السِّنفاجُ القيرواني بقلم: صلاح بوزيّان
تاريخ النشر : 2019-10-17
السِّنفاجُ القيرواني بقلم: صلاح بوزيّان


السِّنفاجُ القيرواني

قصّة قصيرة بقلم الكاتب الأستاذ : صلاح بوزيّان / تونس

نعم أذكُر ذلك المشهد ، لقد عادت أمّي إلى البيت ، كانت تجمعُ الحطبَ ، كدّسته كومًا ووضعت تحته القشّ وأوراق يابسة ، ثمّ دخلت إلى المطبخ ، أخذت علبة الكبريت ، وعادت خلف البيت ، لا حقتها وبقيتُ أنظرُ إلى السّماء ، أوقدت النّار وبقيت تعالجُ الأعواد . لحظات الغروب ممتعة ، ودفء بيتنا روعة ، أنا سعيد بين إخوتي وأبي وأمّي ، أعدّت أمّي كلّ شيء بينما كنتُ مستلقيا على جلد خروف قربها ، ألعب بسيّارة وأتأمّل السّماء و جبل وِسْلاَتْ والأشجار ، كلّ شيء هادئ ، الطّيور كَنَّتْ في أوكارها ، وأبي توضّأ و أعدّ السجادة وبقي يحوقل ويسترجعُ وهو يبتسم لي . كنتُ متشوّقًا إلى رغيف ساخن من يد أمّي . نضجُ الخبز فناولتني أمّي رغيفا سخونا ، فسحبتُ صحن الزّيت و طفقت أغمّس وآكل ، حدث ذلك دائما ، كانت الحياة حُلوة جدًّا ، وكنتُ أهشّ بعصا جدّي على الخرفان و البقرة والعنزة المشاكسة ، كانت الحركة في بيتنا لا تهدأ ، ولكنّها كانت ثمّة سعادة لا توصف ، والآن هيهات تبدّلت الدّنيا بأسرها ، وها أنّني بعد هذه السنين الطويلة قد انزويتُ بهم في بيتي ، يرافقونني إلى الشغل ، ويركبون معي السّيارة ، كانت بالأمس البعيد عربة يجرّها حصان جدّي . صرتُ أجلسُ في مقهى طقطق بباب الجلاّدين في مدينة القيروان بعد أن غادرتُ ريف قرية الوسلاتية ، وأصبحتُ أدرّسُ في الجامعة ، تغيّر كلّ شيء بعد الحروب العالمية والحروب الباردة ، وتفتّت الميراث ، و استملك أرضنا ناس أغراب . هاهي السّوق العتيقة ممتدّة في جلبة ، وسوق الزّرابي تعجُّ بالوافدين و التُجّار ، ها هو التيجاني ، تاجر قيرواني آته الله سعة من المال ، أزهى من طاوس ، يُناقش  آخر زاده الله بسطة في العلم ، وقور حسنُ السّمت و لا يغضبُ ، كانا جالسين على دكّة أمام المتجر ،  بائعات يمسكن بزرابي و مراقيم صوفية ، لم يتغيّر شيء . خرجتُ من بيتي وهُمْ معي في الرّوح ، ذهبتُ إلى دكّان السّنفاج العزعوزي ، كان مكتظّا ، أهل المدينة يعشقون السّفنج و البيض العربي ، أكياس الدّقيق و الملح و مواعين في الرّكن ، العزعوزي يرتدي منديلا أبيض ، منشرحٌ يستقبل زبائنه بابتسامة عريضة ، يتربّعُ على دكّة أمام المقلاة ،  يكوّرُ العجين كرة إثر كرة ، يفتح الواحدة بخنصره في الوسط ، ثمّ يلقيها في الزّيت الحامي  فترتفع التّشتشة ، ويلاحقها بالسّفود ، يقلّبها يمنة ويسرة حتّى تنضج ، ثمّ يخرجها صفراء ، ويعيد الكَرَّة مع كرة عجينة أخرى  وكانت عيون الزّبائن زائغة ، و أفواههم تتشهّى السّفنج و الفطائر ، وقفتُ أشاهد كلاما كُتب على رخامة ، دخلتُ في الرُّخامة  ما هذا ؟ :{ واعلم أنّ الأيّام دُولة بين النّاس ، وإيّاك و قهرُ الخَلْقِ ، فالظّلمُ ظُلمات ، وعاشر بالمعروف ، و أحْسِنْ فالإحسانُ ربحٌ و هناءُ معاشٍ ، ولا تغرّنك الحياة الدّنيا و زينتها ، و ترفّق بهذا الدّكان ، فقد ورثناه عن الأجداد ، وفيه سرّ من الأسرار ، لا تغشّ و لا تأكل مال اليتيم و الأرملة ، ولا تنهر المسكين ، وتلطّفْ بكبار السنّ ، و اتّق الله في الأمور كلّها } وشيئا فشيئا تحوّلت الرّخامة إلى بستان ورد ، واختفى الدّكان و الزّبائن و السّفنج و الجدران ، وانبسطت الأرض ، تغيّر الهواء ، وانبثق نور شفّاف اخترق المدينة . وضعت الحرب أوزارها . و رأيت أقواما تردّ الحاجات إلى أهلها و تتوارى بعيدا . و تَحَوَّلَ دكّان السّنفاج إلى نبع ماء ، آوت إليه الطّيور الجريحة  ترتوي وتضمّدُ جراحها . صارت المدينة شديدة البياض ، تلفّعتْ بنور سماوي مبهر ، وعمّ الهدوء . انتبهتُ فوجدتني قد أكلتُ السّفنج مرّات ومرّات و أنا شارد الذّهن ألاحقُ بريقُ النّور .