولية مثل الأزمة الليبية والقضية الفلسطينية، وهو ما أظهر بحسب متتبعين ومختصين، فارقا كبيرا بين قيس سعيد، الذي أعطى انطباعا أنه المرشح الأقوى نظرا لتمكنه من فن الخطابة والإقناع وتفاصيل عدة ملفات تم تناولها، ونبيل القروي الذي ظهر مرتبكا في إجاباته وسط تركيز على قضايا تتعلق بالفقر والحرمان.

وقد تداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي هذه المناظرة الأولى في العالم العربي على نطاق واسع، وذلك بإثارة موجة من السخرية يقارنون من خلالها بين الأوضاع السياسية في بلدانهم وانتخابات تونس، التي جرى طورها الأول وسط شهر سبتمبر/أيلول المنصرم.

ونشر هؤلاء النشطاء، فيديوهات وصور ساخرة تقارن بين التجربة الديمقراطية الفتية في تونس والأوضاع في دول عربية أخرى منها الجزائر التي تجتاز ظرفا صعبا بعد تسعة أشهر من الحراك المطالب بتغيير النظام السياسي، والسودان التي خرجت عن بكرة أبيها ضد سنوات الظلم والقهر والتسلط السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والعراق التي دشنت منذ أيام، أولى احتجاجاتها ضد المشروع الإيراني، الذي تسلل ذات يوم واخترق كل مفاصل الدولة.

وتونس الزيتونة، التي تعد البلد الوحيد بين الدول العربية، التي نجحت في اختبار الانتقال الديمقراطي منذ ثورة العام 2011، قدمت صورا رائعة تجسد قيما مجتمعية تكاد تكون قد اختفت في بعض الجهات من منطقتنا العربية، مثل التدافع السلمي والفضيلة والصدح بالحق والعدالة والإيثار ونكران الذات، ومن ذلك قرار المرشح للرئاسيات التونسية، قيس سعيد، عدم القيام بحملته الانتخابية في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التونسية، تضامنا مع خصمه في هذه الانتخابات نبيل القروي قبل أن يطلق سراحه، وقال المرشح قيس سعيد في بيان له صدر أخيرا إنه "يلتزم شخصيا بعدم القيام بحملة انتخابية وذلك لأسباب أخلاقية"، موضحا أن قراره جاء تفاديا لكل ضغط ولغط، ورفعا لكل لبس بشأن عدم تساوي الحظوظ وتكافؤ الفرص بينه وبين منافسه في الجولة الثانية، رئيس حزب "قلب تونس" نبيل القروي، الموقوف بالسجن على خلفية تهم تتعلق بالفساد وغسيل الأموال. 

وأكد قيس سعيد في بيانه على "ضرورة الابتعاد عن المحاولات اليائسة لضرب سير العملية الانتخابية، ودعا الشعب التونسي ليكون على موعد مع التاريخ، ويشارك في تقرير مصيره عبر التوجه إلى صناديق الاقتراع".

والمرشح للرئاسة قيس سعيد يتمثل وهو يسلك هذا المسلك القيمي الأخلاقي، سيرة وصورة الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ قال في تغريدة، عبر حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" "أعد التونسيين بالعدل والحرية وعلوية القانون على شاكلة الفاروق عمر بن الخطاب، الذي يعتبر رجل دولة بامتياز ونموذجا يحتذى به في الحزم والعدل".

وقد يوحي هذا الربط كما لو أن الرجل على علاقة بالإسلام السياسي، وأنه يقوم بمثل من يقومون به من استغلال واتجار بقدسية الدين، حتى أن منافسه المترشح للانتخابات الرئاسية نبيل القروي اتهمه بأنه "ذراع" لحزب حركة النهضة ذي المرجعية الإسلامية، وقال القروي في مقابلة أجرتها معه قناة تلفزيونية خاصة، هي الأولى له منذ إطلاق سراحه، إن المترشح للرئاسة "قيس سعيّد هو ذراع من أذرع النهضة، مثلما كان المنصف المرزوقي".

 لكن الحقيقة غير ذلك، فالمترشح الرئاسي قيس سعيد بعيد عن تنظيمات الإسلام السياسي، وقرار حزب حركة النهضة الإسلامي التصويت لفائدته على حساب المترشح الرئاسي الآخر نبيل القروي، الذي أطلق سراحه على بعد بضعة أيام فقط من الاقتراع الرئاسي، إنما هو قرار سياسي يخص أعضاء ومنسوبي هذا الحزب، بل إن هذا القرار هو الذي جلب أصواتا جديدة للإسلاميين وجعلهم يتصدرون الانتخابات البرلمانية التي جرت أخيرا في تونس بـ52 مقعدا، بعدما فقدوا ثقة الناخب التونسي وفقدوا معها بريقهم ومكانتهم في الساحة السياسية، فيما حل حزب المترشح نبيل القروي (قلب تونس) ثانيا بـ38 مقعدا، والتيار الديمقراطي ثالثا بـ22 مقعدا.   

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الديمقراطية هي وحدها القادرة على كسر شوكة المتاجرين بقدسية الدين من المتطرفين وغيرهم ممن ينعتون أنفسهم بالوسطيين أو المعتدلين، وهي أيضا وحدها القادرة على الرفع من منسوب الوعي السياسي والاجتماعي والحقوقي بين صفوف أفراد المجتمع، وهي كذلك وحدها التي تخول لأفراد هذا المجتمع حق متابعة المسؤولين السياسيين ومحاسبتهم على طريقة تعاطيهم وتدبيرهم للشأن العمومي، ومن تمة فهي الطريق السليم لاستشراف المستقبل بإنتاج الأفكار ووضع التصورات لخلق التطور والنمو وضمان الأمن والأمان والحرية والسلام.  

عبدالرحمان الأشعاري