رواية التيه والبحث عن الذات مريم/مريام كميل أبو حنيش بقلم: رائد الحواري
تاريخ النشر : 2019-10-08
رواية التيه والبحث عن الذات مريم/مريام كميل أبو حنيش بقلم: رائد الحواري


رواية التيه والبحث عن الذات
مريم/مريام
كميل أبو حنيش

لأول امرة أتوه ولا أعرف من أين ابدأ، في هذه الرواية مجموعة اشكاليات، حيث تقدم شخصية الهجين "إبراهيم/إبرا"، فهو من أب فلسطيني "إلياس/إيليا/إيلي"، ومن أم يهودية "شلوميت/سلام، فهو في العرف الفلسطيني فلسطيني، وفي العرف اليهودي يهودي، وله أخت "عنات" من جهة الأم أي يهودية كاملة، وله أخوة من جهة الأب أي عرب كاملين، لكن السارد تجنب الحديث عنهم، وهذا يستوجب التوقف عنده والسبب وراء اهمال السارد لذكرهم، فهل أراد التركيز على الخلاف بين الفلسطيني واليهودي/الصهيوني فقط؟، أم أن تجنب ذكرهم، يشير إلى العلاقة العادية/السوية فأراد أن الابتعاد عن الخوض في تفاصيل عادية مملة لا تفيد القارئ بشيء، ولا تخدم فكرة الأزمة/الصراع التي تعاني منها شخصيات الرواية؟.
وهناك جدته "مريم" الفلسطينية الذي استشهد زوجها "محمود" وهو يدافع عن قريته "صفورية"، وجدته "مريام" الناجية من المحرقة النازية، والتي تحسن عزف على البيانو، ورغم أن "إبراهيم/إبرا" حفيد لهما إلا أن الهوة التي تفصل بين "مريم ومريام" هائلة، بحيث لا يمكنهما الالتقاء/التوافق، لأن "مريام" تسكن البيت الذي هجرته "مريم" مكرهة، كما أن كلا واحده منهما تعتقد أن أبنها/ابنتها سرقت أبن/بنت الأخرى بهذا الزواج غير (الطبيعي).
"عنات" أخت "إبراهيم/إبرا" تأخذ مكانة رفيعة في الرواية حتى أنها تتوازى مع أهمية "مريم ومريام" وهذا يأخذنا إلى العقل الباطن للسادر، الذي كان صادقا في سرد روايته، فانحاز/اتجه إلى أخته ليفضي لها ما فيه من ألم ومعاناة، ورغم حالة الشجار العامة التي اتصفت بها علاقتهما، إلا أن حضور "عنات" كان يشير إلى المكانة والحاجة التي يكنها "إبراهيم/إبرا" لها، لهذا كانت حاضرة وبقوة في الرواية، وإذا عرفننا أن "إبراهيم/إبرا" لم يتزوج ولم يقيم أية علاقة مع أية مرأة، يمكننا الاستنتاج أنه اكتفى بعلاقته بأخته "عنات"، واعتقد أن تغيب كل الشخصيات المحيطة ب"إبراهيم/إبرا" من خلال الموت وإبقاء "عنات" المتبقية الوحيدة يؤكد على أن السارد يسرد روايته من العقل الباطن أكثر من حالة الوعي، وإذا أخذنا الكيفية التي تناول فيها السارد الذكور نجدها بهذا الشكل، استشهاد جده "محمود" وهو يدافع عن صفورية، وموت جده "آدم" أثناء مواجهته للفدائيين الفلسطينيين، ثم استشهاد صديقه وملهمه الفكري "عيسى أبو سريع"، ثم موت أباه "إلياس/إيليا"، فكل الذكور ماتوا في الرواية، وهذا يتماثل في طريقة تعامل الأديب العربي مع الآباء/الذكور، فهم غالبا ما يتم تغيبهم، أويتم تقديمهم بصورة سلبية، وإذا تقدمنا من الأحداث الرواية نجد أن موت الأب أو الزوج كان ينعكس سلبا على المرأة/الزوجة، فبعد موت محمود وآدم وإلياس عانت كلا من "مريم ومريام وشلوميت" حتى ان شلوميت/سلام" توفت مباشرة بعد رحيل إلياس/إيليا" وهذا ما يجعلنا نتأكد أن السارد ينحاز لنساء، لهذا قدمهن كضحايا يتعرضن للألم بعد رحيل رجالهن.
