الشاذلي مهندس حرب أكتوبر المظلوم حيا وميتا بقلم:حمدي البابلي
تاريخ النشر : 2019-10-10
الشاذلي مهندس حرب أكتوبر.. المظلوم حيا وميتا
********************************
ترددت كثيرا قبل أن اكتب هذا المقال، لكن الحقيقة التي قرأتها في مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي منذ مدة طويلة وظلت موضع الشك عندي بعد أن قرأت أيضا كتاب البحث عن الذات للرئيس الراحل محمد أنور السادات، كلاهما يتهم الاخر بالتقصير وأنه السبب المباشر في أحداث ثغرة الدفرسوار حتى استفحلت رقعة انتشارها غرب القناة، لكن عندما تابعت حوارا متلفزا بإحدى قنوات التليفزيون الأمريكي لوزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر وقت حرب أكتوبر، لم يعد عندي أدنى شك في صدق مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي وأنه رجل عسكري محترف يتميز بالذكاء ويقرأ العدو في كتاب مفتوح، وان هذا القائد العظيم صاحب خطة معركة أكتوبر ومهندس تفاصيلها من الألف إلى الياء والتي أسماها (المآذن العالية)، هذا الرجل قد ظلمه السادات حيا ومن خلفه في سدة الحكم وظلمه البقية والتاريخ ميتا.
الفريق سعد الدين الشاذلي الذي تفهم عدوه جيدا وحدد نقاط القوة والضعف فيه وعلى ضوء مافهم وضع خطة الحرب بكل تفاصيلها.
السادات التقط نصيحة الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، بأنه لابد من الحرب حتى تحرك القضية الي مفاوضات تسترد بها الارض المغتصبة، لهذا تعجل السادات في التلويح بالحرب بعد توليه الحكم مباشرة، حين صرح بأنه لن يمر العام الا وهو عام الحسم، ومر العام دون حسم وكرر تصريحه في العام التالي ومر أيضا مرور الكرام، حتى تندر عليه شعبه وصار أضحوكة المجالس، لكن لا أحد كان يعلم مايدور في عقل السادات، وأنه كان يقصد كل كلمة قالها، ومن جديته في التصميم على الحرب، انه أقال الفريق محمد فوزي ومن بعده الفريق محمد صادق حين استشعر أنهما يشككان في قدرة الجيش وقتها على الحرب دون الاستعداد بالاسلحة الحديثة. ووقع اختياره على الفريق احمد اسماعيل على الذي اقاله الرئيس عبد الناصر مرتين، الأولى وقت نكسة ٦٧ حيث كان رئيس أركان سيناء، والثانية عندما اعاده مرة أخرى للحاجة اليه في حرب الاستنزاف، وحدث ان استطاعت وحدة مظلات إسرائيلية ان تهبط على محطة رادار أرضية بالبحر الأحمر واستطاعت تفكيكها وحملها الي اسرائيل بعد أن قتلت واسرت أفراد قوتها ومكثت اكثر من عشر ساعات كاملة دون أن يعترضها احد ولم يسمع احد بالواقعة الا صباح اليوم التالي، لهذا كان أحمد إسماعيل على يكره عبد الناصر لانهاء خدمته مرتين، وحين اعترض الفريق سعد الدين الشاذلي على اختياره وزيرا للحربية موضحا للسادات انه على خلاف معه من ايام وجودهما معا بالكونغو مع قوات الطوارئ الدولية وأنه لن يكون هناك تفاهما وتناغما بينهما خصوصا ونحن نجهز لخوض المعارك مع إسرائيل، لكن السادات أصر على اختياره.
وحين اقترب موعد الحرب، كانت الخطة الموضوعة ان تعبر القوات القناة وتتقدم لمسافة ١٠او١٢ كيلو متر طولي شرق القناة وتتمركز في مواقعها تحت مظلة صواريخ الدفاع الجوي، ثم تنتظر رد فعل العدو الذي ان اقترب سيتم تدميره.
وحدث ذلك بالفعل كما رسمه الفريق الشاذلي بكل دقة. وكانت خطته ان يطيل أمد الحرب الي عدة شهور لأنهاك الاقتصاد الاسرائيلي واصابته بالشلل التام بعد إرسال جنود الاحتياط الي ساحة المعركة وهم يمثلون اكثر من ٢٠٪ من تعداد السكان وهم أيضا الطبيب والمهندس والعامل والطالب والمعلم واستاذ الجامعة، فقد تعودت إسرائيل على اسلوب الحرب الخاطفة التي تنتهي في أيام، كما أنه ايقن ان مفتاح النصر في هذه الحرب هو كسر شوكة سلاح الجو الاسرائيلي وهو ماحدث بالفعل أيضا، فلم تقترب الطائرات الإسرائيلية من المرمى المؤثر لصواريخ الدفاع الجوي.
