رحلة في جدليات الإسلام المبكر بقلم: سامح عسكر
تاريخ النشر : 2019-10-18
رحلة في جدليات الإسلام المبكر  بقلم: سامح عسكر


يتساءل البعض عن حقيقة بعثة الرسول في الحجاز أو البتراء الأردنية ، ورغم غرابة هذا السؤال إلا أنه توسع مؤخرا ليشمل مفكرين ومثقفين كُثُر في أوروبا والمشرق وبأهداف متعددة لن نناقشها لما قد يعتريها من شخصنة وطعن بالنوايا كما هي عادة بعض المسلمين في الرد على تلك الادعاءات، وفي رأيي أن المناقشة مع هذا الرأي مفيدة جدا لتصور الإسلام الأول على وجهه الصحيح الواقعي والتخلص من كم كبير من الموروثات والمفاهيم الخاطئة عن ما اصطلح عليه "عصر السلف أو خير القرون" وفي هذا المقال سأتفرغ لمناقشة جدليات هذا الرأي من زوايا متعددة أولا : لإيصال فكرة هذا الرأي وحجيته خارج منطق المؤامرة للمسلمين، وللرد المنطقي والعلمي والحض على التفكير السليم معه كتشجيع على الإكثار من تلك الأسئلة التي تمثل في جوهرها مفرزة مهمة للتاريخ .

مبدئيا: فالذين قالوا بأن مكة هي البتراء قالوا ذلك لسببين الأول أن مكة الحجاز هي مدينة حديثة وقد رددت على ذلك بمقال "مكة بين التاريخ والقدسية" منذ أعوام منشور على الإنترنت، وفيه دليل تاريخي أن مكة الحجاز قديمة من عصور قبل الميلاد، والسبب الثاني عبارة عن فرضية هروب عبدالله بن الزبير من البتراء – مكة القرآن – ليبني مكة الحجاز ويعيش فيها بكعبة جديدة عوضا عن التي سيطر عليها عبدالملك بن مروان " يقصد قبة الصخرة"

وفي الحقيقة هذه الفرضية عليها علامات استفهام، ابن الزبير نفسه لا يوجد دليل أثري عليه فكيف قالوا بهروبه؟..تاريخ المسلمين يحكي قصصا مختلفة تماما ولا يصح علميا سد فراغاتها بفرضيات واحتمالات دون قرائن، وقتها سيكون هذا الاحتمال عبارة عن (وهم وهواجس) ورؤية دان جيبسون ولوكسيمبرج تقوم في حيثياتها على أن بيئة وطقس مكة الحجاز ليست هي بيئة وطقس مكة القرآن، كقولهم أن الزيتون لا يزرع في الحجاز فكيف يقسم الله به لقريش وهم لا يعرفوه، وتناسوا أنه حتى بافتراض عدم زراعة الزيتون في الحجاز قبل 1400 عام ولكن علم القرشيين به أمر مختلف، لقد علموا الحرير الشامي وهم لا يصنعوه، وعلموا قيراط مصر وهم لم يقيسوه..

شئ آخر : أن مناخ الأرض تطور ويتغير باستمرار ، نحن بحاجة لدراسة مناخ وطقس الحجاز قبل 14 قرنا لنجزم بشكل مؤكد أن هؤلاء لم يزرعوا الزيتون، وقد علمنا أن سيناء تزرعه وهي أقرب أراضي الصحراء مناخيا وطقسيا لأرض الحجاز

المؤكد عندي أننا نعرف الرسول وعائلته وأشقائه وأعمامه ونسبه كاملا، وقصص هجرته وغزواته ووفاته وما حدث بعد منه، لم يأتِ ولو على سبيل الاحتمال أن كل ذلك حدث في مكان مختلف وإلا وصل إلينا من المعارضين السياسيين والفكريين، فالسنة والشيعة لم يختلفوا حول مكة الحجاز وكل ما سبق لديهم أمر بديهي..فهل يعقل أن اتفاق الأعداء والخصوم على مكان ما هو مدبر أو نتيجة لمعلومات خاطئة؟..هل يعقل أن يتفق كل المسلمين على صناعة كذبة ولم يستفيق ضمير واحد فيهم؟ وعلى فرض جهالة وقصور المسلمين في العلم بمكان عيش الرسول ما الدليل المؤكد واليقيني أن الرسول عاش في البتراء ونحن لم نرَ في تلك المدينة الأثرية سوى أطلال مختلفة المعالم والتفاصيل عن مكة القرآن والتاريخ.