شخصيات الرواية
"إبراهيم/إبرا"
الشخصية المحورية في الرواية، وكل الأحداث والشخصيات مرتبطة بها، وإذا أخذنا مجرى أحداث الرواية وانعكاسها على شخصياتها نجدها بمجملها عاشت المعاناة، وبما ان "إبراهيم/إبرا" انتاج لها فأنه سيحمل همومها وألمها، لهذا هو يتحمل العبء الأكبر في الرواية، ويتعرض لضغوط من كافة الجهات، فكان يعاني كإنسان وكفلسطيني أجبر على ترك وطنه، وكيهودي عاش المحرقة وعرف المعناة والقهر، لكنه في ذات الوقت يمارس عقلية (المنتصر) على أعداءه، فيبطش بهم ويهجرهم من بيوتهم، يفتتح السارد حديثه قائلا: "ربما تساعدني العزلة في تفكيك طلاسم روحي المبعثرة، بعدما سكنتها لعنة لا أدري كيف أصفها،... لعنة اسميتها تعدد الهويات وأزمة الانتساب... مشكلتي هي اختلاط الأزمة أنا ابن المكان وثمرة كل الأزمنة... مأساتي من نوع أخر أنها صراع الهويات، وأزمة الانتماء، فمن أنا وإلى من أنتمي؟!" ص13و14، مثل هذه الفاتحة المضطرب تفتح فضول القارئ لمعرفة أسباب أزمة السارد، فهو يتناول مسائل في غاية الأهمية "تعدد الهويات" والتي يعاني منها حتى القارئ العادي، ذلك الذي يعيش مواطنه كاملة ويحمل جنسية وطنية، فما بالنا عندما يحمل الشخص هوية فرضت عليه فرضا، ولا يشعر بأنها هويته الوطنية/القومية؟، أو لشخص يعيش مقسوما بين ولاءين/انتماءين/حياتين؟.
يقدمنا السارد اكثر من مشكلته "تعدد الهويات" فيقول: "أحببت المريمين: العربية واليهودية، جدتي اللتين أغدقتا علي حبا وسط الكراهية... مع أنني مرغم على القول إنهما كانتا ضحيتين تناوبت عليهما الفجائع" ص17، اهمية هذه المعلومة انها تقدم القارئ أكثر من الرواية، فهي تأخذه إلى حب الاطلاع والتعمق لمعرفة تفاصيل أكثر عن الجدتين، وهذا الأسلوب في السرد يحسب للراوي الذي عرف كيف يجذب القاري للرواية.
الجدتان "مريم ومريام" يمثلان حالة الصراع على الأرض وعند "إبراهيم/إبرا" لهذا نجد حضورهما في العديد من فصول الرواية: "اعتادت مريم كلما رأتني أن تغمرني بأحضانها، ثم تمطرني بسيل من القبلات، وتغني لي بعض الأغنيات من ذاكرتها البعيدة، بعدها تقص علي حكايات أسطورية، لا تزال محفورة في ذاكرتي، ولا ألبث حتى أغفو بين ذراعيها.
