الغناء الثوري؛ المهمة النضالية والدور الوطني بقلم: مهند طلال الاخرس
تاريخ النشر : 2019-10-09
الغناء الثوري؛ المهمة والدور ٢-٢
بقلم مهند طلال الاخرس

من أجل الوصول إلى الناس بالكلمة واللحن والموقف الصادق ، يجب أن تشعر بالكلمات كما لو أنّك جزء من الناس وجزء منها، ويجب أن تعرف ما يريدونه، وما يحتاجون إليه، وما يشعرون به. يجب ان تكون الاغنيات تلامس الوجع وتبث الامل وتحفظ الذاكرة من النسيان وان تلهب الحماس وتحرض على الطغيان وان تلامس شغاف القلب بصدقيتها وعفويتها وارتباطها وتعبيرها عن الاحداث كدور متكامل ضمن عمل ثوري شامل يهدف الى النصر والتحرير وديمومة الفكرة.

ولان من يكتب حكايته يرث ارض الكلام ابتدع الشعب الفلسطيني اسلوبه الخاص في الغوص في ثنايا التاريخ لحفظ سيرته وروايته فأحسن استخدام كل الفنون الادبية والادائية والتراثية والغنائية والتي ساهمت بحفظ تاريخه وهويته من النسيان.

في هذا السياق لم يشذ الغناء الوطني والثوري الملتزم عن هذه القاعدة، اذا واكب مسيرة النضال الفلسطيني منذ بداياته، فظهرت مساهمات الغناء الفلسطيني باكرا مع تفجر ثورة ١٩٣٦ وبروز دور الغناء فيها من خلال الدور الذي لعبه شاعر الثورة وحاديها في تلك الحقبة نوح ابراهيم واغنيته الشهيرة "دبرها يا مستر بل" بالاضافة الى اشعار عبد الرحيم محمود واقرانهم من الشعراء والحدائين والزجالين والمغنيين الشعبيين. ومنذ تلك اللحظة لم يتوانى الغناء الوطني الفلسطيني والثوري الملتزم عن شق معالم طريقه وترسيخ دوره الوطني والمقاوم لا سيما في حفظ الذاكرة وتوثيق الاحداث بأنواعها لاسيما المجازر والمعارك والبطولات .

ومع مرور الايام وانقضاء الزمن وتوالي الاحداث ظهرت وتعاظمت مهمة الغناء الوطني لاسباب عدة؛ فشيئًا شيئًا، تذوب صور المجازر في تفاصيلنا اليوميّة، لتتحوّل إلى صدًى بعيد لقسوة التاريخ. ومع ابتعادنا في الزمن تصبح صور المجزرة متهالكة، وقد تختبىء او تختفي في احد زوايا الذاكرة او قد يطويها النسيان.

ومع تعاقب صور المجازر مرارا وتكرارا وغرقنا في التفاصيل التي تليها، وحسب نظرية الترك والغمور وحسب قاعدة الانزياح في المعلومات لما هو احدث وتآكل كل ما هو قديم لصالح كل ما هو جديد (متفوق عليه بالحيز وبرائحة الدم)؛ تظهر الروايات المتعددة المستندة لوجهات نظر متفرقة لتملأ فجوة الزمن. وهنا قد يكمن الخلل وقد يحدث العبث، وقد يختار كل طرف طريقته الخاصة في استحضار مشهد وصوت واسلوب مختلف لسرد أحداث المجزرة، وقد افلح الفلسطينييون عبر سني نكبتهم في تنويع مصادر استحضاره وتعددها وكان للغناء نصيب وافر منها، ولاعجب في ذلك فقد علمته نوائب الدهر كثيرا من فنون الحياة...