حتى بمحاولات البعض للتوفيق بين تفاصيل تلك المدينة وأطلالها وبين بعض الروايات فهو توفيق لم يعالج خلو البتراء من آثار إسلامية ومساجد ، وفرضية ابن الزبير الذي هرب لمكة الحجاز لم تعالج هي أيضا خلو مكة الحجاز من مساجد نبوية وقباء وآثار أجمعت كتب التاريخ على أنها في يثرب، وعلى فرضية أن البتراء هي يثرب أين الآثار الدالة على وجود المسجد النبوي وقباء ومناطق عيش قبائل اليهود "خيبر وقينقاع والنضير وقريظة"..سنرى في النهاية أن تلك المحاولات ليست توفيقا في الحقيقة بل تطويع للتاريخ والجغرافيا ليخدم نظرية غير علمية وثغراتها أكبر من حقائقها المثبتة...

تعمقت أكثر في رؤية باتريشيا كرون ولوكسيمبرج ودان جيبسون وجاي سميث وروبرت سبينسر وجدت بعض الردود على الأسئلة المطروحة عالية، فمثلا عدم وجود آثار إسلامية في البتراء يعود لزلزال ضربها أوائل القرن الثامن الميلادي، قلت أن في البتراء آثار يهودية ومسيحية ونبطية لا زالت قائمة وهي أقدم من آثار المسلمين..مقام هارون نموذجا ، فكيف أن الزلزال هدم آثار المسلمين فقط؟..وهل الزلزال يفرق بين الأديان؟ كذلك فالبتراء بها مسرح روماني كبير لو قلنا أن هذا المسرح بناه العرب أو ورثته قريش من أسلافهم فلماذا لم تزدهر في عصرهم الفنون وكيف حرّموا الفنون أصلا؟..الجواب الحاسم على ذلك أن قريشا لم تعرف الفنون ومسارحها كي تمارسها وطبيعي يخرج فقهاء المذاهب على خصومة تلك الفنون ليس من قبيل التحريم الشرعي ولكن من قبيل "عدم الأُلفة والاعتياد"

كذلك فموقع البتراء قريب من الخط الفاصل بين البطالمة والسلوقيين قبل الميلاد وطبيعي أن يصلها التنافس الإغريقي، لو كانت قريشا في البتراء فما الآثار والتاريخ المنقول الذي يؤكد تفاعل أو احتكاك أو رؤية قريشا لهذا الصراع اليوناني؟..إن غاية ما عرفوه هجمات الأحباش وحملة أبرهه من الجنوب اليمني، مما يعني أنهم كانوا أقرب لجنوب الصحراء من شمالها، علاوة على تماثيل البتراء التي تعد نسخة أخرى من النحت الروماني المتقدم الذي يختلف في مضمونه وجوهره ورسائله عن فنون العرب في تصوير آلهتهم، إن غاية ما صنعوه العرب من تماثيل الآلهة يعد مضحكا ومثيرا للسخرية ويؤكد أن هذه القبائل لم تعرف فن النحت كالمصريين والروم والفرس والشوام، وإلى الآن يمكن إيجاد هذا الفارق بين تماثيل اللات في معابد سوريا وبين أحجار العرب المثلثة والمربعة الدينية، واختصار ذلك أن قريشا لو عاشت في البتراء لعرفت فن النحت ولا أعلم كيف تخفى هذه الحجة عن قائلي نظرية البتراء هي مكة القرآن.

