مؤسسة سيّدة الارض وفعاليات تكريم في ربوع مدينة شكيم بقلم: منجد صالح
تاريخ النشر : 2019-10-20
مؤسسة سيّدة الارض وفعاليات تكريم في ربوع مدينة شكيم  بقلم: منجد صالح


مؤسسة سيّدة الارض وفعاليات تكريم في ربوع مدينة شكيم

شكيم مديناة كنعانية، بناها الكنعانيّون، آباؤنا وأجدادنا الأوائل، وأول من خطى على ثرى هذا الوطن منذ فجر التاريخ. وتسمّى بالعبرية شخيم. وتقع في وادي خصيب بين جبلي عيبال وجرزيم، عيبال من الشمال وجرزيم من الجنوب. وهذا الجنوبي يُعرف ويُعرّف أيضا بجبل الطور، مسقط رأس ومهد الطائفة السامرية الفلسطينية القديمة. 

وعندما جاء الرومان الى بلادنا في القرن الثالث الميلادي، بعد أن كانوا قد إعتنقوا المسيحية، وُلدت في فلسطين مع ميلاد الفلسطيني عيسى ابن مريم في مغارة كنيسة المهد في بيت لحم، بنوا مدينة نابلوليس على بعد كيلومتر ونصف من شكيم وفي نفس الوادي الخصيب بين الجبلين الشامخين. وقد بنى الرومان أيضا مدينة نابولي الواقعة في إيطاليا الحديثة. ومدينة نابولي ومدينة نابوليس توأمان. وقد تدرّج إسم المدينة الى أن اصبح على شكله الحالي، مدينة نابلس. وإمتدّت وتوسّعت وزحفت البيوت والبنايات حتى تسلّقت ووصلت قمّتي جبلي عيبال والطور. 

ومن اكثر ما تشتهر به مدينة نابلس صناعتين تقليديّتين قديمتين حديثتين: الحلويات النابلسية وعلى رأسها الكنافة النابلسية. طبق الحلوى الذي يعرّف بمدينة نابلس وتُعرّف المدينة به. فاذا ما مررت بمحل حلويات في نابلس أو في عمّان أو بيروت أو في دمشق أو في بغداد أو دبي، فانك ستطلب دون شك ولا تردّد، صحنا من الكنافة النابلسية الشهيّة، مع "قطر" زيادة. والصناعة الاخرى العريقة في نابلس هي صناعة الصابون النابلسي الأصلي، المصنوع من زيت الزيتون. يُعتبر صابونا صحّيا بإمتياز، صحيّ يحافظ على سلامة ونضارة الجلد وتنظيف مساماته.

وتُعرف نابلس وجبالها وجبال المحافظة "بجبال النار". حيث أطلق عليها هذه التسمية، في عهد الإنتداب البريطاني، من شدة شراسة مقاومتها، ومقاومة ثوّارها ضد المستعمر البريطاني، ولاحقا وحاليا ضد الإحتلال الإسرائيلي. 

تعرّضت نابلس الى أشد وأقسى درجات البطش والقتل من قبل جنود الإحتلال، منذ بداية انتفاضة عام 1987 إذ شاهد العالم بأسره عبر شاشات التلفاز الجنود الإسرائيليين المتوحّشين وهم يقومون بتكسير عظام أيادي وأذرع شُبّان فلسطينيين صغار بالحجارة، كان رابين، في حينه، قد هدد بتكسيرها، وطبّق جنوده تهديده بحذافيره. الى جانب الإغلاقات المُتكرّرة وتدمير إقتصادها ومرافقها. وفي المقابل فقد أخرجت نابلس، وضواحيها ومحافظتها، وخرّجت العدد الأكبر من الثوار والمقاتلين والمناضلين والمجاهدين والشهداء.