وبإستعراض سريع لمسيرة الغناء الفلسطيني من حيث الوظيفة والدور يتبين لنا عظم تلك المهمة التي قام بها. وبجولة بانورامية على الاحداث التي واكبتها الاغنية الوطنية نجد كثيرا من الاحداث والوقائع التي اسهم الغناء الوطني في حفظها والاسهام في تذكرها وفي جعلها عصية على النسيان، ومن جملة تلك الاحداث والوقائع نجد ان المجازر المرتكبة بحق شعبنا العربي الفلسطيني احتلت مكانا مؤثرا في نصوص تلك الاغاني حالها كحال الوجع الذي تسببت فيه وبقي هذا الوجع جرحا غائرا في الذاكرة لا يندمل ولا يطويه الزمن.

وعند استعراض هذه المجازر عبر ما تناولته الاغنية الفلسطينية نجد ان الغناء الفلسطيني وثق وأرخ وغنى لمجازر النكبة ابتداء؛ فغنى لدير ياسين وتبعها كفر قاسم والسموع وايلول الاسود وعين الرمانة وقبية ونحالين وتل الزعتر والفاكهاني وصبرا وشاتيلا ومجزرة الاقصى والحرم الابراهيمي وجنين وغزة وغيرها، فالمجازر كانت وستبقى مادام هذا الاحتلال( وادواته واعوانه واذنابه) قائما، فالمجازر فعل يأخذ صفة الديمومة والاستمرار بالنسبة لهذا الاحتلال لأنها عقيدة ونهج بالنسبة له، ويرتبط وجوده وعدمه بها حسب اعتقاده لاسباب دينية وعقائدية فاسدة كفساد عقليته التي تحمل هذا الموروث الدموي وتؤمن به.

لكن ولسبب ما "لا يظهر للعيان دائما" تبقى الاغاني التي تناولت المجازر التي ارتكبت بأيدي عربية اكثر بقاء واكثر حضورا في الذاكرة ربما لأنها اكثر ايلاما وقهرا ووجعا من غيرها وربما لانها ما زالت تتكرر بمشاهد وصور اخرى اصغر واكبر، او ربما لأننا لم نتعافى من جراحنا بعد، فما زال جرحنا نازفا دما وألما، وربما لان الاخوة الاعداء مازالوا يتربصون بنا ويتكالبون ويتواطئون علينا، وربما لكل ما ذكر، وربما اكثر ، وربما لاسباب اخرى كثيرة نعلمها ولا نريد البوح بها، وربما لاسباب كثيرة نجهلها؛ لكني اعلم شيئا واحدا ان هناك من يريد منا ان نكفر بتلك الامة وبذلك الوطن العربي الكبير، لكل هؤلاء وعلى مرارة الالم وكبر حجمه وكثرة الدماء التي اسالوها وعِظم الارواح التي ازهقوها لن نقول لهم إلا أننا ابناء هذه الامة الحقة وبيارقها التي ترفرف واعلامها التي تخفق وبأننا اصحاب الحق، وبأن دمائنا هي السطور الباقية في التاريخ، وبأن جلادينا سيذكرهم التاريخ كأبي رغال وابن العلقمي وسيرجمون ويلعنون الى يوم الدين. وسنبقى نحن الشعب الذي يغني على طول الدهر "اكتب اسمك بابلادي على الشمس اللي ما بتغيب"
وسنبقى رغم انوفهم نستذكر قول الشاعر:
" ان الذي بيني وبين بني قومي لمختلف جدا
ان هم اكلوا لحمي وفرت لحومهم
وان هم هدموا مجدي بنيت لهم مجدا"

وللتدليل على ما سبق واذا استحضرنا مثالا من المجازر سالفة الذكر، تبرز لدينا ثلاث اغاني اشتهرت بصورة تفوق الوصف وكسرت حدة الصمت المريب تجاه تلك المجازر، حيث عجز الاحتلال واعوانه بشتى اشكاله والوانه ان يسكت صوت الموسيقى. ورغم تمكنه من اخماد صوت الرصاص وإغتيال الثورة الفلسطينية في عمان واحراش جرش ودبين وفي تل الزعتر وفي صبرا وشاتيلا...إلا انه عجز ان اسكات تلك الكلمات القادمة من تلك الحناجر المؤمنة بأن صاحب الحق لا يمكن ان ينهزم، وانه لا بد له من ان ينتصر ولو بعد حين.