أما مريام، فقد تأخرت في التقاط ذبذبات محبتها لي، ولم ألفها سريعا، ولم أفلح في التخلص من شعوري بالنفور منها إلا بعد مرور وقت طويل، مع أنني كنت احب شكلها وهندمها وعزفها على البيانو" ص93، إذا ما توقفنا عند طريقة الحديث عن "مريم ومريام" نجد السارد يتحدث كثيرا وبإسهاب وبمحبة عن مريم، بينهما حديثه عن "مريام" أقل، ونجده فيه "تأخرت، لم ألفها، لم أفلح" وهذا يأخذنا إلى العقل الباطن للسارد الذي ينحاز لمريم أكثر من مريام، فلو أخذنا طريقته في الحديث عنهما، وأخذنا الألفاظ المجردة نجدها لصالح مريم، "فمريم" أهم من "مريام" وافضل منها، ويأخذنا الحديث عن "مريم" إلى العلاقة المحمة التي تربط "إبراهيم بمريم"، فحبها له نجده في "تغمرني، بأحضانها، تمطرني، القبلات، وتقص، وتغني" هذا الوصف متعلق بالعلاقة الروحية وبالسمع، فالغناء والحكايات لها علاقة بالسمع، بينما علاقته مع "مريام" متعلقة بالمشاهدة/النظر، لهذا ذكر هندامها وجلستها للعزف على البيانو، ولم يحدثنا عن أثر سماعه للعزف، وكلنا يعلم ان السمع أهم من البصر، فيمكن للمرء أن يتألق ويبدع وهو فاقد البصر، لكنه من الصعب أن يبدع وهو فاقد السمع، وهذا ما يأخذنا إلى العقل الباطن للسارد، الذي يقول ـ بطريقة غير مباشرة ـ أن ابداعه في سرد الرواية ناتج عن مريم وليس عن "مريام".
حالة ازدواج الجنسية تجعل الإنسان معلق، لا هو مقبول من هذا الطرف ولا من ذاك، فقد تعرض "إبراهيم/إبرا" للمضايقات من الطرفين، من الفلسطينيين: "...أحد التلاميذ متسائلا بازدراء أنت ابن اليهودية؟" ص95 ومن اليهود: "... يغمغم بكلمات لم افهمها والتقط حجرا وقذفني به، ولم يلبث الأخرون أن تسارعوا بقذفي بالحجارة، ما التقطه مسامعي: عربي ... عربي" ص95، اعتقد أن هذه المعاناة تشير إلى ضرورة حسم أمر الجنسية/الأصل، وكأن السارد من خلال هذا المشهد يقول أن كل (مخلوق) يأتي بطريقة (التزاوج غير الطبيعي) سيكون مشوه، ولن يقبله الأخرون، ولن يعامل بطريقة سوية، وسيكون وجوده مثير للمشاكل/النزاعات، فهو يدعو ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى عدم حدوث هذا (التزاوج) الهجين.
السارد الذي تعلم الحكمة من حكايات جدته "مريم" انعكست على سلوكه وعلى تعامله مع أهله: "...مع الوقت تعلمت كتمان مشاعري كي لا اسبب أي ضيق لأمي" ص97، فالمحافظة على مشاعر امه مرتبط/ناتج عن جدته مريم، فهي من قصت عليه الحكايات وغنت له.
يحلل لنا "عيسى/أبو سريع" الحالة التي يعيشها "إبراهيم/إبرا" بقوله: "...في حالة انتمائك الإنساني والأخلاقي، فإنك لا ترى بمريام سوى مستوطنة مغتصبة.