مؤسسة سيدة الارض الرائدة في العمل الوطني والثقافي والفنّي، مقرّها مدينة رام الله، كانت منذ الصباح ضيفا عزيزا مبجّلا معززا مُكرّما على مدينة شكيم، مدينة نابوليس، مدينة نابلس، وكانت، هي ذاتها، مُكرّمة (بكسر الراء) لثُلّة من فرسان وفارسات الوطن، في هذه المدينة العريقة، الذين أحتضنوا الوطن برموش عيونهم، على مدى سنوات من النضال والصلابة والعطاء. فارسات وفرسان يستحقون التكريم والتبجيل والمدح والثناء والإحتضان من قبل أبناء شعبنا ومؤسساته. 

كرّمتهم بدروع التقدير والإستحقاق. في مبنى بلدية نابلس العريقة. بحضور رئيس البلدية ورئيس الغرفة التجارية، والرئيس التنفيذي للمؤسسة، وأعضاء من مجلس إدارة واصدقاء المؤسسة، وعائلات المُكرّمين وذويهم، ولفيف من المناضلين والادباء والكتاب والصحفيين والمختصين، والجمهور الكريم، بتغطية مباشرة من تلفزيون فلسطين ووسائل إعلام متعددة أخرى.

الحاجة محفوظة إشتيّه، إم غانم، المعروفة باسم "سنديانة فلسطين"، كانت أولى الفارسات المُكرّمات. على إنتمائها وتشبّثها بالارض وبشجرة الزيتون، فقد غدت رمز التمسّك والتشبّث بالارض وبشجرة الزيتون المباركة، بحسب صورتها التي إلتقطتها وكالة الصحافة الفرنسية،  (والتي نال عليها مصوّرها التكريم)، وهي تحتضن شجرة الزيتون، جذع شجرة الزيتون. بعد أن كان شرع المُحتل والمستوطنون بتكسيرها وإقتلاعها. تحتضنها بقوة، إتّحدت معها، الى درجة أنّها أصبحت جزءا منها، جزءا لا يتجزّأ منها، من جذعها، من لحائها وخشبها وعصارة زيت زيتونها. 

سنديانة فلسطين، الحاجة محفوظة، بدت بزيّها الشعبي البديع، تُناهز السبعين عاما من عمرها المديد، دقيقة الملامح دقيقة الجسم، لا تتحرّك كثيرا من فرط أدبها وخفرها، وربما أيضا من فرط وقع الإحتفال الحاشد عليها، حيث أن "الواقف اكثر من القاعد"، في صالة التكريم. 

وصل الميكروفون الى يدها الدقيقة المُرتجفة قليلا، فقالت، بكلماتها البسيطة الشعبية الفلّاحيّة، بقلبها، بين شفتيها وعلى رأس لسانها، يكاد أن يفطّ من بين ضلوعها الى لسانها الى شفتيها، قالت: "عبطت الزيتونة. مش قادرة أعمل اي شيء ثاني، مش قادرة اعمل أكثر ... غير إنّي أعبط الزيتونة". 

الفارسة المكرّمة الثانية بدرع التقدير والإستحقاق: "الإسم: مريم روحي الشخشير. الهويّة: مناضلة فلسطينية. مكان الميلاد: نابلس. تاريخ الميلاد: 1954. المؤهل: ثانوية عامة. العنوان: سجن الرملة. التهمة: مقاومة الإحتلال، عمليات عسكرية. الحكم: مؤبّدين وعشر سنوات."

"لا شيء يأتي من لا شيء ... هناك دائما المقدّمات والنتائج. وحياة كل منّا لا يمكن ان تسير عشوائيّا، وخاصة اذا كانت حياة هذا الإنسان مُرتبطة بموقف وقضيّة. لقد وجدت نفسي محبطة مقهورة  مُقيّدة ضعيفة ... وكان علي أن أثور وأن أتّخذ قراري". كانت قد قالت مريم الشخشير. 

أطلق سراح مريم في عملية التبادل التي قامت بها الجبهة الشعبية القيادة العامة عام 1979، بعد أن أمضت في المعتقل عشر سنوات. 