نستشهد هنا بثلاث اغنيات جسدت ثلاث من المجازر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني وثورته، ورغم فظاعة تلك المجازر ومحاولات الاحتلال واذنابه الحثيثة لطمس واخفاء معالم تلك المجازر من الوجود؛ إلا ان الغناء الوطني والثوري الملتزم حفظها في الذاكرة، وجعلها عصية على النسيان، واستطاع بكل جدارة واستحقاق ان يبقيها حية وخارج دائرة النسيان. فكان له ما اراد وبقي لنا اصل الحكاية والحق الحصري في صوغ النهاية.

ايلول وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا؛ ثلاث مجازر ارتكبت بأيدي عربية وبغطاء وحماية اسرائيلية وبقيت حاضرة في الذاكرة تستدعيها الشفاة عند كل مصاب جديد او عند انتهاء فصل الصيف وبداية فصل المطر، حتى بات الفلسطيني يهاب ايلول ويتمناه بلا مطر!

ثلاث مجازر عبرت عنها ثلاث اغنيات بقيت تحفظها الذاكرة وترددها الالسن في كل زمان ومكان واصبحت عصية على النسيان، اولى هذه الاغاني تعود للفرقة المركزية "فرقة العاصفة" وهي الاغنية المعروفة بعنوان "فلسطين فلسطين ضياعوك البياعين" وهي عبارة عن ملحمة غنائية طويلة تجسد تلك الحرب البشعة التي شنها النظام الاردني على الفدائيين والمخيمات الفلسطينية في الاردن، وهي المجازر والمعارك التي تمخض عنها الخروج من المدن ومن ثم حصار الاحراش حتى خسارة الثورة الفلسطينية لكل قواعدها في الاردن والخروج منه.

وهذه الاغنية كانت ولوقت طويل من ضمن قائمة الممنوعات في الاردن لما لكلماتها من رائحة الدم ولما لها من ذاكرة خصبة ترفض ان تموت. وتقول كلمات هذه الاغنية والتي تلخص تلك المذبحة:

فلسطين .. فلسطين ضيّعوكِ البيّاعيـن
ووثقنـا فيهـم يا دار كلهم طلعوا جزّارين

اسألي عنهم عمّـان ..
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك يا عمّـان
احرقوا فوقنـا الخيام ظاربونا بالنابالم
مدافعهم موت زئـام حللوهـا علينـا
كان يتجسس علينا لامريكا عامل خدام
اسألوا عنهم عمّـان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك ياعمّـان
استفرد نيرون فينـا بدعوى إنه حامينـا
سلم القدس وجنينا ليعمل علينا حكام
اسألوا عنه عمّـان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك يا عمّـان
ياجزار صبرك صبرك قرّب ينتهي قبرك
دم شهدائنـا من غدرك لازم ناخده من الظّـلام
ويكون خلاصك عمّـان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك ياعمّـان
كبلونـا بالقيود صعّدوا علينا العدوان
بدل ما يحموا الحدود سلطوا علينـا الطغيـان
اسألوا عنهم عمّـان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك ياعمّـان
على أولادنـا عملنـا حداد وتشردنا بقاع الواد
من أمريكا جاله عتـاد تـ يكافئـوه علينـا
الله أكبر يا ظُلام
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك ياعمّـان
سلّط حقده علينـا يشفي غليله فينـا
قام يتجسس علينـا لأمريكا عامل خدام
اسألوا عنه عمـان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك ياعمّـان
شبابك يافلسطين اقسموا فيكِ اليمين
والفدائيـة مجتمعيـن لازم يقضوا عالطغيـان
ويحرروكِ عمّـان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك يا عمّـان
اشهد يارب علينـا مدافعنـا بإيدينـا
اللي يحاول يئذينـا بنذيقه العذاب ألوان
هذا قسمنـا ياعمّان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك يا عمّـان
اللي يبيع حِمانـا واللي بغدره عطانـا
عهد منا يااخوانّـا ننتقم من الظلام
ويكون خلاصك عمان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك يا عمّـان
عشرين سنة من العذاب عيشتنا متل الأغراب
واعدانا على الباب يتاجروا ويبيعوا فينا
كيف نسكت يا عمان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك يا عمّـان
والشعب العربي معانا من إخلاصه عطانا
والرب أكرم شهدانا جنة الخلد المكان
إشهد يا رب علينا إنّا للوطن خدام
إنّا للوطن خدام ويكون خلاصك عمان
تركوا النهر لعدانـا نهر دِمانـا عليهم هـان
يشهد الله جراحنـا من جراحك ياعمّـان