أما القول بأن اتجاه القبلة الأول كان للبتراء وليس للقدس أو القول بأن القبلة النهائية هي للبتراء وليست لمكة فيأتي في سياق إثبات أن البتراء كانت مدينة قرآنية ، وهو ادعاء سخيف يفترض أن البشر في ذلك الزمان كانوا يعرفون القمر الصناعي والبوصلة والجي بي إس ، رأيت أفلاما وثائقية في ذلك يجتهدون كيف أن اتجاه قبلة المساجد القديمة في مصر والشام والصين وأفريقيا كان للبتراء وليس لمكة، فعِوَضا على أنه لا يمكن التحقق من ادعائهم بمعاينة تلك المساجد ورسم هذا الاتجاه في خرائط جوجل ولكن كيف يستدلون بقول لا يضع مساحة للخطأ في زوايا واتجاهات الأقدمين، إنهم كانوا يبنون المساجد وقبلاتها حسب الشمس وجهات المشرق والمغرب أو باتفاق محلي على جهة ما بعينها دون التأكد منها علميا كما يتوفر ذلك حسب العلم الحديث.

أما الذين يشككون في وجود شخصية الرسول أو يسوع ويبني على هذا التشكيك قصة اختلاق الإسلام من أتباعه فلدي أسئلة بسيطة: هل تعلم بوجود نابليون بونابرت أو جنكيز خان؟..هل وجد الإسكندر الأكبر حقا ؟..فإذا قيل نعم هؤلاء شخصيات حقيقية ولديهم آثار تروى عنهم قلت: هذا ما حدث للأنبياء خصوصا موسى وعيسى ومحمد، سيقول : ولكنك لم تر محمد، قلت: وأيضا أنت لم ترى بونابرت والإسكندر، سيقول: أن هناك آثار وتماثيل للإسكندر..قلت: وهناك آثار لمحمد كمسجده في المدينة والقرآن وأكثر من مليار ونصف المليار يؤمنون بتعاليمه وأقواله، سيقول: أن كل هذا وهم وقصور معرفي لأنه قد يوجد شخص ما في زمن سابق صنع الإسلام باسم محمد، قلت: وما الذي يؤكد لك أنه لم يظهر شخص ما في زمان سابق يزعم أنه الاسكندر ويحكي بطولاته والناس صدقته؟..مختصر الكلام أنه طالما آمنت بوجود الإسكندر فيجب عليك الإيمان بوجود محمد لأن وجوده التاريخي ثابت عند أتباعه على الأقل، وأما ندرة أو قلة الآثار الأركيولوجية عنه فلثقافة العرب التي كرهت بناء التماثيل والأضرحة بدعوى العبادة في ذلك الزمن، أما الآن فالوضع مختلف.

كذلك فالنتائج منطقيا دليل على المقدمة كما أن المعلول يدل على علته، إنشقاق المسلمين الحالي في معظمه تأثر بوقعة كربلاء وبدء ظهور الفرقة الشيعية سياسيا بشكل أوضح وأنقى مما حدث في صفين، والسؤال المنطقي: ما الذي أدى لكربلاء؟..وما الوضع الذي تكرّس بعدها؟..إنك إذا ذهبت لمناطق الشيعة ستجد أسماء حسن وحسين وعليّ وفاطمة شائعا في حين لا يُسمون عُمَرا أو عمرو، كذلك لو ذهبت لمناطق السنة ستجد أسماء عمَر وعمرو ويزيد ومروان، هل يُعقل أن ذلك التأثير الثقافي لكربلاء وصفين في الأسماء أصله لا شئ ؟..هل يُعقل أن جميع المسلمين الأوائل وُهِموا لدرجة نجاح مؤامرة البعض بتغيير التاريخ؟

الجواب البسيط أن حكايا ألف ليلة وليلة ومصباح علاء الدين ومغارة علي بابا لا يشك الناس في أسطوريتها وخيالها الغير واقعي، حتى وبفرضية إيمان البعض بها قديما لكن لم يحدث الإجماع أبدا على واقعيتها، نفس الشئ لأساطير جحا وأبو زيد الهلالي فبرغم الأقول بواقعية تلك القصص لكن حدث الاختلاف حولها ، شخصية جحا لم يتم تأكيدها بشكل قاطع من هو.مرة يقولون سوري ومرة يقولون تركي ومرة يقولون فارسي بينما الوصول لحقيقة الشخصية يلزمه تأكيد أساطيرها المتداولة على حياة الشخوص المعنية، وهذا لم يتحقق..فقط الذي شاع في الوسط الثقافي أن إسم جحا كان موجودا لكن حكاياتها ونوادرها لم تثبت تاريخيا، وفي تقديري أن هذا أبسط جواب على الزعم بأسطرة وجود محمد ، فلو لم يوجد هذا الرجل العربي المصلح قبل 14 قرنا ما أدى لوجود الإسلام في العالم ولخرق وجوده الإجماع وأصبح القول بولادته محل شك.