أما مريم فلن تجدها سوى ضحية، وفي هذه الحالة، لا يمكن أن يتساوى الحب والاحترام لكلتيهما، وإلا فإنه سيكون خلل أخلاقي وليس خللا جينيا! وأحسب أن عقدتك تبدأ من هنا لمن ستنحاز؟ لمريم أم لمريام؟ أما هروبك من مواجهة هذا السؤال الحاسم فهو اشبه بسلوك النعامة التي تدفن رأسها بالرمال، إذن عليك أن تواجه ذلك بكل شجاعة، أما التظاهر بعدم الاكتراث وتصنع الحيادية، فإن ذلك هو جذر المشكلة" ص147، اعتقد أن دخول "عيسى/أبو سريع" (على الخط) أراد به السارد كشف حقيقة معناة "إبراهيم/إبرا"، فهو لم يكتفي بما سرده "إبراهيم/إبرا" عن نفسه، فالسارد "إبراهيم/أبرا" لا يعي طبيعته/معاناته/مشكلته، فكان مجرد شخص يعاني ويتحدث عن معاناته، لهذا كان لا بد من كشف هذه المعضلة/المعاناة واسبابها ودافعها من خلال حديث "عيسى"، وأهمية ما قاله "عيسى/أبو سريع" تكمن في هذا الحدث: "... بل تقدمت خطوة حين التقطت الحجارة أسوة بالمتظاهرين، وأخذت بإلقائها على قوات الجيش، وهتفت مع الهاتفين. تملكني حينها سعادة عارمة، واحسست بنشوة الانتماء.. أجل، كانت لحظة فارقة عندما غمرتني تلك المشاعر المتوثبة، وأحسست في تلك اللحظة بانتمائي العميق لهذه الجموع الغاضبة التي تدافع عن حقها في الوجود، ما كنت أعاني لحظتها من أية عقدة في الانتماء، التي لازمتني منذ طفولتي" ص150، إذن التسلسل والتتابع المنطقي في الأحداث يعد احدى العناصر الابداع في الرواية، ولم يكن دخول "أبو سرع" من باب الحشو او الطرح المباشر، بل له وجود عضوي في بناء الرواية، وفي تناول شخصية "إبراهيم/إبرا".
رغم هذا التفاعل العضوي والذي استراح به من وخلاله "إبراهيم/إبرا" إلا انه لم يكن كاف لتخلصه من ازدواجية الانتماء، هناك احتفاء عند اليهود بالاستقلال، وفي ذات الوقت هناك ذكرى النكبة عند الفلسطينيين: "...سأحاول اتخاذ قرار حول المشاركة من عدمها في فعاليات الغد، فعاليات الذكرى الخمسين لاحتفالية (استقلال إسرائيل) وفاعليات الذكرى الخمسين للنكبة" ص157، رغم الطهارة والصفاء الذي حصل عليه "إبراهيم/إبرا" بعد مشاركته في مواجهة الجيش، إلا أنه يتقهقر ويعود إلى حالة المعاناة وصراع الهوية، فهو يقول بطريقة غير مباشرة ـ بضرورة حسم أمر الإنسان وعدم البقاء في منتصف الطريق، فإما أن يكون هنا وأم هناك، ولا داعي لوجود أو البقاء في هذا الصراع.
وجود "مريام" في حياته له أثره في الصراع، وكان لا بد من حسم أثر هذا الوجود في حياة "إبراهيم/إبرا": "كنت في تلك اللحظات، احسم تدريجيا مسألة الانحياز والانتساب، لم يكن منطق مريام مقنعا، كنت منحازا بكل جوارحي لمريم ومنتسبا لمأساتها، أجل، كانت مريم الضحية في هذه المعادلة، ووجدت نفسي انتمي للضحية، غمرني شعور بالارتياح، ها قد بدأت أحسم أمري، أنا انتمي للحق، ولا أنتمي للباطل الذي يرتدي قناع الحقيقة" ص198، عندما حدثنا عن مريم ومريام وجدناه يميل إلى الحكايات والغناء، السمع، ولم تبهره صورة مريام وثيابها الجميلة ولا جلستها المتحضر وهي تعزف على البيانو، وها وهو يؤكد من جديد على هذا الأمر من خلال تعلقه بالروح/العاطفة/مريم، ويبتعد عن الصورة/قناع الحقيقة، هذا التكامل والتواصل في المشاعر يؤكد على وحدة وقناعة السارد بما يشعر/يتكلم به، فهو صادق بما يقول، ما يتحدث به، لأنه خارج من العقل الباطن كما هو خارج من حالة الوعي، فلو كان هناك (كذب/زيف) في قوله لوجدناه بين الكلمات، أو في تناقض الفقرات، لكن "إبراهيم/إبرا" الذي عرف المعاناة من خلال "مريم ومريام" وعاش الظلم والقهر مع "مريم" التي كانت ترى وطنها/بيتها ولا تستطيع ان تزوره أو تصل إليه، جعله يحسم امر الانتماء.
