قراءة في رواية "الظل والعاشقة" للدكتور أحمد السري بقلم: نجيب نصر
تاريخ النشر : 2019-10-09
قراءة في رواية "الظل والعاشقة" للدكتور أحمد السري بقلم: نجيب نصر


*الظل والعاشقة.. رحلة في العشق والفكر والتصوف*
قراءة في رواية (الظل والعاشقة) للدكتور أحمد السري.
قراءة: نجيب نصر

*

من العتبة الأولى للرواية، وهي العنوان، يظن القارئ أنه أمام حكاية عشق عابرة، وما أكثر الروايات التي عالجت قصص الحب وحرقته وآلامه!.

لكن؛ القارئ للرواية يجد أن خلف هذه العتبة تكمن حكايات أخرى، مخزن ضخم للحكايات والتجليات، حوارات عميقة، وتساؤلات عديدة، ومشاهدات تعصف بالذهن والذاكرة.. يجد رمزية الظل والعشق، فالظل في الرواية يرمز للجهل والتخلف،
والعشق يرمز للحرية والانفتاح على عوالم أخرى، فهو ينفض غبار الجهل والخوف والتخلف ويخلق الضوء الحقيقي، والهواء النقي.

فمن منطلق الظل والعشق نلج إلى عالم روائي متحرك، يعج بالحياة، ويفيض بالتأملات الفكرية والتاريخية. فالرواية أشبه ما تكون بأدب الرحلات، تتعدد الأماكن وتختلف الشخصيات وما تحمله من أفكار مثيرة، ونقاشات ثرية وعميقة.

شخصيات متعددة، وثقافات متباينة، وحوارات عميقة، وأخيلة شهية وبديعة.

رواية تسافر في ذاكرة الأرض والتراب، بما فيها من تقلبات وتحولات، ترحل في أجواء المدن، إلى سماء الأرياف، إلى بساطة الناس ووعورة الجبال.

نجد فيها مدينة عدن، مدينة الثقافة والانفتاح، ورحلة القرويين إليها للعمل،وطرقهم في العودة إلى قراهم مرورا بـ(المصلى) التي تغنى بنجمها الشاعر الغنائي سعيد الشيباني بقوله:

(يا نجم يا سامر فوق المصلى).

ثم بـ(نقيل بسيط) طريق الجمّالة، ليذكرنا بالفنان أيوب طارش، وهو يشدو (ياليتني عشت جَمّال.. أعيش وارعى جمالي)، وصولا إلى قرى (الحجرية)، المتمثلة بـ(مدينة الطيار)، وعزلة (دبع)، ومنطقة (النشمة)، وتجليات الظل تحت شجرة الغريب.

هذه كلها تعيدنا إلى الأرض، ورائحة التراب والمطر..

تعيدنا إلى أغاني الرعاة، ومهاجل الفلاحين، ومجالس القات، إلى صوت أيوب وهو يصدح في سيارة أجرة منطلقة من مدينة الطيار إلى مدينة تعز:

نجم الصباح، قل للصباح إن لاحْ

قلبي جراح،

ظلام مغلق ما عليه مفتاحْ

وبعده صوت عطروش وهو يغني:

يا رب بشكي إليك، قلبي احترق من لهيبه

يا ما تعذّب وهام، وما تحقق نصيبه

رواية تأخذنا إلى مراتع الصبا، ومواقع القطر، ومنابت العشب.

ليس ذلك فحسب، بل تأخذنا إلى عوالم الصوفية من خلال شخصياتها، فنجد (شجون) بطلة الرواية، شخصية مثقفة جميلة، أخذت رقة التصوف ومركزية الحب من عمها الصوفي، (عبد اللطيف الهدار)، امرأة نادرة، لا توجد في كل مكان، ولا تكررها
الأزمان، مثقفة وجميلة.. لديها القدرة على الحوار، وخلق الأسئلة.

لنجد أيضا، شخصية لقمان الهلالي، الرجل المثقف الحكيم، الذي درس علوم الزراعة في جامعة موسكو.

كما نجد (حسن الهدار)، عم شجون الآخر، الذي أجاد اللغة الإنجليزية، واستهواه البحر، فاشتغل بحارا يقود المراكب، عاش في عدن، وكان يرسل كتبا كثيرة لابنة أخيه (شجون)، مثل كتب الأدب والفلسفة والفن والروايات والمجلات التي كان يجلبها معه من مصر أثناء أسفاره.

نجد أيضا، (المهندس أكرم سلام)، متخصص جيولوجيا، تخرج من جامعة صنعاء.

أيضا، (جميل عبد الرب)، موظف في الهيئة العامة للسياحة، في دائرة الترويج السياحي.

كذلك؛ (الشيخ أحمد عبد الله الأزهري)، الذي درس في كُتَّاب القرية ثم في مدينة (زبيد)، وهو نموذج للرجل التراثي المنفتح على العصر، يقرأ الفكر المعاصر والمنطق ولا يرى حرجا في الربط بين الماضي والحاضر.

كما نجد شخصيات أخرى، مثقفة ومنفتحة، التي من خلالها نتصور الشخصية اليمنية المثقفة المولودة بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، ومن خلالها أيضا نتعرف على الحياة الاجتماعية السائدة في اليمن في فترة السبعينيات والثمانينيات، فالمرأة مثلا
لا تخجل من مصافحة الرجال، وذلك واضح من خلال لقاء أشرف نور الدين بلقمان وزوجته شجون، حيث جاء في الرواية: "مدّ إليها يده للسلام، فمدت يدها وابتسمت وشكرت"ص83.