وفي نفس السياق نستشهد ايضا باغنية يا تل الزعتر للشيخ امام واحمد فؤاد نجم والتي جائت كلماتها التي كتبها بيرم التونسي موجزة بشدة وذات لحن بسيط، لكنها عميقة بحيث لا تكفيها كل دموع الدنيا، وهي بعكس الاغنية السابقة فلسطين فلسطين ضياعوك البياعين الملحمية الطويلة ذات المارشات العسكرية فقد جائت هذه الاغنية بكلمات موجزة واسطر معدودة ولحن بسيط لكنها مكتوبة بالدم والاسى ولحنها على بساطته جاء يحتوي على كل مرارات الوجع ودلالات الاسى، ولأن "الاسى ما بيتسى" فقد سادت هذه الاغنية من المحيط للخليج وبقيت لانها تعبر عن موقف سياسي وأنساني صلب من المذبحة التي نفذت بحق مخيم تل الزعتر الفلسطيني في لبنان في١٢ اب عام 1976 .

ولعلّ اكثر ما ساهم في انتشار هذه الاغنية وبقائها ابتداء هو فظاعة تلك المجزرة ودمويتها وخروج مرتكبيها عن الصنف الادمي بكل جدارة، والاهم انهم ارتكبوا جرحا غائرا في الجسد الفلسطيني الذي اثخنته الجراح عبر سني النكبة الطوال لكن هيهات له ان ينكسر.

وملخص ما جرى في تل الزعتر انه وفي أواخر يونيو/حزيران 1976، بدأت القوات اللبنانية والمليشيات المارونية حصار مخيم تل الزعتر وقطعت عنه المياه والكهرباء والطعام، واستمر الحصار الخانق 52 يوما، وخلال هذه الفترة قُصف المخيم بـ55 ألف قذيفة، ومُنعت هيئات الإغاثة من دخوله.

وخلال فترة الحصار حاولت حركة فتح وحزب الكتائب اللبنانية الدخول في مفاوضات لحل أزمة المخيم، لكن دخول الجيش السوري إلى لبنان بدعوى حماية المسيحيين قلب معادلة الصراع في لبنان وأجهض تلك المفاوضات، حيث شارك الجيش السوري في محاصرة المخيم.

تحول النظام السوري من مناصر للفلسطينيين وكمال جنبلاط إلى داعم للكتائب المسيحية وجاء ذلك بناء على اتفاق سوري إسرائيلي برعاية أميركية، لتقسيم لبنان إلى مناطق نفوذ لسوريا وأخرى لإسرائيل، حسبما أكد مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيتمار رابينوفيتش.

ولم يكتف النظام السوري بمحاصرة المخيم بل شارك بقصفه بدعوى خرق التنظيمات الفلسطينية لوقف إطلاق النار، لكن جنودا سابقين في الجيش السوري قالوا بأنهم نقلوا من وحداتهم العسكرية للقتال في لبنان تحت لواء فصائل فلسطينية موالية لسوريا منها كتائب الصاعقة التي شاركت في تسليم المخيم للقوات اللبنانية.

