تراجيديا بقلم:محمد نصار
تاريخ النشر : 2019-10-17
تراجيديا بقلم:محمد نصار


تراجبديا........ق.ق

جلس ساهما مطرقا تراوده الأفكار وتتكالب عليه المواقف، التي لا يجد لها تبريرا، يوقف سيل الأسئلة المتدفقة بين جوانحه كطوفان جارف، يستعيد بعضا من تفاصيلها.. من ملابساتها، لعله يجد ما يشفي غليله ويطفئ نار الغضب المتأججة بداخله، لكنه لم يجد سوى ما يعزز تلك النار ويزيد من اضطرامها، يحاول مرة تلو أخرى، إلا أنه يزداد اشتعالا، ضرب بقيضته سطح المكتب، ثم وقف يدور في جنبات الغرفة، دون اعتبار للطرق الذي تعالى بالباب، فتح أحد الأدراج، أخرج علبة سجائر، كان فد تركها منذ أشهر عدة، تأملها ببرود، ثم أخرج لفافة نظر إليها بتفحص، كانت تعلوها بعض البقع الصفراء، جراء تخزينها الطويل، كاد أن يرجعها إلى مكانها، لكنه دسها بين شفتيه، وراح يفتش في الأدراج عن ولاعة ، ثم صاح مناديا بكل ما يعتمل في صدره من غضب، فتحت الباب بوجه مكفهر.. مرتجف، لم تجرؤ على الدخول خطوة واحدة، أشار إلى اللفافة التي في فمه، فاندفعت مسرعة وعادت بولاعة وضعتها أمامه وخرجت تتعثر خطاها وترتجف.

 مج أنفاسا متتالية، تبعها سعال خفيف، عاد إلى الجلوس من جديد، ثم هب واقفا وكأن دبوسا شكه في المؤخرة، دار في المكان مرة أخرى، ثم صاح بعلو صوته: كلاب... كلاب.، ثم صمت وعاد للدوران من جديد، توقف قبالة النافذة المطلة على الشارع، ألقى نظرة على المارة وصاح بملء فيه : كلاب.. كلاب .، ثم تراجع إلى الداخل قبل أن تلاحظه العيون، أطرق فليلا، ثم عاد يحدث نفسه بوتيرة أخف من ذي قبل وكأنه بتلك الكلمات التي ألقاها من النافذة قد أفرغ شحنات الغضب التي تضطرم في صدره، سار عدة خطوات، ثم وقف وراح لمعاودة الأسئلة من جديد: ما لهم وشأني ؟.. ما لهم بي ومن منهم أعلم مني وأدرى؟ .. كلما طرحت رأيا سفهوه وكلما أثرت سؤالا عيبوه، أي حمقى هؤلاء.. أي جهلة.. مصيبة .. لا بل ألف مصيبة والله، أن يأتي أحمق.. أمي لا يفك الخط، ليلقي علي العبر والمواعظ.. إنها النهاية والله.. بل هي الساعة.. نعم الساعة، ألا يعلم هؤلاء من أكون وكم منصب تقلدت و ضيعت بغبائي وتهوري.

تلف حوله خشية أن يكون قد سمعه أحد، خصوصا ما بدر في كلماته الأخيرة وحين اطمأن لخلو المكان ، عاد لترديد مناقبه وما كان منه فيما مضى وكيف أنه أجدر من ذاك الوزير وأحق من ذلك المسؤول وأنه جاء في الزمن الخطأ والمكان الخطأ، هو من زمن مختلف ومكان لا توجد فيه مثل هذه الحثالات، التي تترصده وتتصيد أخطاءه في كل حين.

لم تعجبه الجملة ، نظر إلى الجهة التي تقابله وقال كمن يخاطب شخصا مقابلة: أخطاء.. عن أي أخطاء تتحدث؟، وهل مثل هؤلاء الأغبياء قادرين على التمييز بين الخطأ والصواب، أحمق أنت إن كنت ترى الأشياء هكذا، بل إن كنت تشك للحظة في ذلك ، أو تتوهم في أحلامك أنني أخطئ ، أنا لا أخطئ يا عزيزي.. أنا سيد القلم وربه.. أنا صانع الكلم وحرفه.. أنا سيد الأشياء وراعيها.. أنا...أنا ...

ثم علا صوته بشكل هستيري .. مدوي ،  صاح الأطفال خارج الغرفة فزعا.. صرخت المرأة مستنجدة بالمارة والجيران، علا صراخه من خلال النافذة تجاه المارة، الذين جمعهم الفضول وغرابة المشهد، في البداية لم يبينوا كلامه من شدة الانفعال والصراخ، لكن بعد لحظة بدأوا يدركون أن الرجل قد جن، خصوصا حين صاح بملء فيه قائلا: أنا ربكم الأعلى يا أولاد الكلب.. فهل تعون؟.

حوقل البعض ضاربا كفا بكف.. شتمه البعض وعدد من الفتية رشقوه بالحجارة والأحذية، فيما صراخ الزوجة وأطفالها يتردد صداه في آخر المدى.