دراسة في شعر طلال الغوار بقلم:د. باسل مولود
تاريخ النشر : 2019-10-03
نبذة تعريفية عن الشاعر:

ولد الشاعر طلال الغوار عام ١٩٥٣، في تكريت ، أكمل دراسته الابتدائية في القرية ثم انتقل إلى مدينة تكريت مع عائلته، ليواصل دراسته ، أكمل دراسته الجامعية في بغداد، حاصل على شهادة البكالوريوس في اللغة عربية ، وللشاعر العديد من الاصدارات ومن اهمها هي :

١.السماء تتنفتح في أصابعي _ دار الشؤون الثقافية العراقية.

٢.حرريني من قبضتك _ دار رند بدمشق _٢٠١١.

٣. احتفاء بصباحات شاغرة _ عن دار بعل .. دمشق ،والطبعة الثانية عن دار أمل الجديدة.. دمشق ٢٠١٧.

٤. أول الحب.. أول المعنى _ عن دار بعل بدمشق بطبعتين الاولى ٢٠١٦ ، والثانية ٢٠١٧.

كتب عن تجربته العديد من الأدباء والنقاد بعدما نالت استحسان العديد منهم ، وقد تم ضم معظمها في مطبوع ، حمل عنوان ( مدارات عن تجربة الشاعر طلال الغوار) والصادر عن دار الابداع_ تكريت ٢٠١٣.

نشر العديد من المقالات الثقافية والسياسية في الصحف والمجلات العراقية و العربية.

·          *     *    *

البناء والدلالة:

للبناء في المعاجم اللغوية دلالة فهو يدل على الشيء المنجز، والمتحقق في الوجود، وجمعه أبنية،والبناء بالمعنى المتقدم لا بد ان يتكون من شكل ظاهر للعيان، سنطلق عليه: البناء الخارجي، وشكل آخر غير ظاهر إنما يعكسه الشكل الخارجي ويدل عليه، وسنطلق عليه: البناء الداخلي. وربما يقترب هذا الفهم لبناء القصيدة من مفهوم تشومسكي في البنية السطحية والبنية العميقة،على أن التمييز بين دلالتي البناء الخارجي أو الداخلي أو دلالتي المنجز والاجرائي السابقتين، لم يكن واضحاً تماماً عند اصحاب المعاجم اللغوية،

وبناء على ما تقدم، ونتيجة لاختلاف مفهوم البناء، وتمايز دلالته بين شكله الخارجي أو الداخلي، وآليات تكوينه، سنناقش دلالة البناء للنصوص ذات العلاقة بالشاعر (طلال الغوار ) حيث نقول أن شاعرنا يجيد استخدام المفردة اللغوية ويضعها في مكانها المناسب.ولنا في هذا دليل وشاهد نموذجنا الأول (قصيدة جدليات) (امشي بعيدا،حتى أقاصي الروح، وتشبه بجبل ،ودع على سفوحه،تنحدر على أحلامك الفائضة، ماجدوى كل هذه الطرقات،وكلماتك لا تترجل،وتسير أمامك،أضلوا الطريق الى السماء،لكن العاشق وحده يفتتحها،بوردة حمراء)

أستهل الشاعر قصيدته (جدليات ) بفعل مما جعل الايقاع سريعا وبلغة ثرة ؛ غنية جميلة سليمة ،فضلا على حيازة هذا النص درجة عالية من الشعرية ،وكما هو معروف فقد اهتم النقاد بالشعرية واعتبروها هي هوية الإبداع الشعري، وهي العلامة الدالة على الانتماء إلى دائرة الشعر،تحرى وادرك الشاعر الغوار كثيرا في تعامله مع اللغة،كي لا ينجرف مع لغات أخرى تبعد عمله من صفة الشعر ولكي يقدم نصوصه على طبق مرصع بالمفردة الغنية الحية والمتشظية المعاني وفي قصيدة اخرى يقدم لنا نموذج آخر (الشموس مضيئة ياصديقي،ولكنها لم تعد دافئة،فيما النهر، يعزف أوجاعنا) تألق الشاعر بانتقاء الألفاظ التي تحمل المعاني الغنية بمدلولاتها الرمزية والتي ألقت بظلالها على النص وجعلت منه نصا مائزا ؛ مؤثرا، وحتى تتميز لغة شعر ديوانه((إحتفاء بصباحات شاغرة)) بسمو  خصائصها الفنية التي من شأنها إثارة تلك الخواص وتعميق مدلولاتها، وتنظيم سياق ألفاظها وجملها وتوسيع نطاقاتها الصوتية والإيحائية، فجددت قرائنها وأغنت مجالاتها التعبيرية مماجعل من القصيدة مادة ثرية أغنت القارئ بأفضل الصور البهية وهنا لابد من الاشارة إلى أن نأخذ بنظر الاعتبار أنه لا يمكن أن تكون كل لغة مادة صالحة للشعر، "لأن لغة الشعر متميزة وذات خصوصية؛ لأنها لغة إيحاءات، إنها تقف على نقيض اللغة العادية أو لغة العلم التي هي لغة تحديدات ولغة الإيضاح.وهذا نموذج آخر للتوظيف اللغوي الرائع للشاعر (نبتت بين أصابعنا الكلمات،ونحن نخضب أرواحنا بالحلم، وبنداء الأقاصي،فيومئ إلينا النهر،كانت تحتفي،بنا خطواتنا،فتغذ كلماتنا في صباح طويل...))حمل هذا النموذج بمعانٍ واسعة ساعدت في تكثيف لغته وتشظي دلالته الرمزية،فضلا عن ذلك تميزت هذه القصائد عن غيرها، حملت أكثر من وعاء لحمل المعاني،وأكثر من وسيلة للتعبير عن الأفكار. فهي المعنى نفسه. بحيث تحولت إلى مقصد أساسي في اغلب قصائده ، واخص بالذكر منها قصيدة (تشرقين في قصائدي ،وطفولة،والنهر ،وجدليات،وإنهم مهزومون وقصائد اخرى )،وإحالة لغة قصائده هذه إلى هدف مركزي في العملية الإبداعية، ولم تكن وسيلة لأداء شيء ما،وارتبطت لغة الغوار بسعة ثقافة الشاعر و عمق مرجعياته الفكرية وحملت بدسامة وعلمية العوامل الذاتية والموضوعية لجل أعماله التي ساهمت في تجاربه الشعرية، وكانت تمثل ترجمان لتصوراته وحساسياته، كما أنها حملت صورة معبرة عن انشغالاته وهمومه الفكرية والنفسية والاجتماعية