ولماذا نذهب بعيدا ولدينا دليل أركيولوجي ثابت بوجود مصاحف قديمة أرخت بحياة النبي والمسلمين الأوائل كمصحفيّ " برمنجهام وصنعاء" وكلاهما دليل علمي على كتابة القرآن في القرن 7 م وهو التاريخ المؤكد وقوعه في كتب التاريخ الإسلامي وبعض المنشورات المسيحية كورقة "جزء من الفتوحات العربية" المدونة سنة 636م على إنجيل مرقس باللغة السريانية، وفيها حكايا عن معركة اليرموك بين العرب والروم، وذكر لمحمد تحديدا بوصفه قائدا عربيا، والمعروف أن معركة اليرموك حدثت سنة 636 م أي بعد وفاة الرسول بأربعة سنوات، فكيف ذكرت الورقة محمداً كقائد عربي وهو ميت؟..وفي رأيي أننا أمام احتمالين: الأول عدم دقة تأريخ المسلمين لغزواتهم والثاني: أن الكَتَبة لم يعلموا بوفاة الرسول فظنوا أن حروب العرب لا زالت تحدث في ظل قيادته، وشخصيا أرجح الاحتمال الأول لأسباب منها أنه وفي حال جهلهم بموت الرسول ينبغي عليهم العلم بقائد العرب في اليرموك وهو الخليفة "عمر بن الخطاب".

علاوة على شهادة الأسقف الأرمني "سيبيوس" الذي وصف محمدا بالتاجر العربي وكان معاصرا لمعركة ذات الصواري في عهد عثمان بن عفان، وقد سبق الاستشهاد بروايته في إثبات المعركة البحرية ولكن بنتائج مختلفة عن التي سيقت في التاريخ الإسلامي، وقد فصلت ذلك في كتابي "رسائل في التجديد والتنوير" إضافة لمحاضرتي على يوتيوب بعنوان "التزوير في الفكر الإسلامي ج2)، وعندي أن بحوث المستشرقين الأوروبيين أكثر تأكيدا لحياة الرسول فهم وإن كانوا غير مسلمين لكن اطلعوا على تاريخ وثقافة المسيحيين الأوائل ولو كان هناك ثمة شك في وجود محمد لقالوا باحتمالية أسطرته، لكن طالما لم يحدث فسكوتهم دال على فقدان أي مصدر مسيحي متقدم يشكك في وجود النبي كقائد عربي مثلما عرفوه.

وللمزيد في هذا الصدد يمكن مراجعة كتاب المؤرخ الأمريكي "روبرت جي هولاند" بعنوان " رؤية الإسلام كما رآه الآخرون" الذي نقل نصوص القرنين السابع والثامن الميلاديين باللغات اليونانية والقبطية والسريانية والصينية ..وغيرها في شأن الإسلام المبكر، وفيه نصوص ومخطوطات كثيرة تدل على وجود محمد وحياته ومعرفة مسيحيين ويهود القرون الأولى به

نقطة أخرى أن المؤرخ البيزنطي "تيوفان المعرّف" المتوفي سنة 817 م كتب عن الرسول في كتابه "تاريخ تيوفان" وفيه كذب قصص الوحي واتهم النبي باختلاق قرآنه وقال أن اليهود الذين أسلموا مع محمد ظنوا أنه المسيح المبشر به آخر الزمان..لا مشكلة هنا لرأيه فهو طبيعي باعتباره قسا مسيحيا ولكن الرجل لم ينكر وجود النبي وأمر تصديقه شئ مختلف، تيوفان لم يكن إذن معاصرا للدعوة لكن كتب عنها متأخرا ب 150 عام، وفيها قد يشتبه أن أقوال تيوفان ربما تكون مستوحاه أو مقتبسة من كلام وكتابات العرب، لاسيما أن عصر تيوفان شهد عصر التدوين الإسلامي – الشفهي - في القرن الثاني الهجري، لكن لم يلحق أمر التدوين الكتابي في عصر المتوكل العباسي مما يعني أن تيوفان على فرض اقتباسه من كلام العرب فهو إثبات أنه لم يكن ثمة إنكار لما قاله هؤلاء عن نبيهم وإلا سجله تيوفان مشككا في قصة نشأة الإسلام بالأصل وقد كان قريبا من زمن البعثة..