وبعد أن تمكنت القوات المحاصرة من القضاء على المقاتلين المتحصنين بالمخيم اقتحمته في 12 أغسطس/آب 1976، وارتكبت مجزرة فظيعة بحق المدنيين، ووجهت الرصاص الحي إلى صدور النساء والأطفال وكبار السن وبقرت بطون الحوامل، ثم باشرت الجرافات إزالة المخيم، وتوزع الناجون لاحقا على مخيمات فلسطينية أخرى في لبنان.

كل هذا الاسى إلتقطه الشيخ امام كمغني وكمتذوق كبير لكلمات بيرم التونسي ببصيرة متقدة تنم عن حجم الارتباط مع الموقف الانساني والثوري والترابط العضوي مع القضية المركزية فلسطين دون مواربة او مجاملة او ادعاء، فكسبت من المصداقية الشيء الكثير ، ورغم كثرة الاغنيات التي غنت لتل الزعتر إلا ان رائعة الشيخ امام وحدها اصبحت ايقونة وبقيت واستمرت تدق جدار الصمت والنسيان وتقض مضاجع الجزارين واذنابهم.

في هذا السياق جائت هذه الاغنية منسجمة مع المضمون الثوري للمغني والملحن والكاتب وبالاضافة الى ان الاغنية جائت معبرة عن حجم الوجع والاسى الكبير الذي تسببت فيه فإنها ايضا جائت صادقة بكل الكلمات والتعابير ، نقية ، منزهة عن كل تزويق او تنميق فاستطاعت ان تلامس شغف المستمعين في كل ارجاء الوطن العربي الممتد من المحيط الى الخليج حتى اصبحت عنوانا للتضامن الرئيسي مع فلسطين في كل محفل ومناسبة وصرخة في وجه كل من تطاول على فلسطين وشرب من دماء ابنائها.

هذه الاغنية التي كتبها بيرم التونسي وغناها الشيخ امام بقيت تحمل الاهات والانات وبقيت كلماتها تذكرنا بحجم الاسى، حيث مارست دورا رائدا في ابقاء الذاكرة الفلسطينية حيّة ومتقدة، واستطاعت هذه الاغنية ان تقدم لكل جهابذة الفن السفيه والوضيع والذين يمارسون كل انواع الدعارة الفنية اقدس الصور في معنى ان يكون المغني والكاتب والملحن صاحب موقف وقضية لا يساوم.

هذه الاغنية والتي اثبتت عبر سني بقائها بان الذاكرة وان شاخت لا تموت، وبان الاغاني وان فسد السلاح تصلح ان تكون سلاح، وان الفعل الثوري والمقاوم تتعدد اشكاله وادواته فمسرح المعركة كبير والمجرمين كثر ولابد لكل مناضل من ان ياخذ دوره المنتظر ولو بكلمة او اغنية.

باسطر معدودة وبكلمات محسوبة ومحسوسة جائت كلمات اغنية تل الزعتر لتقول :
"يا حكاية كل الناس
من قلب الناس للناس
تصحى على لسان الناس
و تبات في ضمير الناس
يا أشرف جرح
و أطهر جرح
و أوجع جرح
بقلب الناس
يا تل الزعتـــــــــر"


وايضا وفي نفس السياق جائت اغنية صبرا وشاتيلا لحادي الثورة ومغنيها ابو عرب، اذ ابدع ابو عرب في التنويح والتلويح والترويد والترديد والحداء والبكاء واستخدام كل اشكال وقوالب الغناء؛ لكن لسبب او لآخر كانت هذه الاغنية اكثرهن إيلاما ووجعا، وبالتالي أكثرهن كسرا للقلب، واكثرهن تسببا بفيضان الدمع انهارا دون حسيب او رقيب.