وفي هذا النص (إنهم مهزومون )تتجلى معانٍ اخرى وجميلة لشاعريته ((إنهم بشر من ظلام ،دخلوا قتلوا،دمروا ،وبشراهة اللصوص،انتزعوا الخضرة من الأشجار ،فاتسخت بهم الصباحات ،اتسخت بهم الانهار ) يالجمال الصور وبهائها في هذا النص،وكانت هنا ذات معانٍ متشظية دلت على أن شاعرنا كان دقيقا وحصيفا في الاختيار والانتقاء بين الألفاظ ساعيا وراء ما يمكن أن يخدم مقصديته، وقدم صورة تقريبية لما يعتمل في ذهنه وأعماقه. وهكذا اتت اللغة الشعرية في ديوانه منسجمة مع السياق النفسي ومع التجربة الداخلية له.كما أنها أتت منسجمة مع السياق الثقافي العام، ومع الاختيارات الفنية والجمالية التي أقرها المجتمع الأدبي، واستساغها الذوق الفني السائد؛لأن طلال بقى دائما إبنا وفيا لبيئته، ولسانا صادقا حاملا لرؤية المجتمع التكريتي الثقافي الذي ينتمي إليه. ولذلك تجد اغلب تجاربه الشعرية منتمية لسياق تاريخي أو ثقافي لمدينته تكريت الذي قضى ثلثي عمره فيها ، قد انطبعت بالطابع الفني الذي تميز به ذلك السياق. فحملت قصيدته آثارا بارزة وبصمات واضحة لما تم تكريسه وتثبيته في أغلب أعماله ويعد الغوار من الشعراء الذين يوظفون اللغة الشعرية بطريقة علمية فنية حصيفة وتحمل رمزية عالية متشظية في مجال الابداع

الصورة في شعر طلال الغوار

تأتي الصورة في أغلب قصائد طلال الغوار على شكلين : الصورة الجزئية والصورة الكلية . ونعني بالصورة الجزئية تلك التي تنطوي غالبا على مشهد واحد ومناخ واحد ، ((جسرك الممتد من قلبي/إلى رصافة أحلامك))، ولا تقاس هذه الصورة بقلة كلماتها ، فقد تمتد لأكثر من سطر شعري ، وقد تكون من ثلاثة كلمات ((تصغي إلى نزيف الكلمات/وتقلبني حرفا حرفا). والكثير من الصور الأخرى ، مثال آخر لتلك (تأبط صباحي المزعوم ،ويفتحون طريقهم إلى الشمس ) ففي الأولى يترقب ذلك الصباح وفي الثانية يتأمل قدوم الصباح السعيد المفعم بالمفرح والمحمل بالبشارات وهناك صور اخرى ،أما الصورة الكلية فتعني الصورة التي تضم عددا من الصور الجزئية التي تكونها . وهي يمكن أن تمتد بامتداد النص ، كمـا يمكن للنص أن يتكون من مجموعة من الصور الكلية .

ولعل تسميتنا للشكلين المذكورين نابعة من موقع الصورة ضمن النص ومن طبيعة اللغة ذاتها .فقولنا : صورة جزئية مأخوذة من الجزء ، والجزء يكوّن الكل ، كما أن هذا الشكل مكوّن من مجموعة من الكلمات ، وقولنا : صورة كلية مأخوذة من الكل الذي تكونه أكثر من صورة .

