قطارٌ بقلم: صلاح بوزيّان
تاريخ النشر : 2019-10-10
قطارٌ بقلم: صلاح بوزيّان


قطارٌ

كان القطار يلتهم كلّ شيء ، الذكريات ، صور الأصدقاء ، الأشواق ، وأشياء أخرى لا تحتملُ الوصف تغيب وتعود ، تختفي و تصعدُ في العربات و كأنّها تقول لي :{ القطار لا يمحوني } ، كنتُ مرهقًا ، أمضيتُ الصّباح جالسا في مقعد الحافلة خرجنا من باب عليوة باكرا ، عبرنا الحدود ، مررنا بطريق عالية و ممتعة ، النّظر من فوق،  شيء آخر ، الأمر مختلف ، كان الصّيف يرقصُ كما يحلو له على نغمات النّسيم العليل الممزوج برائحة شجر الايكاليبتوس ، ، خامرتني أفكار و تسرّبت إلّي فرحة ، وصلنا عند الساعة الرابعة إلى مدينة عنّابة . كنتُ أتثبّت في الناس ، بدا لي كلّ شيء مختلف ، قاعة المحطّة فسيحة جدا ، المقاعد وثيرة ، المغازات غاية في النظافة و الأناقة ، اشتريتُ شريحة لهاتفي الجوّال ، شغّلتها ، وخرجت من المحطة ، الهواء نقيّ ، و الوجوه طلقة بشوشة ، ولمّا سألت أحد المارّة ابتهج وقال لي :{ تونسي راك بن عمّنا مرحبا ، أرواح نتقهوجو ، ومن بعد روح } فقلت:{ الله يرحم والديك يا بن عمّي ، أنا نحب نسرع ونحجز في القطار} فأردف:{ أوكي أرواح ، شفت هذيك الستاسيون ، روح آقف فيها تو تجي الكار قول للشوفور نزّلني في اللاّقارو أعطيه بياسه بزوج دينار} شكرته وأسرعتُ ، وقفتُ لحظات و الأسئلة تحاصرني ، أقلق أحيانا وأسترجع الهدوء أحيانا أخرى ، جاءت الحافلة نزل ناس ، وصعدتُ ،خاطبتُ الشوفور، الشوفور بشوش قال لي :{ خونا من تونس } فأومأت برأسي ، فقال:{ أقعد حذايانا هنا وين نوصلو للاقار انزّلك ، ارتاح خويا } فابتسمت أحسستُ بالأمان وأدركت أنّني بين أهلي وفي تراب أجدادي ، غمرتني سعادة و بقيتُ مسمّرا في مكاني ، قرأت لافتة ملصقة في قفا كرسي الشوفور:{ بلاغ: ركوب الشيوخ والأطفال في الحافلة مجانا} كانت الكراسي مملوءة ، نسوة وأطفال وشيوخ وأطفال ، كلّ في حاله ، الطرقات فسيحة وحركة المرورة ميسّرة ، و ما إن وصلنا أمام محطّة القطار حتّى أوقف السائق الحافلة وقال لي : { روح في أمان الله هذيك لاقار } نزلت من الحافلة ، دخلت المحطة و استخبرت عن موعد القطار وحجزتُ مقعدا ، ثمّ خرجتُ إلى الساحة المجاورة ، كانت ثمّة دكاكين و مغازات وسيّارات أجرة ينادي أصحابها { تونس ، تونس } اطمأننتُ بعد أن أجريتُ مكالمة مع سي كمال ، فأخبرني أنّه سيلاقيني غدا صباحا في محطة الجزائر ، لأنّ الرّحلة إلى الجزائر تستمرّ ليلة كاملة داخل القطار ، ونصحني أن أحجز غرفة فردية فيها سرير لأنام وأستريح ، ولكنّني فعلتُ ، عندي خبرة في السّفر بالقطار ، ولكنّ القطارات الثلاثة التي سافرتُ فيها تتشابه