ولأن صبرا وجع لا ينسى ولان صبرا فضيحة عصرنا للابد، ولانها كانت النسخة الجديدة من ايلول والنسخة المكررة بصورة اوضح من تل الزعتر، ففيها وبتدخل اسرائيلي مباشر وظهوره على مسرح الدم بصورته الحقيقية وعدم اكتفائه بلعب دور الموجه والمسير للامور والمتحكم بها، فشراهته للدم تدفعه دائما للعب دور البطل، فهو لا يشق له غبار ولا يُنافس في هذا المجال.

ورغم دور القاتل والتابع الوضيع الذي مارسه النظام السوري في تل الزعتر، إلا انه ورغم هذا الشلال من الدم لم ينل ثقة اسياده في تل ابيب ولا تجار الدم والمصائب اصحاب المدن اللقيطة والعواصم ذات الابراج العالية والمليئة من كل شيء إلا من الانسان الآدمي.

في صبرا وشاتيلا ورغم دور التابع والمتواطىء الوضيع الذي مارسه النظام السوري في تل الزعتر، اتضح هنا اكثر دور القاتل، واتضحت اكثر معالم المؤامرة، واتضح اكثر حجم بحر الدم الذي يغرق فيه الفلسطينييون، وبالطبع من نافلة القول ان حجم الفظاعة كان اكبر.

ففي صبرا كان الطوق والغطاء من اسرائيل مباشرة، وفي صبرا كانت الكلمة العليا لاسرائيل نيابة عن حلفائها الانعزاليين اصحاب مجزرة عين الرمانة وتل الزعتر وضبية وجسر الباشا والكرنتينا والمسلخ، في صبرا كان العدو الاسرائيلي بوجهه الصريح، وكان الانعزاليون بثوبهم الحقيقي، وكانت العروبة منكسرة ومنهزمة، وكان كل شيء بالحضيض إلا دم الفلسطيني كان سيالا مدرارا، كان هناك يبكي حظه من الاشقاء، ويبكي في سنوات القحط بدل السماء .

عند توهج ذلك البحر من الدم، وتصدر صبرا وشاتيلا لقائمة الدم المستباح من كل حدب وصوب، وعند انتشار رائحة الجثث المبعثرة في الطرقات، وعند مشاهدة صور الاطفال السابحين بدمائهم كيف يرضعون من اثداء جثث أمهاتهم....عند تلك النقطة الفارقة إلتقط ابو عرب المشهد وعبر عنه كمصور محترف يعرف سلفا كيف تستطيع الكلمات ان تبقى عصية على النسيان حالها من حال الدم الذي سال.

في اغنية صبرا وشاتيلا يحمل ابو عرب تلك الكاميرا يلتقط لنا صور المذبحة في زقاق المخيم، ينقل لنا مشاهد حية لمجزرة مرعبة ارتكبت للتو في الجسد الفلسطيني الذي اثخنته الجراح وقهره الاخوة الاعداء.

هنا وعند هذا الحد وكما يقال بلغ السيل الزبا عند ابو عرب، فجائت الكلمات والاهات عنده لتعبر عبر بكائية طويلة واصفة مشهدا طويلا من الدم المسفوك على الطرقات وعلى جدران الصفيح المتهالك والتي اخترقها الرصاص والاسى الفظيع ولم تنفع معها صيحات النساء وبكاء الاطفال وانكسار الشيوخ وانحسار الرجاء في كل شيء يالله إلا منك ومن رجائك الذي غاب ولم يحضر.....

عند هذه اللحظة من الدم وعند هذا الحد من الالم صدح ابو عرب وبصوت شجي وببكاء وصل حد الصراخ والعويل ببكائية طويلة اصبحت فيما بعد اغنية ملحمية يصور فيها كل مشاهد المجزرة تقول كلماتها:

قومي يختي شوفي الجثث المبعثرة ..
شوفي الجثث الموزعة في الطريق
شوفي الاطفال مسبحين بدمهم ..
عم يرضعوا من بز جثة أمهم
غنيلهم يختي حب الوطن ..
ماتوا لاجل حب الوطن ..
وعاشوا اغراب بحب الوطن
غنيلهم حب الوطن ما أجمله
عم يسمعوا ..
غنيلهم حب الوطن ما أجمله

