أبو العز.. سابقاً بقلم:جهاد الدين رمضان
تاريخ النشر : 2019-10-03
أبو العز.. سابقاً  بقلم:جهاد الدين رمضان


أبو العز.. سابقاً 

   من لم يعرف "أبو العز" صاحب مقولة (العز للرز و البرغر شنق حاله) لم يعرف أصول الطبخ الحلبي، مطعمه ليس في مركز المدينة بالضبط، لكن يقصده الذواقة من كل حدب و صوب، تراه يعمل على القدور طوال الوقت، هذا قدر البامياء الديرية و تلك للشامية ، و تلك قدر الفاصولياء "عيشة خانم" أو بلدية خضراء، و تلك قدر أخرى للبازلاء، و قربها قدر لوبياء صغيرة إرضاءاً لخاطر بعض الزبائن النباتيين، و أحياناً يطبخ على طلب الزبون ما يشاء. 

   و الأهم من هذا و ذاك هو قدر الرز الكبير، ذلك القدر النبع الذي لا ينضب، كلما نقص زاده بكمية تعادل النقص، يسكبها طازجة ساخنة شهية لذيذة فوق القدر، حتى تحسب أن القدر المليء أتى من المطبخ للتو، فطبق الرز خيار لا بدّ منه مع طبق الخضروات المتخمة باللحم، المعلم أبو العز لا يجبر الزبون على طلب طبق الرز، لكن رائحته الشهية و صورته البهية تجبر الزبون على طلبه و هو ممنون، و بعض الزبائن لا يطلب سوى طبق رز فاخر مع كأس عيران و بعض المخللات، و هذا دليل امتياز أبي العز في طبخ الرز، و سبب ترديده لمقولته الشهيرة شعار مطعمه :

(العز للرز و البرغر شنق حاله).

   شعار أبو العز لم يأتِ عن عبث، ففي عصر التطوير و التحديث طغت أكلات غربية غريبة على سوق الطعام الحلبي، و دخل الهامبرغر على قلوب معظم الحلبية كالهمّ، الهامبرغر الأمريكي هو "البرغر" المقصود في شعار ابي العز، و العم "ماكدونالد" جاء من أقصى البلاد لمنافسة "عيشة خانم" المدللة عند أبي العز، و جاءت الست "اندومي" لتقول لرز أبي العز كش ملك. 

   العز للرز، و السيد "كنتاكي" شنق حاله، و قبله حاولت "الشاورما" أن تقضي على الرز، فلم تتمكن من ذلك و عقدت معه الصلح، صار طبق الشاورما المدعوم بحفنة رز أطيب و ألذّ ، أما اللفافة (صندويشة الشاورما) بقيت ضعيفة بدون نشاء يدعمها كما في الرز، فتم دعمها لاحقاً ببعض "الشيبس".. لكن كل محاولات النيل من هيبة الرز، و لا سيما رز أبي العز، باءت بالفشل و تكللت بالعجز. 

   أبو العز (و هذا لقبه المشتق من اسم الدلع لابنه الكبير عبد العزيز) كان فعلاً يعيش أفضل أيام العز في حلب قبل تقسيمها إلى شطرين متعاديين، الشرقي عدو الغربي و بالعكس، ربّى أولاده بالدلال و العز، و وصلت أياديه البيضاء لكثير من جيرانه المعوزين، حتى القطط و الكلاب له فضل عليها لا تنكره. ركب أحدث السيارات، و اشترى بضعة عقارات، و بنى مزرعة في ريف حلب الغربي، و كان بصدد استثمار مطعم كبير في "ساحة الحطب" بعد شيوع موضة تحويل البيوت العربية القديمة إلى مطاعم و فنادق، دفع مال العقد و استلم الدار، و بينما هو يعمل على تحسين حالها بالترميم و التزيين، دخلت الحرب و منعته من إكمال مشروعه. 