وحين اشتدت المعارك على جبهة الجولان السورية، كانت استغاثة الرئيس السوري حافظ الأسد بتكثيف الاشتباكات على الجبهة المصرية للتخفيف عنهم، فأمر الرئيس السادات بتقدم القوات حتى الممرات في عمق سيناء، وهنا اعترض الفريق الشاذلي بأن تقدم القوات الي مسافة لاتغطيها مظلة الدفاع الجوي معناه تدمير القوة بالكامل من الطيران الاسرائيلي، أصر السادات على موقفه وأصر الشاذلي على موقفه حماية لقواته من التدمير المؤكد، وهدد السادات بمحاكمته عسكريا اذا لم ينفذ الأمر، اعترض قائد الجيش الثاني الميداني اللواء سعد مأمون واعترض اللواء احمد بدوي قائد الجيش الثالث الميداني أيضا، وكان لابد من تنفيذ الأمر بعد اصرار السادات على موقفه، وكانت النتائج هي تدمير اكثر من ٢٤٠ دبابة واستشهاد اطقمها بعد أن وقعوا فريسة سهلة للطيران الاسرائيلي، وحسب رواية كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي ان القوات المصرية وقعت في خطأ فادح بتقدم قواتها خارج مظلة الحماية لشبكة الدفاع الجوي افقدها اكثر من ٣٠٠ دبابة وآلاف القتلى.
بعدها استطاعت القوات الإسرائيلية التقدم والالتفاف حول الجيش الثالث الميداني وحصاره الي الدرجة التي منعوا فيها امداده بالماء والطعام لولا وقف إطلاق النار وتدخل أمريكا لمات أفراد الجيش الثالث جوعا وعطشا.
وماحدث في الثغرة أيضا يفسر تدخل رئيس الدولة في صميم عمل قادة الحرب، فكان الشاذلي يرى التعامل مع الثغرة في حينها بسحب فرقة من شرق القناة الي غربها للتعامل مع قوات الثغرة المحدودة وابادتها والعودة الي مواقعها مرة أخرى شرق القناة، ورآي السادات ان ذلك يعد انسحابا وقد يفسره الجنود خطأ ويعودون الي غرب القناة كما حدث في ٦٧، وأصر السادات على موقفه أيضا حتى استفحلت قوات الثغرة وتقدمت الي مشارف مدينة السويس ولولا أبطال المقاومة الشعبية لحدث مالا يحمد عقباه.
انتهت المعارك بعد وقف إطلاق النار، وتم تكريم كل قادة القوات المسلحة في مجلس الشعب الا الفريق سعد الدين الشاذلي، بل وحذفت صوره التذكارية أثناء الحرب، وحين كتب السادات مذكراته وذكر فيها تقصير الشاذلي في المعارك وأنه السبب في استفحال قوات الثغرة، رد عليه الشاذلي أيضا بمذكرات كتبها عن تفاصيل حرب أكتوبر، اتهم فيها السادات بالكذب وتزوير التاريخ، وعلى أثر ذلك شكلت محاكمة عسكرية غيابية أدين فيها الفريق سعد الدين الشاذلي بتهمة إفشاء أسرار عسكرية واتهم بالخيانة!
وظل سعد الدين الشاذلي منفيا بالجزائر بعد صدور حكم الادانة عليه، حتى حادث المنصة واغتيال السادات، بعدها سمح له بالعودة الي ارض الوطن في حكم مبارك، وفور عودته تم اقتياده من المطار الي السجن الحربي ليقضي فترة عقوبته، وخرج الفريق سعد الدين الشاذلي من السجن الي منزله وهو يلتزم الصمت التام، فلم يزل في صدمة قاسية بعد كل ماقدمه لبلاده وبعد تاريخه العسكري المشرف، وبعد شهادة موشي ديان وزير الدفاع الاسرائيلي بأن سعد الشاذلي هو مقاتل َمحترف ويعد من اذكي القادة العسكريين على مستوى العالم، ومن سخرية القدر ان يموت سعد الدين الشاذلي في مساء نفس اليوم الذي خلع فيه مبارك الذي اقتاده من المطار إلى السجن الحربي ولم يشفع له تاريخه العسكري الناصع البياض.
طبت حيا وميتا يااعظم من أنجبت مصر، طبت حيا وميتا يامهندس النصر العظيم في أكتوبر...، طبت حيا وميتا ياصاحب المآذن العالية.

حمدي البابلي