القرضاوي بين الإعلام وضغط الواقع وخرق الإجماع بقلم:سري سمور
تاريخ النشر : 2019-10-15
القرضاوي بين الإعلام وضغط الواقع وخرق الإجماع بقلم:سري سمور


في لقاء متلفز قال د. يوسف القرضاوي حينما سئل عن العلماء ودورهم بأن العصر هو عصر الإعلام لا العلماء؛ والكلام صحيح خاصة في وقته، فمن خلال شاشات الفضائيات خاصة برنامج الشريعة والحياة آنف الذكر تعرّف ملايين المسلمين على القرضاوي، والماكنة الدعائية والإعلامية ساهمت إلى حد كبير في إظهار القرضاوي كعلاّمة لا نظير له في أصقاع العالم، وأغلب الناس عرفوا القرضاوي من خلال الشاشة وليس من خلال كتبه التي قلت بأنها حوالي العشرين ومئة كتاب.

وغاب عن الناس ما ذكرته في المقال السابق أن ثمة فرق بين المنتج المعرفي في إطار الدعوة والحركة والفكر الإسلامي وبين الفقه الذي هو مدرسة/مؤسسة متكاملة الأدوات والبنيان تم تشييدها من رجال قيّضهم الله لهذه الأمة، عبر مراحل زمنية نضج فيها الفقه الإسلامي الذي لا يجاريه أي شيء في تاريخ الإنسانية، في انضباط القواعد والدقة، وعدم إغفاله  شاردة ولا واردة.

وقد كان الإعلام أداة مركزية في تقديم القرضاوي للناس، وارتاح الناس الذين بطبيعة الحال هم ليسوا من المطلعين على أصول الفقه وطريقة استنباط الأحكام لفتاوى الرجل وآرائه التي غلب عليها التيسير وفق ما يقدم نفسه، وصار الترويج له وترميزه والدفاع عنه أمام معارضيه، يرفع شعار أن القرضاوي هو أيقونة (الأصالة والمعاصرة) وأن ما يفتي به يجسّد ويرسم الحد الفاصل بين الإفراط والتفريط.. إلخ.

وكما قلت فإن نمط الحياة الغربي الذي نعيشه، ووجود مستجدات ومشكلات أمام الملتزمين دينيا في خضم هذه الحياة وتفصيلاتها، جعلت عددا منهم يأنس ويرتاح لما يفتي به القرضاوي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن طبع أغلب الناس يميل إلى ما يرونه يسرا أو سهولة في التعاطي مع الأحكام الشرعية، خاصة أن من تصدروا للرد على القرضاوي كان أعلاهم صوتا هم من المدرسة السلفية التي اختارت الأخذ بالتشدد المطلق عموما، والنيل من شخص القرضاوي، ببذاءة أشرت إليها سابقا.

هل أنا متشدد؟

الخلاصة أنني لست متشددا، وفي ذات الوقت لا أرفض أو أقبل ما يفتي به القرضاوي وفق هذا المقياس، فإذا رضيت لنفسي شبهة زلت لها قدمي أو حتى قارفت حراما أو مكروها والعياذ بالله، أو امتنعت عن شيء ولو أفتى بجواز

قبل كل شيء أنا أستخدم لفظ التشدد من منطلق إسلامي، وليس من منطلق آخر، لأن آخرين من مجتمعاتنا ربما ينظرون إلى من لا يشرب الخمر بكونها محرمة، ولا يصلي ولا ترتدي امرأته الحجاب على أنه (متشدد) والأمثلة حول هذه المسألة كثيرة ومتنوعة يعرفها أي إنسان يخالط الناس، ويعرف طريقة فرزهم للناس وفق نمط حياتهم ومعيشتهم.

وهذا ليس فهمي للتشدد هنا، بل المقصود هو الأخذ بالعزيمة عوضا عن الرخصة في كل شيء ولو من باب زيادة الحيطة من آراء الفقهاء المعتبرين وقبلهم الصحابة والتابعين، وأكرر وفق المنطلق الإسلامي؛ فما يردده كثيرون (ومنهم القرضاوي) حول وجود أصل في الفقه الإسلامي يتمثل برخص ابن عباس وعزائم ابن عمر-رضي الله عنهما وعن أبويهما- هو محكوم ومضبوط بقواعد صارمة فلا يجوز ولا يعقل الانفلات من القواعد والأصول تحت هذه اليافطة؛ فلا ابن عمر يفتي (بالتشدد) دون هذه القواعد، ولا ابن عباس اختار الترخص دون الالتزام بها.

على كل ومع أن الأمر ليس شخصيا؛ ولكن هو ضروري حتى لا يقع لبس في فهم مناقشتي المتواصلة منذ أسابيع للموضوع؛ فالعبد الفقير ليس متشددا البتة، ولا يميل إلى الأخذ بالرأي الأحوط، أو بمفهوم الناس (الأصعب) بل أنا مقلّد واخترت الالتزام برأي السادة الحنفية، مع احترامي وتوقيري لأي ملتزم برأي السادة الشافعية أو المالكية أو الحنابلة، دون الفوضى الانتقائية، وابتعدت عما يرى القرضاوي أنه (اجتهاد انتقائي) لأننا في زمن عمت فيه فوضى الإفتاء وتجرأ الناس على أحكام الدين بل على قطعيات النصوص، واستخدموا هذه الحجة، ومنهم من بضاعته من العلم مزجاة.