ومن خلال ملاحظة دقيقة للصورتين الجزئية والكلية يمكن ملاحظة ما يلي :-الصورة الجزئية تقدم حالة واحدة في مشهد واحد ((تلم شظايا غنائك المتكسر)هنا كونت لنا صورة جزئية واحدة، مكون من شعور واحد . أما الصورة الكلية فتحتوي أكثر من مشهد ، وأكثر من حالة ؛ لأنها مجموعة من الصور الجزئية المندمجة .كمافي (أمضِ بعيداً ،حتى أقاصي الروح ، وتَشبه بجبلٍ ، وَدع على سفوحهِ، تَنحدر أحلامُك الفائضة ، ما جدوى كل هذه الطرقات ، وكلماتك لا تترجل ، وتَسيرُ أمامك، أظلُ الطريق إلى السماء ، لكن العاشق يفتتحُها بورةٍ حمراء )....الصور الكلية الأخرى ( تفتح شُرفتها الكلمات ، فينسلُ وقع القصيدة ،العالم بين أصابع جدلٌ والمعنى صيادٌ وطريدة، سمة الصورة الجزئية التكثيف ، وتجاوز الزوائد ، ولهذا فهي تبدو للوهلة الأولى غامضة ، صعبة المنال ، بينما تكون الصورة الكلية أكثر تفصيلا ووضوحاً ، والوضوح هنا بمعنى وضوح الحالة الشعرية وليست بمعنى المباشرة؛ لأنها مكونة من مجموعة من الصور الجزئية فتداخل هذه الصور فيما بينها يؤدي إلى اكتمال الحدث ووضوح التجربة، لا تحتاج الصورة الجزئية إلى جهد المتلقي كالصورة الكلية ، فهي على الرغم من غموضها في بداية التلقي ، فإنه من السهل إعادة تشكيلها ؛ لأنها تتمثل بمشهد واحد وحالة واحدة ، بينما تحتاج الصورة الكلية إلى جهد كبير من المتلقي ليعيد تشكيلها ، ويتمثل مناخها ، ويتفاعل مع حدثها ، ولا يمكن لها أن تتكامل إلا إذا كان المتلقي جزءاً منها ، فهي تحتاج إلى خياله وحسه ، ليوحد بين الصور الجزئية ويعيش بعدها مع عطائها المبدع ،تحتاج الصورة الكلية إلى الوحدة العضوية ، ومن دونها يضطرب توازنها . فهي كل مكون من عناصر مختلفة ومتداخلة ، ولا يمكن أن يتم توحيد هذه العناصر إلا ضمن الوحدة العضوية بشروطها الإبداعية المتعددة .ففي هذه القصيدة الموسومة المنصور يسأل عن بغداد رسم الشاعر مجموعة من الصور الجزئية وهي مجموعة مشاهد عن مدينة بغداد وهي تتأسى بجراحها وكانت قصيرة غنية دقيقة مجموعة هذه الصور كونت لنا القصيدة الإجابة على جميع تساؤلات الشاعر مما جعل للقصيدة وحدة عضوية واحدة مما زاد من قيمة القصيدة الفنية

- الصورة الكلية تعد أيسر مدخلاً لدراسة الشعر من الصورة الجزئية . فاكتمال الحـدث وتكامل عناصر التجربة ،و انسجام المناخ لا يتم إلا عبر الصورة الكلية ، ودراسة التجربة الشعرية لا تتم إلا إذا كانت متكاملة . وهذا ما لاحظناه في قصيدة حرريني من قبضتك،وحرائق الكلمات،وتحد،ومرايا الغياب في ديوان حرريني من قبضتك، وفي كل الأحوال ، فالصورة الجزئية تؤدي إلى الصورة الكلية ، التي بدورها تؤدي إلى النص الشعري . ودراسة النص الشعري تستوجب دراسة الصورة الكلية ، وهذه بدورها تفترض أن تدرس الصورة الجزئية . وفي النتيجة فالعملية واحدة ، والتجربة الشعرية لاتجزأ إلا على سبيل الدراسة التحليلية لمنهجية طلال الغوار في بناء قصائده .

تم الاعتماد على المصادر التالية في المقالة:

١.الادب وفنونه، د. محمد مندور، دار نهضة مصر للطبع والنشر، مصر، ط2، د.ت.

٢.البناء الفني للقصيدة العربية، د. محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة القاهرة،

٣.بناء القصيدة الفني في النقد العربي القديم والمعاصر، د. مرشد الزبيدي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1994.

بناء القصيدة في النقد العربي القديم في ضوء النقد الحديث، د. يوسف حسين بكار، دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1983.

٤.حلية المحاضرة، الحاتمي، ابو علي محمد بن الحسين المظفر (ت388هـ) تحقيق جعفر الكتاني، المكتبة الوطنية، بغداد، 1979.