كأني عيّدتْ بقلم:جهاد الدين رمضان
تاريخ النشر : 2019-10-17
كأني عيّدتْ بقلم:جهاد الدين رمضان


كأني عيّدتْ

   في مدينة اسطنبول جامع صغير، بناه عبد فقير من مال التوفير في الأكل، كان يشتهي الطعام اللذيذ الشهي عندما يمر في السوق، فيعصر معدته و يقول :

كأني أكلت.

   استمر هذا العابد في إدخار المال لبناء جامع حباً في الله بما يوفره من ثمن الطعام بقوله كأني أكلت، و أخيراً حقق حلمه بعد سنين، و اشترى قطعة أرض صغيرة بنى عليها الجامع الصغير، و وفى النذر بعد طول حرمان من لذيذ الطعام، و سميَ الجامع فيما بعد بذات كلمات عبارته المشهورة (كأني أكلت).

   كان بناء ذلك الجامع ثمرة التغلب على شهوات النفس في وقت الوفرة و الاستطاعة، ربما يصح تشبيهه بالإضراب الطوعي عن الطعام لغايات إنسانية أو سياسية أو مجرد احتجاج على الرأي، مع التنويه بفارق الغايات بين صاحب الجامع و أصحاب البطون المحتجة، و الصورتان للمقارنة و التشبيه فحسب، كما لا أقارن نفسي بينهما معاذ الله، لكن منذ تركت سوريا مكرهاً لا بطل أو ترف، يمرّ علي العيد فأغصّ و أقول : كأني عَيّدتْ. *

   و اليوم ما أكثر ما يقول السوري كأني أكلت، يمد يده إلى جيبه فلا يجد النقد، يأخذ حسبه لله و يتمتم بقهر : كأني أكلت.

   يطلب الماء للاستحمام أو للشرب أو للطعام، فلا يحصل على بضع ليترات يشتريها بالليرات، يشرب منها بضع رشفات كأنه في البيداء، و يستخدم ما يفضل عن غسل الأيادي و الأواني و الصحون مرةً ثانية للطبخ، يمسح بالخرقة المبللة على جسده بدل الاستحمام، و يحمد الله على نعمة المطر، يرتوي و يقول : الآن شربت.

   يشتاق السوري لأهله في كل مكان، فيتصل بهم عبر الواتس اب أو سكايب، يدردش معهم قليلاً، ثم يقول : كأني زرت .

   في عتمة الزنازين يحلم المخطوف أو السجين بوجوه أحبته الذين لا يعلمون عنه شيء، أحي هو أو ميت؟ يستعرض وجوههم في مخيلته كيلا ينساهم ،و لا ينسى أن يبتسم في وجه الجلاد بسخرية ، و يقول : كأني تحررت.

   تهترئ ثيابه و حذاؤه فيذهب إلى السوق و يشتري سقط المتاع إذا استطاع، أو يرقع الثوب القديم، و يركّب "نصّ نعل" جديد للحذاء، و يقول : كأني لبست أو انتعلت.

   يأتي شهر رمضان و هو صائم في الأصل، يفطر على بصلة و كسرة خبز و يحمد الله و يقول : كأني أفطرت. ثم يمرّ عليه العيد و هو غير سعيد، لكنه يحمد الله و يقول بحزن مقيم : كأني عيّدتْ .

   يستمع السوري إلى الراديو، و يشاهد نشرة الأخبار في التلفاز عند توفر الكهرباء أو الأمبير، و يسمع و يرى الخيرات و البركات تهطل من سماء الفضائيات و تصريحات الوزراء ، فيمدح الحكومة الرشيدة، و يقول ذاهلاً : كأني عشت.

   يموت السوري في كل يوم، و في كل لون من أصناف القتل، بالصدفة أو بالقصد، يذهب للمقبرة إذا أسعفه الحظ و لم يُدفن تلقائياً تحت الركام ، فيلتقي بعض الأحبة فوق الأرض أو تحت الأرض، و يقول : الحمد لله على الموت.

......................................... ...............
جهاد الدين رمضان
 في فيينا ٩ آب / أغسطس ٢٠١٩

*النص بمناسبة معايدة أبنائنا اللاجئين في ألمانيا لنا عبر "الواتس آب" . و الصورة المرفقة من أعمال الفنان السوري علي فرزات المتوفرة في النت المشاع، و كل عام وانتم أحياء يا أصدقائي القراء.