- نام يا حبيبي
بزك ارضعه .. ثصف القنابل ضل يسمعوا يا ابني
ابوك هلي بوسك يا ابني وراح
سافر على ظهر السفن ورفاقوا معه
ويلي
ابوك هلي بوسك يا ابني وراح
حامل هموم الوطن على كتافه سلاح
وبيروت طلعت كلها بموكب كفاح
لا موكب الابطال حتى تودعه
يا هل ترى يا ابني بيدروا شو جرى
صبرا وشاتيلا قتل ودم ومجزرة
ما سلم منها شيخ او طفل ومره
مثل الزغاليل الاطفال تبربعوا

ما سلم منها لا شيخ وبنت وصبي ..
وما عاد يشفعله مسيح ولا نبي
بالسكين في صدره ويصرخ يا ابي ..
وابوه بعيد ومين بيسمعوا

واحتضنه أمه وهي غارقة ..
في دمها والروح منها مفارقة
واخته رموها في قذيفة حارقة ..
وجدها حظنها والثنين يولعوا

تململوا الاطفال ما بين الرمم
يتخايلوا بين الجثث ..
هيئة أمم، مجلس أمن، وڤيتو ونعم
والبعض من حكامنا يضرعوا
صهيون قتل اطفالنا شو بينفعك
بتهاجم النازي وسكينه معك
شبيدي على جبن العرب هلي طمعك
والبعض في حب الكراسي اطمعوا
ويلي
مهما ذبحتم بشعبنا يا مجرمين ..
دمهم جرى على الارض بيرسم فلسطين
لازرع اشلائي في ضمن ارضي حنين ..
زهرات ثورية وبكرا بيطلعوا
وسمعت مريم صوتها هزه النحيب
نادت: يا عيسى يا شعب قدس الحبيب ..
ما الفايدة من بذل دمك على الصليب
ما دام عنا وحوش هيك بيصنعوا
لاصبر على الايام مع جور الزمان وبراهن الايام وما بخاف الرهان
لو بقي منا طفل وحده في الميدان ..
لا بد حق المصطفى بيسترجعوا
ويلي
-
صبرا وشاتيلا .. شاتيلا وصبرا
دمعة بعيوني .. وبقلبي حسرة

أمي تناديني ذبحوا أطفالي
ذبح السكينة ذبحولي الغالي
مين يواسيني .. حسرة على حسرة

الطفل الي بيرضع .. دمه على سريره
دمه على المدفع يشهدله شخيره
لا مين بيسمع صوته بالمرة

والشيخ العاجز من دمه صلى
دمه على الحاجز يشكي لله
عظم العجايز بينادي الثورة

صبرا وشاتيلا .. شاتيلا وصبرا
دمعة بعيوني .. وبقلبي حسرة

قضيت العمر يا صبرا وأنا انوح ودمي اطفالنا بايدي وانا انوح
سفينة حزن يا شعبي وانا انوح .. ورموش الموج ودموع العباب
يا ويلي

صبرا وشاتيلا .. شاتيلا وصبرا
دمعة بعيوني .. وبقلبي حسرة

ثلاث اغاني لثلاث مجازر جسدت بشكل منقطع النظير الوظيفة الكبيرة والدور المهم الذي يمكن للاغنية الوطنية والثورية ان تلعبه في النضال، حيث استطاعت الاغنية الثورية ان تمارس دورها النضالي وان تثبت حضورها وان تسهم بشكل كبير في صون الذاكرة وحفظها من النسيان، وهذا كله مدعاة للفخر بالغناء الفلسطيني ودوره.

ورغم كل هذا الفائض من الالم؛ هذه دعوة دائمة لان نغني ونغني، لان الاغاني سلاحٌ ينتصر عندما يغيبُ السلاحُ...

2-2
انتهى