لكن الإنسان ليس ماكنة/آلة بل هو نسيج علاقات اجتماعية وإنسانية، ويتأثر بما هو العام وما هو شخصي، فهل يستطيع هذا (الحسم الفكري) أن ينهي مشاعر الحب تجاه "مريام" وكأنها لم تكن في حياة "إبراهيم/إبرا"؟، يجيبنا السارد بقوله: "كان قلبي مكتظا بالحزن والغضب والارتياح، حتى غادرت بيت مريام، مشاعر متناثرة، لا أدري كيف أصفها! حسنا، كنت حزينا، لأنني تشاجرت مع الجدة مريام، وأن العلاقة معها باتت مشحونة بالتوتر، وأجهل كيف ستنتهي العلاقة معها، وكنت غاضبا، لان المشاجرة كانت بالغة الحدة معها، وربما كنت غاضبا من نفسي، لأني سمحت لها أن تكون حادة في حضرة مريام.
أما الارتياح، فمبعثه هو تحرري من خنوعي، وانكسار صوتي، وحيرتي وتذبذب مواقفي التي دأبت عليها" ص199، في هذا المقطع نجد إنسان بكل معنى الكلمة، فهو يعرف كيف يفرق بين ما هو شخصي وما هو وطني/قومي، ويعرف كيف يحكم على سلوكه، ويحلل مشاعرة تجاه الآخرين وتجاه نفسه، كل هذا يجعلنا نتأكد أننا امام شخصية تعاني وتتألم، وتعرف معنى الألم والمعاناة، لكنها لا تنحرف بسلوكها، فلا تؤذي الاخرين رغم عدم سوية موقفهم وسلوكهم، ومثل هذا التوازن في السوك يؤكد على كمال الشخصية واتزانها سلوكيا وفكريا.
وهذا الموقف الإنساني نجده عندما حدثنا عن علاقته بأخته "عنات": "بيد أنني لا أشعر بأي عدائية تجاه أختي عنات، إنها أختي الوحيدة حتى لو كنا في معسكرين مختلفين، ومتعاديين، ولكن كيف سيكون بمقدوري إفهامها أن علاقتي بها شيء وانتمائي لقضيتي شيء آخر؟ كيف لي أن أحل هذه المعضلة التي استأثرت بي، واسدل الستار على حياتي السابقة التي طالما واكبها الشعور بالضياع؟ كيف لي أن ابارح هذه المنعطفات وأوصد الباب نهائيا على حالة الاغتراب التي لازمتني طوال السنوات الماضية" ص219، مثل هذا الألم يؤكد على إنسانية "إبراهيم/إبرا" وعلى صفاءه الاخلاقي، فهو يعرف كيف يفرق بين ما هو شخصي وبين ما هو وطني/قومي، ويفكر بالآخرين كما يفكر بنفسه، فهو ليس جلادا، ولا يلعب دور الضحية لمارس/يبرر بطشه وقسوته على الآخرين، وكأنه بهذا السلوك السوي يرد على منطق "مريام" التي بررت وجودها في صفورية وفي بيت "مريم" بسبب اضطهادها من الآخرين، "فإبراهيم/إبرا" يتعرض لاضطهاد/معاناة مزدوجة، من الدولة التي احتلت أرض جدته مريم، ويعاني من مواجهة أهله "جدته "مريام" وأخته "عنات" ومع هذا يبقى متماسك إنسانيا ومحافظ على سلوكه وأخلاقه وتفكيره ومشاعره، كل هذا يجعلنا نتوقف متفكرين بالطريقة التي قدمت بها "مريام" مأساتها وسبب وجودها في أرض ليست لها، وفي بيت احتله غصبا، فهي لعبت/استخدمت دور الضحية لتكون وتمارس دور الجلاد، ولتبرر لنفسها سبب وجودها في أرض وفي بيت ليسا لها.
