الحمد لله بقلم : حماد صبح
تاريخ النشر : 2019-10-15
قصة / الحمد لله بقلم : حماد صبح
جالس فوق الساتر الترابي عصرا . يستطيب النسيم الذي يترقرق ناعما دافئا . نسيم غريب حقا في الثلث الأخير من يناير . تتحرك عيناه في كل ناحية ، وتسبحان في السماء . كل عدة دقائق تنفجر جنوبا منه ، في بعد يقل عن الكيلومتر ، قذيفة فوسفور أبيض . يرى في الجنوب منه ، أدنى إليه من مكان الانفجارات ، فتية يلعبون كرة القدم . يبتسم مهموم القلب . ألفنا الحرب والموت . ارتحل خوفهما من قلوبنا وحياتنا . الألفة تنزع خصائص الأشياء وتأثيراتها . صدق من قال إن كثرة المس تزيل الحس . المألوف لا يفاجىء . يتكيف معه الإنسان نفسا وأسلوب حياة . من يلعب كرة قدم في مكان يلتهب بالحرب والموت منذ سبعة عشر يوما والقذائف تتفجر على مرآه ومسمعه ؟! أمامه رأسا ، شرقي شارع صلاح الدين ، أربع راعيات ، ثلاث جالسات ، والرابعة تتحرك قرب الأغنام ، في يدها كتاب . بنت أخت زوجته . في الثانوية العامة . انتبه إلى أنها عرفته من ثلاثمائة متر تقريبا . سكن الأسرتين متقارب . لعلها قدرت أنه قدم من مستشفى الأقصى بعد أن عاد زوجته ، خالتها ، التي أصابتها في كتفها اليسرى شظية من صاروخ طائرة استطلاع قصفت سيارة ركاب . السيارات والدراجات النارية ووسائل المواصلات الأخرى المارة في مساري الشارع شحيحة متقطعة . الساتر الذي يجلس فوقه أقامه الأمن الوطني ، وكانت تتمركز خلفه وحدة صغيرة من جنوده ، وانسحبت خشية إغارة الطائرات الإسرائيلية عليها . وتلاصق ثكنتها كنيسا خلفه مستوطنو كفار داروم عند اندحار الاحتلال . توقف أمامه تكتك يسوقه جاره سلمان .
سأله سلمان : تركب ؟
فأبان له بإشارة من يده رغبته في البقاء حيث هو ، فقال سلمان : كل الناس رجعت لبيوتها .
وحرك تكتكه إلى الرصيف ، ونزل ، وقال : نجلس عندك دقيقة .
وحالما جلس سأل : كيف أم عدي ؟!
_ الحمد لله .
_ متى ستخرج ؟
_ ربما غدا .
_ الحمد لله على سلامتها .
ونزع من جيب سويتره العنابي علبة سجائر رويال ، وقبل إيقادها رمق وجه أبي عدي وقال معتذرا : آسف على الإزعاج
فرد أبو عدي سارحا كأنه يكلم شخصا آخر : دخن يا سلمان ! دخان سيجارتك نسيم عليل إن قسناه ...
وتطلع جنوبا ، وتابع : بالبلاء الأبيض .
وسقط نظره شرقا ، فرأى بنت أخت زوجته تصغي لهاتفها ، وبعد ما بدا أنها أتمت المحادثة ، اتجهت نحوه ناظرة ! كأن لمحادثتها صلة به . حدث مكروه لأم عدي ؟! أصيب أحد من أولاده ؟! وخفق قلبه .
سأله سلمان : مالك توترت ؟!
وزاد توتره حين اتجهت نحوه في سرعة متحفظة تليق بالفتاة ، فاستأذن من سلمان ، وسارع لمقابلتها ، وانساب سلمان في سبيله .
التقيا في نصف المسافة . قالت : أم عدي تريد ذهابك إليها .
فرد متزايد التوتر : كنت عندها .
_ هذا ما تريده .
_ قالت لك شيئا آخر ؟ فهمت أن حالتها ساءت ؟
_ لا ياخال .
أبو عدي في المقاومة ، ولا يستعمل هاتفه الشخصي في الحرب .
استدار ينظر شمالا ، جهة المستشفي التي لا تبين له لانحجابها بالمباني والأشجار .
وشق الجو هدير طائرة إف 16 ، وزلزل المكان انفجار هائل انحنى معه الاثنان قليلا في استجابة اتقاء غريزية ، وشردت الأغنام فزعة ثاغية في كل اتجاه بما فيها اتجاه الانفجار غربا ، وتقاربت الراعيات الثلاث أجسادا ، والتفت أبو عدي إلى مصدرالانفجار . دخان وغبار وحجارة متطايرة متباينة الأحجام ، هوت مسموعة الالتطام بالساتر الخفيض وبمساري الشارع وبحافة المرعى الغربية . قصفت الطائرة الكنيس . واجه الفتاة ثانية ، فقالت : الحمد لله على السلامة .
كان في صوتها لهثة ، وفي وجهها الناعم السمرة صفرة .
قال : الحمد لله . يخربون بيوتهم بأيديهم .
وأخذ هاتفها ، واتصل بزوجته ، قالت : تعال خذني ! الطبيبة المشرفة لا ترى خطرا في خروجي .
فانشرح صدره ، وبشر ميسون ، فقالت في صوت فارقته لهثة الخوف : الحمد لله .