قصة الأبجدية (3) بقلم:د.محمد فتحي عبد العال
تاريخ النشر : 2019-10-17
قصة الأبجدية (3) بقلم:د.محمد فتحي عبد العال


أبجدية خط المسند

وفي رحلتنا مع الابجدية لابد وأن نتوقف عند حضارة اليمن الخصيب  وأن نطوف بإكبار عبر دروب أبجدية المسند الحميري تلك الأبجدية العربية الجنوبية القديمة المرتبطة بالحضارة اليمنية الحميرية  وقد سميت بالمسند بحسب القدماء مثل  القلقشندي  لأنها تستند إلي هود عليه السلام وبحسب المعاصرين لأن الحروف فيها هندسية الشكل تتخذ أشكال خطوط مستندة للأعمدة بجماليات تكوين أقرب للمرحلة التصويرية في الهيروغليفية وكانت تكتب نقشا بأدوات حادة على الأحجار والبرونز . 

كانت نشأة هذه الابجدية في اليمن ثم انتقلت  إلى العراق في عهد المناذرة، حيث تعلمها أهل الحيرة، ثم  أهل الأنبار، ثم انتقلت إلى الحجاز  كما وجدت لها أمثلة في مصر واليونان وتدل النقوش المتفرقة علي الصخور والمغارات والقلاع أن هذا الخط من الخطوط الرسمية في الجزيرة العربية حيث اكتشف ( البرت. جام )   عام 1962م حروفا قديمة في منطقة العبر شمال شبوة، رأى أنها من أقدم الشواهد على خط المسند فيما يری  العالم الألماني "هرمن فيسمن" أن أقدم كتابة يمنية قديمة (كهلم) و التي عثر عليها في "هجر بن حميد" من وادي بيحان والموسومة ب"مونو جرام (طغراء) هجر بن حميد" و يعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد. لقد كانت  حروف المُسند بمثابة السفير  الذي حمل علی عاتقه مهمة نشر الإرث الثقافي والتراثي اليمني  داخل وخارج  الجزيرة العربية ولعل في رسالة رسول الله إلی ملوك حمير والمنشورة  علي غاليكا ( Gallica)، المكتبة الرقمية التابعة للمكتبة الوطنية الفرنسية   والمكتوبة بحروف المسند ومرجعها (Cohen (D.), «Un manuscrit en caractères sudarabiques d'une lettre de Muhammad», in GLECS, 1971, pp. 103-109).  -إن صحت نسبتها للرسول -ما يقطع بقوة تأثير هذه اللغة ودرجة إجادتها في داخل الجزيرة العربية  أما من خارجها  فقد تأثرت الحبشة إلی حد كبير بالأبجدية المسندية  فأشتقت منها اللغة الأمهرية اللغة الرسمية في أثيوبيا وتحتوي المتاحف الأثيوبية والارتيرية على الكثير من النقوش المُسندية .

تتألف ابجدية المسند  من تسعة وعشرين حرفاً أبجديا ، أي بزيادة حرف على الأبجدية العربية  وهو ما بين السين والشين ويدعى سامخ. تتسم حروف المسند بأنها منفصلة غير متصلة وعند التشديد يكتب الحرف مرتين فيما يوضع خط عمودي للفصل بين الكلمات فضلا عن خلوه من التنقيط والحركات وعلامات الترقيم.أما طريقة الكتابة ففي المرحلة القديمة كانت الكتابة بطريقة المحراث فتكون الكتابة في السطر الأول من اليمين إلی اليسار و العكس في السطر التالي  وهكذا حتي نهاية النقش.أما في المرحلة الحديثة فقد استقرت الكتابة لتصبح علي شاكلة اللغة العربية من اليمين إلی اليسار.

وكتابة المسند إما بارزة أو غائرة والكتابة البارزة عادة ما تكون من نصيب الأعمال العظيمة أما الكتابة الغائرة للاعتيادية ومواد كتابة المسند كانت الحجارة والصخر والخشب والمعادن.

أما عن الأصل في أبجدية المسند فقد شهدت خلافا بين الباحثين ففيما ذهب البعض إلی إشتقاقها من السينائية الأولية فقد زعم أخرون  كونها أول أبجدية عرفها التاريخ  وهي الأصل الذي اشتق منه الفينيقيون لغتهم  حيث يری المستشرق الألماني (مورتينز)   أن الفينيقيين  اعتمدوا في كتابتهم على العربية اليمنية ، ثم أخذ اليونانيين بدورهم الكتابة عن الفينيقيين وعنهم أخذها الرومان، وبالتالي العرب اليمنيون هم أول من أهدی الكتابة إلی العالم.

أما العلاقة بين اللغة العربية والمسند فقد شهدت هي الأخری خلافا فيری المؤرخون العرب في المسند المصدر الذي انحدرت منه الأبجدية العربية  وسمي الخط العربي بالجزم لأنه جزم او اقتطع منه وغالبا ما نجد لهذه الأراء صدى في كتب الأدب العربيّ فيما تبدو أساطير من المنظور العلمي في نظر الغربيين فمثلا قال ابن هشام : أوّل من كتب الخط العربي حمير بن سبأ علمه مناما!! .

لكن الحقيقة أن حديث النبي بطمطمانية حمير في قوله  «ليس من امبر امصيام في امسفر» أي "ليس من البر الصيام في السفر". ربما تحمل إلی حد ما دلالة علی الاتصال بين الدولة الحميرية وعرب الشمال  و مدی تغلغل خصائص لغة حمير إلی العربية..

لقد أسدت أبجدية المسند للإنسانية إسهاما جليلا عبر رحلتها للتحول الحضاري لا يمكن إنكاره .

د.محمد فتحي عبد العال