الألم النفسي الذي يعرض له "إبراهيم/إبرا" قاسي وشديد، فهو يعيش حالة الصراع الإنساني والوطني/القومي معا، ومع هذا أخلاقه وتفكيره تبقى محافظة على نقائها، يصف هذا الألم بقوله:
"هذا جناه أبي علي وما جنيا على أحد.
فأنا أشبه حال هذا الشاعر، ليت أبوي لم ينجباني، ليت شلوميت استأصلت رحمها قبل ولادتي، فأنا لا أرغب في إنجاب أبناء للحياة كي لا يعيشوا مأساتي، لن تصدقي لو قلت لك إنني أخشى ملامسة امرأة، أخشى الارتباط، وأخشى صخب الأطفال وأخاف الاختلاط بالناس، لقد أصبحت عقدي مستعصية على الحل!" ص243، فالسارد من خلال هذا الألم يدعو القارئ لعدم الاقدام/العمل على فعل غير طبيعي/سوي، لأنه سيكون له أثر سلبي على الفاعل نفسه وعلى الآخرين، فيكون الضرر مزدوج ومتشعب، كل هذا يجعلنا نتأكد ان الفكرة الأساسية تتمحور حول الزواج/الجمع بين المتناقضات لا يمكن ان ينتج عنه شيء طبيعي/سوي، فالمقدمة الخاطئة تؤدي إلى نتيجة خاطئة، والبداية العرجاء لا يمكن ان تُوصل إلى الهدف.
يستمر "إبراهيم/إبرا" في نهجه الوطني/القومي ومفهومه الاخلاقي محدثا توازنا بعلاقته مع أخته "عنات" المتبقية الوحيدة من أرث "مريام وشلوميت" مؤكدا على أنه إنسان وليس كائن فضائي بلا مشاعر: "...أنا اعترف أن أمي سلام وأبي إلياس لم يكونا يستحقان هذا الجفاء من جانبي مهما بلغت المبررات، وصار لزاما علي وعلى عنات التشبث ببعضنا بعضا كإخوة ـ أننا في معسكرين متعاديين ـ ما أغرب هذه الحياة! شاءت لنا الأقدار أن نكون أخوة أعداء، ... ندنو وننأى، تعبس وتضحك، نتشاجر .. ثم نعود ونتصالح، هي أختي الوحيدة، ومع أنها في المعسكر الآخر، فإن الاحساس الإنساني الوجودي كان أعمق من أي شيء آخر" ص250، فيما سبق يكون "إبراهيم/إبرا" قد وصل إلى حسم موقفه وأصبح شخص كامل يعرف الفرق بين ما هو شخصي وبين ما هو قومي، وعندما ابدا مشاعره ورأيه في أبواه "إلياس وشلوميت" كان يقول أنهما مارسا قناعتهما في خلق حالة سلام على هذه الأرض، لكن الواقع/الناس لم يسمحا لهما أن يكون سلاما عاما وشاملا، فالحواجز كبيرة، والتناقض في الأفكار وفي السلوك لم ولن يسمحا بوجود الحياة الطبيعية والسوية، بهذا الاكتشاف عرف "إبراهيم/إبرا" كيف يحدد علاقته بأخته "عنات" وأستطاع أن يبقيها إلى جانبه كأخت، يحتاجها إنسانيا كما تحتاجه، فهل هناك دليل أكبر من هذا على استحالة وجود سلام/حياة طبيعية بين المتحاربين على أرض فلسطين؟.
