قراءة في ديوان: ما يشبه الرثاء بقلم:عبدالله دعيس
تاريخ النشر : 2019-10-09
عبدالله دعيس:
من يرثي الشاعر في ديوانه؟ وهل هو رثاء صريح وبكاء على الأطلال؟ أم أنّه يركب أمواج بحور الشعر وأغراضه ليرثي نفسه وأمّته، بل ليرثي الإنسانية التائهة في بحر متلاطم من اللامعقول؟ سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ عندما يطالع عنوان الديوان المثير.
يستهلّ الشاعر كتابه بنصّ غير معنون، يعلن فيه عن نظرته التي ستحملها القصائد جميعها، ويهيّئ المتلقي لما سيجد في الصّفحات اللاحقة:
"لا شيء فينا كاملٌ أو ناقصٌ
كلّ شيء هو هو
ناشئ بفطرته
تشوّهه الحياة بلغز مبتذل" ص 5
فهل قصائده دعوة للتجرّد من الدّنيا وأوزارها والعودة إلى الفطرة السليمة؟ أم ربما عودة إلى وحشيّة الغاب وبداءة العيش؟ وهل يمكن للإنسان أن يتصرف ويقول على سجيّته، ويحطم الحواجز التي يضعها الآخرون؟
يُفصح الشاعر عمّا سيأتي في ديوانه، في القصيدة الأولى المعنونة (هكذا آتيكم)، والتي تعطي صورة واضحة عمّا سيأتي في مجمل قصائده، وتفسّر الإشكاليات التي ستثار حولها. ففيها يعلن أنّه لن يأتي بوجه مقنّع أو بابتسامة خادعة تغطي عمّا في داخله من مشاعر سلبيّة، ولن ينمق كلماته، ويخفي ما يريد وراء ستار من الصور المصطنعة. وتزخر قصيدته هذه بالعواطف التي تعبّر عن السخط من عالم مضطرب تحكمه المصالح، ويقوده النفاق والإختباء خلف الأقنعة الزائفة، وقد ماتت فيه كل معاني النخوة والمروءة، وأصبح الاستغلال هو العنوان، ورضخ فيه المظلومون واستكانوا للعبودية، أو جذبهم بريق المال، وأسلموا أنفسهم وأوطانهم للذل والدمار. ويقف الشاعر ليتكلم بصراحة قد تجرح السامعين، الذين تغوص رؤوسهم في الرّمال، بينما تتكشّف ظهورهم للرماة.
وتسيطر على الديوان عواطف الغضب والحزن واليأس والإشمئزاز والألم. فلو طالعنا عناوين القصائد لوجدنا كلمة (حزن) تتكرّر فيها مرات عديدة، وعند قراءة النصّوص نرى أبياتها تتدفّق بالحزن والغضب والتّشاؤم، ونلحظ أن كلمات الحزن والبكاء والانكسار والوجع والألم والغياب والشقاء والأحلام، تسيطر على معظم قصائده، وتفصح عمّا يعتمل في نفسه من عواطف. فالشاعر يرى واقعا قاتما، وذكريات لماضٍ لم يكن أجمل من الواقع، رغم أننا نغلفة بهالة من الذكريات والتنهّدات. ولا يرى الشاعر فجرا قريبا، ولا عهدا جديدا قادما من بين دياجير الظلمة. ويتألّم الشاعر لما يدور في هذا العالم الذي يراه برهافة نفس وعاطفة شاعر، فيتمنّى أن يغفو ليصحو على صباح أفضل. لكنّ سوداوية الأفكار هي التي تحكمه، وأكثر ما يؤلمه هو ضياع أحلامه وآماله واصطدامه بمرارة الواقع.
والشاعر يرى النّور الذي في نهاية النفق خافتا تتراقص فتيلته وتوشك على الانطفاء. لكنّه يحاول، ولو بيأس، أن يستحث الهمم للانطلاق من جديد:
"وأين من يمضي معي لنعيد صوغ الأغنيات
على وقع الوتر
في ظل خضراء الشجر" ص 8
وتظهر فسحة الأمل عنده ضعيفة باهتة، لكنها تبرز أحيانا في بعض القصائد:
"هذه المدينة المسمّاة فينا
القدس...
إن مات كلّ شيء واستراح
هي لا تموت" ص 119
والشاعر يكتب معظم قصائده بلغة الأنا، فهو يرى العالم ويحكم عليه من خلال نفسه. وتكشف قصائده عن نفس مضطربة قلقة متشظّية شاكّة، تتمنّى أن يقودها الشّكّ إلى القين، لكنّه يحطمها وينهكها. ويبقى الشاعر متشبّثا بأهداب اليقين رغم رياح الشك وعذابات الحيرة؛ فيلجأ إلى الخيال والأحلام الوردية ليتخطى الواقع، لكنّها لا تسعفه؛ إذ أن الأشواك تسبق الأزهار إلى يده التي يمدّها إليها فتدميها. وعندما تضطرب نفس الشاعر، لا يجد غير الشعر لينهض بها من كبوتها، فهو كالنّورس مكسور الجناح، لا يبقيه على بعض حياة إلا الذكريات والأحلام الدافئة. والشاعر يرى نفسه غريقا تلتهب نفسه وتستعر بنيران الشّكّ والعذاب، فينتظر الموت ليرفعه من بوتقة العذاب، ولا يرى طريقا للخروج من الحزن والألم، لأن الخروج لا يكون دون هزّات موجعة وآلام أخرى تتجدّد وتتجذّر.