مريم، المُناضلة الصلبة، كانت مبتهجة للتكريم، "تفطّ" بسمتها من ثغرها ومن بريق عينيها التي تغطيهما نظارة طبيّة. أمسكت بيدها الميكروفون وقالت: "سعيدة جدا بهذا التكريم. شكرا لمن ساهموا بهذا التكريم. يحضرني كلام وشعر درويش: "على هذه الارض ما يستحق الحياة، على هذه الارض سيّدة الارض، أم البدايات أم النهايات، كانت تسمّى فلسطين، صارت تُسمّى فلسطين. سيدتي أستحقُّ لأنّك سيدتي، أستحقُّ الحياة".

الفارس الثالث في حفل التكريم وإستلام الدرع هو سعيد العتبة. إسم مضيء منير يتلألأ في سماء النضال الوطني الفلسطيني. كان اقدم اسير فلسطيني وعربي في سجون الإحتلال، قضي واحدا وثلاثين عاما متواصلة وراء القضبان. زامل الشهيد سمير القنّطار والأسير، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، كريم يونس، ستة وثلاثين عاما في الاسر وما زال. ويسير على خطاهم الاسير القائد مروان البرغوثي، أبو القسّام. محكوم بعدّة مؤبّدات، بتهمة قيادته للإنتفاضة الثانية، بعد أن كان قد تخرّج برتبة قائد في الإنتفاضة الأولى. سبعة عشر عاما يقضي حتى يومنا هذا في الاسر والاعتقال. وأبو القسّام ما زال صامدا في محبسه يُعطي المثل والمثال لأجيال من المُناضلين ولشعبه الفلسطيني، ولغيرهم كثيرين. 

سعيد العتبة، على عتبة الستّينات او يزيد، كان فرحا مغتبطا بتكريمه يضحك كطفل بريء. يعتمر على رأسه قبّعة، "كسكيت" فاتح اللون، يزيد من وجهه البشوش بشاشة وإشراقا.

قال والميكروفون في يده: "هذا تكريم لكل الحركة الاسيرة. يعكس قوّة الشعب الفلسطيني. قوّة مؤسساته. أشعر أنّها لحظات مميّزة. أشكركم على تكريمنا. سنعمل دائما من أجل مستقبل رائع يحمل لنا بشائر رائعة. سنواصل، سنواصل طريقنا. كل التحيّة للأسرى". 

وفي نهاية تكريمه، أهداه السفير منجد صالح نسخة من كتابه الذي صدر قبل شهرين، ضاحية قرطاج. وقد إبتهج سعيد العتبة بهذه الهدية وبانت على وجهه السعيد مزيدا من السعادة، وخاصة بالإهداء المميز لمناضل مميز، حيث قرأ: "الى سعيد العتبه، شيخ المناضلين وعميد الأسرى ... الذهب المعتّق المُتجذّر بين حبيبات تراب الوطن. مع المودة والإحترام والتقدير".

الفارس المُكرّم الرابع، حافظ خليل فطاير، عامل متواضع، عانقت أياديه، على مدى أكثر من خمسين عاما، صناعة الصابون، في مصبغة آل طوقان. عائلة الشاعر الفذ إبراهيم طوقان، وأخته الشاعرة المُبدعة فدوى طوقان. 

العم حافظ، الذي تخطّى الخامسة والثمانين من عمره المديد، وبعد أن إستلم درعه، جائزته التي إستحقها بجدارة، كان منفعلا الى درجة أنّه بالكاد إستطاع قول بعض الكلمات، كلمات الشكر للبلدية وللقائمين على التكريم، قال: "الله يحماهم ويعلّي جاههم". 

مسك الختام من المكرّمين المبجّلين الأكارم، كانت من نصيب الثقافة والأدب والإبداع. درع التكريم الخامس ذهب وبكل فخر وإعتزاز للشاعر والمترّجم والأديب المبدع، الفارس محمد حلمي الريشة. يحمل في جعبته عشرين كتابا من الشعر. فارس من فرسان الكلمة والقصيدة الشعرية المُبدعة.  

الشاعر كان شاعريّا خلال تكريمه. كانت مشاعره جيّاشه. إستقبل درع التكريم بكثير من السعادة والحبور. وفي لحظة إستلامه الدرع هتف صوت جهوري من القاعة قائلا له: "والله هذه بدها قصيدة شعر"، وإبتسم الشاعر بحياء ولطافة على هذا الطلب الجميل المُفاجىء.