وذلك يجعلنا نتخيل كيف تغيرت الحياة في فترة التسعينيات بسبب المد الديني المتطرف، الذي فرض النقاب، وعزل الرجال عن النساء.

وهذا الموضوع ناقشته الرواية بأسلوب جميل، بعيد عن المباشرة والاتهام، فرأت وترى أن بداية انتشار الجهل والتطرف بدأ حين أغلقت مراكز العلم الهامة والرئيسية والبعيدة كل البعد عن التطرف، ومن ذلك (زبيد) مدينة العلم والعلماء كما كانت تسمى في السابق، فنجد لقمان الهلالي يقول:

"زبيد.. نعم، هي أرض الحكمة والسلام، لماذا تغيب ويسطع الجهال والمتشددون؟ كانت قبلة علم لامعة ناعمة، فتُركت تذبل وتذوي ليتطاير الجهال في كل صوب"ص242.

*اقتباسات من الرواية:*

بعد التعمق في القراءة، يجد القارئ نفسه أمام رواية عقلية فلسفية تاريخية علمية واقعية واجتماعية، يتجلى ذلك من خلال الحوارات المتعددة، والتي يمكن أن أقتبس بعضها فيما يلي:

ورد على لسان الشيخ الأزهري: "لا يكفي النظر في اتجاه فكري واحد للحصول على يقين"253.

وقوله أيضا: "درسنا الفلسفة والمنطق والتاريخ بجانب علوم الدين الأخرى، أسئلة الوجود والغيب تحتاج إلى عقول رصينة وجادة، والعقول تُبنى بالفكر والتأمل والحرية، وهؤلاء هم ألوا الألباب"253- 254.

ويضيف: "الشك متوقع في كل عقل متسائل، هذا أمر طبيعي، الأهم إلى أين يقود هذا الشك، هل يقوي الإيمان أم ينتزعه من الجذور؟"255.

ويوضح أكثر ما يريد الوصول إليه بقوله: "بعض الأسئلة تنطوي على غِيرة على الدين وأهله، وليس كما يقول بعض جُهّالِ زماننا إن فيه جرأة مستقبحة وتشجيع على المروق من الدين"259. ثم يضع تساؤلا: "لماذا يضيق بعضهم بالأسئلة، ويتجهم في وجه السائل، ويحذر ويتوعد ويذكرنا بالنار بدل رحمة الله؟!" 259.

ومن هذه الحوارات، يقول لقمان:

"المشكلة ليست في الأفكار، الصراع حولها مضيعة للوقت والجهد، المشكلة الأصل لدينا هي في بناء الدولة وعلاقتها بالناس، بناء الدولة هو الأهم وهي الضامنة بعدئذ لتعقيل الاتجاهات كلها، لا أحد يتحدث عن بناء الدولة، وشكل الدولة
ووظيفتها، وأنها هي الضامنة لصياغة هوية وطنية جامعة، هذه الدولة المأمولة لا وجود لها في تاريخ المسلمين كله لا القديم ولا الجديد، ما يزال التغالب على السلطة بالقوة وقهر الناس هو السائد، والعرب لم يخرجوا بعد من دورات التاريخ الدموية هذه، ولا من كتاب ابن خلدون" ص239.

ويقول الشيخ الأزهري مخاطبا لقمان: "الحوار مع صاحبك مفيد، لاسيما أنه يساري معتدل، يحترم التقاليد، وأنا أتعلم منه الأفكار الجديدة التي تشيع في العقول، وأرى كيف أعالج شطحاتها، لاسيما تلك الشطحات التي ترى في الدين عائقا للتقدم، وأنه استنفذ أغراضه تاريخيا، ويلزم تجديدها بأفق عصري" ص241

ويجيب أشرف: "التجديد لازم في كل شيء، تلك سنة الله في خلقه، فكما تتتابع الأجيال وتتجدد بالموت والحياة، كذلك يحتاج البشر أيضا إلى دفن الهرم من أفكارهم وتجديد رؤاهم والتخلص من أي ركام فكري عبثي لا يُستخدم ولا نفع فيه، وقد اختلط الحابل بالنابل منذ قرون ويلزم إعادة النظر والتجديد، اختلط الدين
بالفكر الديني واختلط الدين بالدولة، واختلطت المصالح البشرية بالروحانيات الإلهية، واختلطت العقلانية بالخرافة، والنتيجة ما نشاهده من تخلف وغياب للعقل" ص241.

ويقول الشيخ الأزهري أيضا: "جُهّال الدين، وجهال الفكر، وجهال السياسة وما أكثرهم موجودون دائما، والشاطحون والمتشددون الغلاة موجودون أيضا، والجميع مهلك لنفسه, ولما يعتقد، وضار بالمجتمع". ص242.

*خاتمة:*

الرواية كُتبت بقلم الكاتب المطلع على الثقافات، المتأمل للواقع، المتمرس بالكتابة، والخبير بأسلوب الحوار، فاللغة جزلة ورصينة، وسهلة وممتعة، والحوارات عميقة وثرية، والحكاية مدهشة، كما أن الكاتب نأى بنفسه عن شخصياته، فلا نجده يتدخل في سلوكها وحواراتها، وإنما نجد الشخصيات نفسها تتكلم وتناقش، ولو دخل الكاتب في الخط، فهو فقط لتوزيع الحوارات ونقلها من شخصية إلى أخرى، وهذا أضاف لها جمالا إلى جمالها.