والأسلم للمرء والأحفظ للدين التقيد بالمذهب ومدرسته ورأي علمائها، تجنبا لهذه الفوضى؛ هذه الفوضى التي كان للقرضاوي وخصومه من السلفيين دور -دون قصد طبعا- في انتشارها، حتى صار العلماني الذي لا يعرف أن يعد أركان الإيمان والإسلام بلا تلعثم، يتجرأ ويقول هذا حلال وهذا حرام، لأن القرآن موجود (وكذا السنة إذا اعترف بها أصلا) ولا يلزمني رأي فقيه ولا عالم فأنا أفسر وفق ما يراه عقلي.. فصار العقل رديفا لاتباع الهوى!

الخلاصة أنني لست متشددا، وفي ذات الوقت لا أرفض أو أقبل ما يفتي به القرضاوي وفق هذا المقياس، فإذا رضيت لنفسي شبهة زلت لها قدمي أو حتى قارفت حراما أو مكروها والعياذ بالله، أو امتنعت عن شيء ولو أفتى بجوازه، فأنا لا أجعل هذا مغلفا بكونه الدين الصحيح والمنهج القويم.. وأيضا كوني لا أميل إلى التشدد يفترض ضمنا أن ألتجئ إلى مدرسة القرضاوي فهي تمنحني(الأمان) لأنها تميل إلى (التيسير) وغير ذلك من مصطلحات برّاقة، ولكن لست ممن يجعل أهواءه وشهواته حاكما على الدين، ومدرسة فقهية يجب تقليدها، وإلا فهو موسوم بالتشدد والغلو والإفراط!

مدرسة القرضاوي الفقهية في الميزان

قلت سابقا أن المتعصبين للقرضاوي يخرجون على من ينتقده بعبارات تطفح بالتبجيل والتقديس المبالغ فيه وتزعم أنه عالم لا نظير له وفقيه لا يشق له غبار، لأنهم يخلطون بين نشاطه السياسي والدعوي وتنظيراته المعتبرة في الأمور الحركية، وبين حظه من الفقه وأصوله، فقد سحرتهم الفتاوى التي حررها، وأبهرهم أسلوبه، دون أن يحيلوا الأمر إلى القواعد والأصول، بل سلموا له مجال الفتوى، وأعطوه قيادها، دون أن يسألوا أنفسهم:هل القرضاوي مؤهل فقهيا أم لا؟ولأن جوابهم بأعلى صوت:هو مؤهل بل هو أهل ليتسيّد الفتوى عند أهل السنة، لأنه أعلمهم وأفقههم -هكذا يرونه- فما الدليل على ذلك، ودعكم من الانبهار والإعجاب بل الهوى؟

وقد يقال فورا: وما حظك أنت من العلم، وما حجم معرفتك بالفقه وأصوله، وبواطن استنباط الأحكام الشرعية كي تحكم على القرضاوي أو غيره؟ سؤال منطقي؛ وأنا لست فقيها ولا عالما ولا درست العلوم الشرعية في مدارس شرعية قبل الثانوية العامة، ولا بعدها في جامعة أو معهد، أنا ناقل للعلم ولست بعالم. ولهذا دعونا نضع فقه القرضاوي في الميزان ممن هم أهل لذلك؛ بعيدا عن أي تعصب حزبي، أو موقف مسبق، أو رغبة وهوى وجنوح نحو ما يعتبر تيسيرا أو وسطية.

فلو أخذنا كتاب (منهج البحث والفتوى في الفقه الإسلامي بين انضباط السابقين واضطراب المعاصرين، السيد سابق والأستاذ القرضاوي نموذجا) والمؤلف (مصطفى بشير الطرابلسي) ليس بعيدا ولا مناوئا ولا خصما للإخوان المسلمين كما يعلم الجميع، وقد صدر الكتاب عن دار الفتح للدراسات والنشر/الأردن في طبعته الأولى عام 2010 يقدم نقدا علميا رصينا لمدرسة القرضاوي ومنهجه في الفتوى بعيدا عن التجريح الذي انتهجه السلفيون، وبعيدا عن التدليس والتورية وأسلوب تقويل الرجل ما لم يقله، مثلما يفعل أغلب مبغضيه؛ وهذا الأسلوب بالمناسبة زاد من تعصب مريدي القرضاوي وتلامذته له، كنوع من ردة الفعل الطبيعية.

كتاب الطرابلسي يربو على ثلاثين وخمسمائة صفحة ولست هنا في معرض استعراض كامل للكتاب ولكن سأسلط الضوء على بعض ما جاء فيه من نقد على منهج القرضاوي في الفقه وتحريره للفتوى؛ فهو يرى أن القرضاوي سليل أو صاحب مذهب أتى به محمد عبده وأصله المراغي وترعرع على يد شلتوت ونضج على يد القرضاوي! ويرى الطرابلسي أن القرضاوي (وقع تحت ضغط الواقع، ولم يستفرغ الوسع، واجتهد في القطعيات وما لا يجوز الاجتهاد فيه، وغفل عن واقع العصر، وترك ما اجتمع عليه المسلمون إلى آراء فردية شاذة غير صحيحة). وهذه أمور تتطلب مزيدا من الإيضاح وشيئا من التفصيل وهو ما سأسعى إليه في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.