ومع غبطته وسروره، إلّا أنه كان عاتبا بعض الشيء على حال الثقافة في مدينة نابلس، قال: "الحضور الجميل بين جبلي عيبال وجرزيم، شكرا أنّكم إنتبهتم للثقافة في نابلس. كان لي عتاب على حال الثقافة هنا. أرجو من البلدية والمكتبة وجامعة النجاح الإهتمام أكثر بالأدب والثقافة. شكرا لكم جميعا". 

قبل هذا العرس الوطني النضالي الثقافي البديع، كان لمؤسسة سيدة الارض زيارة خاصة ومعبّرة، زيارة فريدة من نوعها، فمكان الزيارة مبجّل، كريم، مُكرّم، ألا وهي مقبرة شهداء الجيش العراقي، الواقعة شرق مدينة نابلس. شاركوا بشرف وشجاعة في الدفاع عن ثرى فلسطين أمام عدوان العصابات الصهيونية عام 1948 وخضبوا بدمائهم الزكية تراب وثرى فلسطين ليمتزج الدم العراقي مع الدم الفلسطيني في بوتقة من العطاء والتضحية والفداء.

مائة وخمسين قبرا لمئة وخمسين فارسا هماما مقداما سقطوا دفاعا عن شرف فلسطين وشرف العراق وشرف الامة العربية والإسلامية. قبورهم شاخصة ماثلة محافظ عليها بكل الود والعز والفخار. بعض القبور ممهور عليها تاريخ الإستشهاد وإسم الشهيد، والعديد منها مجهول إسم الشهيد، لكنه معلوم في ذاكرة الوطن والتاريخ.

لحظات عاطفية وجدانية إنسانية وطنية عروبية عراقية فلسطينية مُعبّرة حين قراءة الفاتحة لهؤلاء الشهداء والترحّم على أرواحهم الطاهرة. كانوا قد قدموا من بلاد ما بين النهرين، دجلة والفرات، من بلاد الرشيد ونبوخذ نصّر، للدفاع عن أرض الرباط، بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. رحمهم الله جميعا رحمة وأسعة وأسكنهم فسيج جنّاته وحشرهم مع النبيّين والصدّيقين والشهداء، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

أما بعد العرس الإحتفالي فقد كان لوفد المؤسسة زيارة خاصة أيضا، فيها من المعاني الروحانية والدينية والتاريخية والوطنية الشيء الكثير. زيارة للجبل الشامخ الجنوبي، جبل جرزيم، جبل الطور. زيارة لتهنئة الطائفة السامريّة العريقة بإحتفالها "بعيد العرش". 

وقد كانت بداية الزيارة، الجولة، صباحا، في مقر محافظ محافظة نابلس، الرجل اللطيف الهادىء المهذّب الصلب. رحّب بالضيوف واشاد بعمل ونشاط مؤسسة سيّدة الأرض. وقال إنّه على قناعة تامة بأن اجيال فلسطين ستواصل النضال، وسينظرون إليها "من الماء الى الماء" – من الماء الحلو الى الماء المالح-. وأن الجيل الجديد سيكون أكثر صلابة وتصميما من جيلنا. جيل يخرج من بين ظهرانيه عمر أبو ليلى، بهي الطلة دائما.

عاد الوفد ليلا من مدينة شكيم، مدينة نابلس، مدينة الكنافة والصابون البلدي والثوّار الأشداء، جبال النار، مدينة الشهيدة لينا النابلسي والشهيد المُصوّر نزيه دروزة، الى مدينة رام الله. وطوال طريق العودة كانت ترن في آذانهم كلمات المناضلة مريم الشخشير، إستقتها من إبداع قصيدة محمود درويش: "على هذه الارض ما يستحق الحياة، ... كانت تُسمّى فلسطين، صارت تُسمّى فلسطين، سيّدتي أستحق لأنّك سيّدتي أستحق الحياة". 

فلسطين أكبر منّا جميعا. وبوصلتنا يجب أن تكون دائما وأبدا موجّهة نحو فلسطين ... نحو فلسطين.