   لم تقتصر خسارته على حرمانه من دخول ساحة الحطب التي تحولت بفعل الحرب إلى ساحة ركام و بقايا سخام احتراق الحجر و الشجر و فحم الخشب، صارت فعلاً "ساحة حطب" للحرب، خسر مزرعته غرب حلب التي تحصّن بها مقاتلون يقتلون اخوتهم و هم لا يعلمون، و خسر أولاده أيضاً واحداً تلو الثاني، باع ما تحته و فوقه و ما تحت البلاطة لكي يسفرّهم بعيداً عن شرور الحرب، استقر بعضهم في تركيا و بعضهم ركب البحر، و الحمد لله سلموا من الموت بالبراميل أو برصاص القناص أو بموج البحر. 

   بقي أبو العز وحيداً مع زوجته التي ماتت بعد عام من هجرة الأبناء بداء القهر، صارع مشاكل القلة و العوز في ظل إفرازات الحرب الكريهة، كان قد خسر كل شيء في نهاية عام ٢٠١٦، خسر أولاده و زوجته و مطعمه القديم في طرف مركز المدينة، و خسر سيارته في قذيفة مجهولة الهوية و المصدر، قعد في آخر الليل، توضأ بدموع القهر، و ناجى ربه بخشوع :

(اللهم يا رب السماوات السبع و رب العرش العظيم، اللهم يا ذا الوجه الكريم، أعوذ بك من الهم والحزن، و أعوذ بك من العجز و الكسل، اللهم لقد غلبني القهر و ركبني ذل الرجال، اللهم إني أعوذ بك من الجبن و الخوف، و أعوذ بك من غلبة الدين و قهر الرجال، اللهم إنك سميع مجيب). 
………………………………………. …………. 

   قيل بعد ذلك اليوم، أن أبا العز ألقي عليه القبض بالجرم المشهود، كان يسرق ربطة خبز و حبة بندورة و حفنة رز، فالعز للرز مهما كان الأمر، و قيل بل شنق أبو العز حاله و ترك الرز في سبيله، بل قيل لا هذا ولا ذاك، أبو العز مات من القهر و العجز، كان ابنه عبد العزيز قد طلب منه بعض المال إثر تعرضه لحادث سير في تركيا، فعجز أبو العز عن تأمين أي قرش، وجدوه يسبح ببركة من الدم، بعد أن طعن نفسه و كتب بدمه على جدار بيته الآيل للسقوط :

(من هنا مرّ أبو العز.. سابقاً) 
………………………………………… 

   صباح أمس حلمتْ زوجتي بإبننا الصغير "نضار"، استفاقت قبلي على صوته يوقظها لسبب مهم، في المساء اتصلتْ به و كان في ضيافة أخيه الكبير "شهد"، صاحت لي لأتحدث معهما، سلمت عليهما و حاولت ممازحتهما فما استطعت، غالبت حزني و غصّتي بقهر و هربت إلى عالم الفيس بوك، رأيت العوز و العجز في وجوه كثيرة، فهربت إلى عالم الأحلام في النوم باكراً، و في تلك الليلة حلمت بأبي العز، واساني في المنام و مسح على رأسي، و سألني ما بك تطفح بالحزن؟ 

قلت له : مو حزن.. لكن حزين. *

قال لي : لا حزن يصيب الوالدين أعظم من الحزن النابع من العجز. **

قلت له : صحيح، و لهذا قتلت نفسك؟ 

ضحك أبو العز و قال :

و إذا لم يكن من الموت بدٌّ 

فمن العجز أن تموت جبانا ***

_________________________________
جهاد الدين رمضان 
 فيينا في ١٧ آب / أغسطس ٢٠١٩ 

*العبارة من شعر مظفر النواب. 

**الكلام بين قوسين للكاتب الأمريكي بول بنجامين اوستر . 
***من أشعار أبي الطيب المتنبي المشهورة. 
و النص من محض خيالي و إن تشابه مع الواقع، و الصورة المرفقة لوحة من أعمال الفنان السوري المبدع همام السيد منقولة من النت المشاع .