في توقيت الرحلة اثنا عشرة ساعة ، وتتشارك في البطء و اهتراء العربات و ضخامة صوت الزمّارة ، قطار صفاقس إلى تونس العاصمة ، وقطار الرّباط إلى وجدة ، وقطار عنّابة إلى الجزائر العاصمة ، وحدة عربية حميميّة قطاريّة، جعتُ ، لابدّ أن آكل ، دخلتُ محلّ حلويات ، اشتريتُ الكيك و اليوغرت و البسكويت و علب العصير، و أكلتُ قطعة مرطّبات ، ثمن الطّعام زهيد ، كُلْ ما شئت وادفع ما تستطيع ، خرجتُ وبقيتُ أجوب السّاحة أنثر الوقت وأدعوه ليمرّ بسرعة فأركب القطار وأمضي إلى العاصمة ،رغم أنّني ابتهجتُ بعنّابة و كنتُ أوزّع نظراتي بين النّاس ، النّاس طباعهم مثل وجوههم الحسنة البشوشة ، ما أروع الشوارع  الفسيحة ، روائح العطور تنبعثُ من كلّ مكان ، جاءت السّاعة السابعة ، أسرعتُ إلى المحطّة ، استظهرتُ بالتذكرة وتوجّهتُ إلى العربة ، دخلت العربة و جلستُ على مقعد مريح ، بدأ المسافرون يتوافدون ، و انهالت الحقائب و القفاف على حافظ الأحمال تثقله ، القطار نظيف و محروس ، اشتغل المحرّك على حين غفلة . المسافرون يتكاثرون ، بنتُ تخاطبُ والدها :{ ايجا منّا يا بابا } إنّهما تونسيان . خاطبته :{ مساء الخير خويا } فرد :{مرحبا ، أنت ماشي للجزاير العاصمة } ـ { نعم } ـ { هانا مع بعضنا نتونسو} فشكرته ـ{ شكرا لك ، ومتى يصل القطار إلى محطة العاصمة ؟ } ـ { غدا السابعة صباحا ، يبدو أنّك أوّل مرّة تأتي إلى الجزاير بالقطار ؟ } ـ{ نعم } تبسّم وانغمس ستحدّث مع ابنته . و انشغلتُ بالهاتف . انطلق القطار و دوّت زمّارته فأرعبتني . تركنا عنّابة و بدأت البنايات تتوارى ، و تظهر الأشجار وتتوارى و تبرز البلدات والمدائن و القرى و التقاطعات ، و الزّمرات ما تنفكّ ترعبني بين الفينة والأخرى ، عند اليقظة والمنام . و أتى رجال الدرك الوطني واخترقوا العربات بأحذيتهم السوداء اللّماعة و الرّشاشات على أكتافهم وهم يحملقون في المسافرين و في الحقائب والأمتعة وأسفل المقاعد ، و يزجرون الشبّان المشاغبين ، ويلزمونهم باحترام نظام السّفر و الهدوء . نسيتُ نفسي بين أحضان هذا العالم المختلف . و رأيتُ القطار يخرج السّكة إلى سكّة أخرى ، القطار يسرعُ ، يطيرُ في الفضاء الفسيح و يدخلُ دار عمّي ، يا إلهي لم يهدّم الجدران و لم يطلق زمّاراته المتتالية ، اعترضني ابن عمّي كمال و عانقني مُرحّبا ، أنهكني السّفر ، فألقيتُ بجسدي على كنبة قاعة الجلوس و نمتُ ، و فجأة أفقتُ على صوت مراقب القطار:{ صباح الخير يا الخو رانا وصلنا للجزائر العاصمة هيّا انزل } ففركتُ عينيّن و أخذتُ أمتعتي ونزلتُ  ، كانت المحطّة فسيحة ورائعة ، هاتفتُ ابن عمّي وبقيتُ أنتظر قدومه في المقهى المجاور