قبل ذلك قلت بأهمية العلم بالتواتر وضربت مثل لذلك في محاضرتي على يوتيوب بعنوان "أكذوبة علم الحديث" شرحت فيه معنى التواتر، وأن الأخبار المنقولة والمتكررة من جمع غير معلوم العدد من أول السند لمنتهاه بحيث يستحيل تواطؤ ذلك الجمع على الكذب هو الذي يدخل في حكم المتواتر، وأصبح العلم به يقينيا..أما الإيمان بفكرة الخبر شئ مختلف، وما حدث أن هؤلاء خلطوا بين ثبوت الخبر والإيمان بالمُخبِر فليس المطلوب منك أنه وطالما آمن بوجود محمد أن تؤمن برسالته جبرا..هذا خيارك الشخصي لا ينازعك فيه أحد، أما أن تشكك في وجود محمد نفسه بدون أدلة علمية أو ضبط عقلاني وإجابة على سؤال التواتر فهو عبث مصطنع من كثرة الجهل وندرة العلم بثقافة المسلمين ومصطلحاتهم.

وفي تقديري أن عكوف البعض عن فهم مصطلحات المسلمين نابع من ازدراء المسلمين أنفسهم، يكاد الأمر يصل للشخصنة وربط المعارف وجوديا بقبول الأشخاص ورفضهم، وبالنسبة لي هذا شطح وجنون حمل البعض مؤخرا ليس للتشكيك فقط بوجود الرسول أو قدسية البتراء ولكن الادعاء بأن الرسول كان ملكا فارسيا اسمه "خسرو" هكذا بدون مناقشة الديانة الزرادشتية وما جاء به القرآن والفارق بين الديانتين، فقط يكون هذا الشخص قد وقف على مقالين لمشتركات بين الإسلام والزرادشتية ليصل إلى نتيجة حاسمة ومتسرعة أن محمد مجوسيا، وهذا جهل بمقارنات الأديان والثقافات وجهل بتاريخ البشر وسياقاته الزمنية والمكانية والمناخية أحيانا، وعلى سبيل المثال أن المجتمع النهري والسهلي كالإيراني يختلف في أفكاره ورغباته عن المجتمع الصحراوي العربي، ويميل أكثر للعمق الروحاني والفلسفي، بينما قريشا والعرب لم يعرفوا ذلك البعد الفلسفي سوى متأخرا..

أما قصص العملات المعدنية فالثابت أن العملة ليست دينا ولا تعني هوية بل وسيلة تبادل مالي واقتصادي، الفلسطينيون مثلا يتعاملون بالشيكل فهل هذا يعني قبولهم بدولة إسرائيل؟..كذلك قديما فالأمويون تعاملوا بالذهب الروماني هل هذا يعني أنهم كانوا مسيحيين؟..رأيت عملات كثيرة لخلفاء أمويون كعبدالملك وفيها رموز الصليب المعقوف وأخرى نجمة داوود، إنما بدراسة عملات العصور التالية رأينا اختفاء تلك الرموز مما يعني أنه وفي بداية نشأة دولة المسلمين الكبرى في دمشق كان من الطبيعي الاستعانة بعملات الرومان في التبادل خصوصا وأن تلك العملات ظل التعامل بها قرونا متصلة ويصعب تغيير الوضع المالي هكذا في سنوات دون تأثير سلبي على عمليات التبادل، مما يعني أن الاحتجاج بقصة العملات على دين الملك غير علمي..