"مريام" كانت تعد الحاجز الأصعب امام تحرر "إبراهيم/إبرا" لهذا عندما تجاوزها كان من السهل عليه مواجهة أبواه "إلياس وشلوميت": "ماذا يعني زواجكما في ظل هذا البحر من الكراهية المتلاطمة الامواج؟ ماذا يعني إنجابي وإلقائي وسط هذا البحر الذي طفقت أسبح وسط أمواجه باحثا عن شاطئ للأمان، ولا أخال أني سأعثر عليه؟... إن محاولاتي لأكون مثلكما محايدا ومسالما ومتعايشا باءت بالفشل، وخلقت مني إنسانا معاقا ومعطوبا في الهوية، ويعاني فصاما في شخصيته: تارة أنزع للانتماء للعرب، وتارة أنزع ناحية اليهود، وفقدت القدرة على بناء شخصيتي المستقلة، وأفتقد القدرة على اتخاذ لو قرار صغير" ص202و203، رغم الوضوح في قول "إبراهيم/إبرا" إلا أنه جاء بطريقة غير مباشرة ـ من خلال السرد الأحداث ـ وطرح ضرورة تحديد الهوية، وعقم الزواج الهجين، يشير إلى أن كل عمل/فعل لا ينسجم مع الواقع/الحقيقة لا يمكن ان يدوم/يستمر بالبقاء بشكل طبيعي وعادي، وما وجوده إلا حالة مؤقتة، أو لوجود حالة غير سوية/طبيعة تجعله موجود، هذا القول يلخص رؤية "إبراهيم/إبرا" للصراع الفلسطيني الصهيوني، فهو صراع لا يمكن أن ينتهي إلا بإنهاء مسألة الهوية، أما أن تكون فلسطينية عربية، أو يهودية صهيونية، فالجمع بين هذين المتناقضين لا يمكن ان يكون طبيعيا، ولا يمكن أن ينتج عنه شيء سوي.
وهذا ما طرحه "إبراهيم/إبرا" بعد وفاة "مريم ومريام": "أنا لست حفيدهما المشترك فحسب، بل أنا بؤرة التقاء الأزمنة والأديان والتاريخ والصراعات، أنا الجسر الذي لو أمكنهما عبوره لكان التاريخ يدخل حقبة أخرى مغايرة!" ص234، حسم طبيعة الصراع في فلسطين، فليس ولن يكون هناك لقاء/حياة طبيعية بوجود اليهود الصهاينة والعرب الفلسطينيين في فلسطين، هذا ما أكده "إبراهيم/إبرا" فهو لم يقدر أن يجمع جدتيه معا، لم يستطع أن يكون وسيطا بينهما، رغم انهما يحبانه أكثر من "إلياس وشلوميت، فكيف يمكن ان يجتمع اشخاص مختلفين، لا يربط بينهما رابط أو لا يوجد ما يجمع بينهم؟.
يتقدم أكثر "إبراهيم/إبرا" من حقيقة وواقعية الصراع في فلسطين فيقول: "ما هي الصراعات؟ الحروب العبثية؟ نحن على هذه الأرض؟ من نحن؟ نحن شعبان أشبه بهاويتين، هاوية تحدق في هاوية، وتكن لها كل الكراهية والعداء، وهاوية تحدق في السماء، ولن يكون مصيرنا سوى البقاء في الهاوية السحيقة" ص245، إذن هذه هو الواقع على الأرض، لا يمكن أن يكون هناك جامع بين الفلسطيني والصهيوني، ولا يمكن أن تجمعهما مصلحة واحدة، فأحدهما ينفي الآخر، ووجود أحدهما يعني معاناة الآخر، هذا هو الواقع على الأرض.
الرواية من منشورات دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2020.