"إذا كانت الدنيا ملبدة بأحزان القمر
فالبحر يغسلها، وبالموج الشديد
نام الصدى، واستسلمت آهاته
فلعلها تصحو غدا
إذا ما هزّها الوجع المجيد" ص 27
يستغرب الشاعر كيف يستطيع الإنسان الاستمرار بالحياة رغم الكآبة التي تعصف به، والموت الذي يحيط به، وكيف يستطيع أن يغزل من أحلامه وأشواقه وشهواته خيطا يعبر به دروب الحياة الوعرة وينسج به فرحا مصطنعا.
"هو ذا أنا،
ليل بلا قمر، بلا رؤيا، بلا حلم، بلا فلك يعاوده المدار" ص44
ويتوق الشاعر إلى براءة الطفولة وأحلامها، وإلى نقاء النفس والروح التي فقدها، ويتوق إلى حياة بسيطة بعيدة عن الأفكار المؤلمة.
"يا بحار الشوق عودي واغسلي الأفكار من
وجع الرّمال
في شواطئك النّبيلة" ص 58
يعلن الشاعر موقفه من الفاسدين والمتسلقين والمنافقين وأدعياء البطولة الكاذبين، ويرى نفسه مكبّلا لا يستطيع مواجهتهم؛ فيستسلم للشكّ في كل من هو حوله، فيشير بأصابع الاتهام لكل من يحيط به، فمن ظنّ فيه الخير والبراءة وجده غير ذلك، وكأن الشاعر يفقد ثقته في كلّ شيء، ويسيطر عليه سوء الظّن ليلقيه في أتون حزن جارف. يتجلّى هذا في قصيدة (لم يعد أحد بريئا) (ص83 – ص85) وهي قصيدة جميلة تتناص مع قصة يوسف عليه السلام، لكنّ استخدامه لرمزيّة يوسف، كان فيها إساءة وخروج عمّا هو مقبول.
وقصيدة (نهايات محرقة)، تلخّص سيرة الشاعر وطريقه الوعرة: فهو بدأ يشقّ طريق الحياة الصعب يحدوه الأمل بالقادم، ثمّ غدا يرى الدنيا على حقيقتها وتنتابه الحيرة، ثمّ اكتنفته اضطرابات النفس وبدأ يتجرّع آلام الحياة، فلجأ إلى القلم ليعبر فيه عما يعتمل في نفسه من شقاء، لكنّ هذا لم يُجدِ ولم يعيده إلى البراءة التي افتقدها.
ولا تخلو قصائده من بعض الفكاهة الممزوجة بالألم. تأمّل كيف يصوّر بلغة تهكّمية على لسان الدكتاتور، في قصيدة (خطبة الدكتاتور الأخيرة الموزونة جدا) خيبة الشعوب التي تصنع جلّاديها بنفسها.
"وقبل أن يقضي الشعب أوزاره لآخر مرة
يروي ليلته الحمراء لبادية الريح
ينهض كالفراشة حاملا منّي بقايا نطفة
لن تموت..." ص 150
ويستمرّ بهذا التهكّم في قصائده الأخيرة، التي يحاول فيها أن يرسم صورة منفرة للدنيا، وينعى انغماس الناس فيها دون أن يتفكّروا بمآلهم القريب، لا سيما العلاقات الجنسيّة، التي يصوّرها بصورة مقزّزة، فلا تلبث هذه الشهوة أن تخبو، ويكتشف الإنسان حينها، أن ما كان يسعى إليه ويحتلّ أفكاره وخياله، ما هو إلى سراب وشهوة زائفة تعافها الأنفس.
"كشيء تافه أشعر بالقرف الشديد
تتذوقني آلة من اللاشهوة للفجور
تختمر الأبجدية فكرة عفنة
تلتفّ عليّ بساقها العرجاء
كأني لست أعرج أو غريب الانبعاج" ص 157
لكن فراس حج محمد يوغل في وصف ذلك بطريقة تخدش حياء المتلقي وتجرح كرامة المرأة، فهو يتعمّد أن يوصل فكرته بشكل فجّ فاضح، فيهوي بكلّ الجمال الذي كان في قصائده السابقة إلى الحضيض، ويثير جدلا كان، بلا شكٍ، بغنى عنه، فحبذا لو ترفّع عنه، وطهّر ديوانه من هذا الإسفاف غير المبرّر.
رحلة القارئ في ديوان (ما يشبه الرّثاء) متعبة شاقّة، تعيد الإنسان إلى نفسه، تهزّ مشاعره، تأخذه إلى أعماق نفس الشاعر المرهفة المعذّبة، وتنكأ جروح قلبه الذي يرى هوان الأمّة ويحاول أن يغض الطرف عنه، ويعرّي له بعض الحقائق التي يرغب أن يسدل الستار عليها، ويتركه على عتبة جديدة، قد يختار أن يعبرها، أو يعود ليتستّر داخل قوقعته.