كذلك فالاحتجاج بالصور المرسومة على العملات لتكوين صورة حقيقية للخليفة هو أيضا عمل غير علمي، رأينا فراعين وملوك مصر القديمة صورهم في التماثيل مختلفة تماما عن مومياواتهم..مما يعني أن الفنان والنحات كان يهتم بإبراز صور معيارية للملوك والزعماء لأسباب سياسية واجتماعية أو فنية خاصة به ليست بالضرورة أن تلتزم بأصل المادة الفنية، وأبرز مثال على ذلك تماثيل الملك "رمسيس الثاني" الشابة والقوية وملامح وجهه نجدها مختلفة مع مومياء الملك التي تقول أنه كان عجوزا في التسعين وبملامح طولية للوجه والذقن ، فما الضامن إذن على تطابق صور الخلفاء والقادة على العملات بصورهم في الحقيقة، أو اعتبار ذلك دليلا على أمر ما مثلا في موضوع الأنساب والأعراق.

وأخيرا: فهذه الأسئلة تظل حديثة لم تُسال قبل السبعينات لكنها تنتمي في جوهرها للمنهج الديكارتي المطلوب لتشريح وتحقيق النصوص ، وقد سبق استخدام الأديب "طه حسين" لهذا المنهج في نقد الشعر الجاهلي مما أثار عاصفة أزهرية ودينية عليه، أما الآن وفي عصر الإنترنت لم تعد لتلك العواصف قيمة بتعزيز الرأي الآخر خارج منظومة الدولة..بل أصبحت ملك تام للفرد أن يعبر عن رأيه كما يشاء، لاسيما أن الإنترنت نجح في إزاحة أنظمة دكتاتورية لو وجدت في العصور القديمة لتطلب إزاحتها ملايين الضحايا، لكن ميزة الرأي الآخر وضمان الإنترنت له جعل من المعلومة شئ متداول للجميع وحق مكتسب لا ينبغي إنكاره في ظل إيمان الدساتير الحديثة به.

وفي تقديري أن هذا المنهج مطلوب الآن لتشريح وتفكيك التراث الإسلامي بإحياءة مختلفة عن جهد المستشرقين الذين كان لهم الفضل الأول في إعادة قراءة تاريخ المسلمين بشكل مختلف عن الموروث، وهذا يؤكد أن الحاجة أصبحت مُلحّة للتفكير بهذا المنطق رغم أخطاره وتسرع المنتمين له أحيانا، لكن المناقشة والحوار الجدلي سيفيد مثلما عرضنا هذا الرأي للرد على بعض نظرياته وثوابته، فالوسيلة التي تجمع هذا المنهج والتنويريين المسلمين هي الشك في المصادر التاريخية الأولى للمسلمين، وإعادة إنتاج أفكار وقناعات جديدة للإسلام المبكر ربما تصل في بعض جزئياتها للانتصار إلى أحد المذاهب مما يعرض التنويريين المسلمين بالخصوص للاتهام بالتحيز لبعض الطوائف فقط لأن نتائجهم وصلت لنتائج مختلفة ومتعارضة مع أسس وثوابت طوائف أخرى داخل الإسلام.

مما يتطلب حضا على الاعتدال في مناقشة تلك المصادر المشكوك في صحتها وعدم التسرع في الأحكام عن طريق توظيف الديكارتية بشكل صحيح أولا ثم إعادة الاعتبار للمنطق الصوري ثانيا والتشجيع للعلم دون تعصب ثالثا، وقد تعرضت شخصيا لآفات هذه الأحكام جميعها فكلما بحثت بتجرد في تراث المسلمين وجدنا اتهامات بالتشيع والإلحاد والنصرنة والتهوّد ، وكلما ناقشنا نظريات وأفكار بعض اللادينيين وجدنا اتهامات بالجمود والتلميع والتزلف والجُبن، بينما لو كنا جُبناء ما ناقشنا التراث أصلا ولا شككنا في مصادره الأولى وإعادة تعريف وتأويل للنصوص بطريقة مختلفة عن السائد، وأكبر دليل على ذلك أن هذا المقال يحوي أسئلة جوهرية ومنطقية لن تجد ردا بل قفزا من تيار آخر يرى أن محمد أسطورة تاريخية وأتباعه هم الذين اخترعوا الإسلام، أما الأفكار التي وردت في المقال وإحالاته فلن تجد ردا وستظل الأزمة قائمة بين الطُرشان المعاندين كل منهم يرى الآخر لكن لا يسمعه ولا يحب أن يسمعه.