النحت المعاصر والتجربة العربية المفهوم الرمزي للكتل وتصورات الفراغ
تاريخ النشر : 2019-09-23
النحت المعاصر والتجربة العربية المفهوم الرمزي للكتل وتصورات الفراغ


بشرى بن فاطمة

النحت المعاصر والتجربة العربية المفهوم الرمزي للكتل وتصورات الفراغ

تثير التجارب العربية المعاصرة في مجال النحت الكثير من القراءات لمفاهيم الرمز والعلامة والكتلة وتفاعلها مع العناصر في تصورات التشكل وتحولات التشكيل بين المادي التنفيذي والمعنوي التشكيلي والتعبيري المنجز في مستوياته المابعد حداثية وجوانبها الرؤيوية وتوافقها مع تلقي الواقع وتفسيره من خلال الفلسفة البصرية، لتثير عناصره وتكويناته.

 فكثيرا ما يستفز التفاعل مع النحت في التشكيل جوانب عديدة، أبرزها الفراغ والكتلة والتحكم في التعبير عن المفهوم، خاصة بتنوع التجارب ومداها التجريبي وبالأخص في اختلافات الواقع العربي من تجربة إلى تجربة.

فمن واقع النهضة والتغيير في بعض المناطق إلى واقع التهجير والحروب والفكرة والأدلجة في المناطق الأخرى تتكاثف الرؤى وتختلف المفاهيم التي ترتقي بتوازناتها وتتفعّل أكثر وأبعد في التصوّر التنفيذي الذي لا يختلف في جوانبه التطويرية للفن عن رقيّه الإنساني.

 *محمود السعدي  Mahmoud Al Saady

فتنوع التجارب والتجريد لا يخلو من مغامراته الرمزية والفكرية والاستشرافية لواقع أفضل وأوطان أكثر استقرارا وفنون أبعد في التجربة قادرة على التخلص من حدود الجغرافيا ومرجعياتها الكلاسيكية ودوافعها النفسية.

 *بسام كيرلس Bassam Kyrillos

فالعناصر التكوينية في المنجز النحتي ترتكز على تصورات الفكرة وضروراتها الثابتة فالفراغ يحرّك الكتلة ويخلق المساحة ويثبت القيمة الأولى في تفاعل الطبيعة والكيان الحضور والتشكيل والتواصل مع المحيط والذات ووجودية التعبير من خلال الرمزيات التي يخلقها، وبالتالي يتشكّل المنجز بتطويع تلك العناصر وتوظيفها لتناسب الواقع والمأمول وتندمج مع المتخيل لتبتكر الأسلوب الذي يسعى كل فنان لتثبيته في الحضور الجمالي والفني.

فالفراغ ليس مجرد تناسق فلسفي أو مجرد حيرة تفاعلية مع المسطح العام كمساحة أو مع الكتل كصقل وتشكيل وحفر وبحث عن فراغ مفروض أو فراغ مقصود بين زوايا الفكرة التي تمتد وتضيق تتجدّد وتنطلق أو تتجمّد وتتكبّل.

وهنا نستذكر بعضا من التجارب العربية التي عايشت الواقع وتحدّت الوقائع لتثبت أن الكيان الفني باق على الأثر وحاضر رغم التعتيم والزمن لا كمجرد تعبير مرحلي بل كمعايشة فعلية وإنجاز جمالي له أثره الإنساني.

خاصة وأن هذه التجارب بحثت في الطاقة المرئية والفلسفة البصرية لفكرة الفراغ والكتل ورمزياتها المفاهيمية والتوظيفية وأسلوبها التعبيري.

فالكتلة انفعال الفراغ المحسوس، والمفهوم تصوره المتخيل الذهني، والمنجز هو النتيجة التطبيقية التي لا تنصاع لقيم التشكيل فحسب بل تستدرجه نحو القراءة الجمالية التي تستفز الوهم للتلاشي.

نذكر تجربتي الفنان عزت مزهر وباسم كيرلس من لبنان باحتواء المفهوم وتفاعل القيمة الجمالية للتعبير عن الواقع بعتمته وآماله وتوافقات التغيير فيه خاصة وفي معالجة الأحداث والوقائع.

اعتمد عزت مزهر خبرته التجريبية التي استقت النحت وانتشلته من موازناته القيمية والكلاسيكية في التعامل مع العناصر من الفراغ الذي شكّل في حد ذاته فلسفة إلى الكتل التي حاكت وحكت تلك الفلسفة ورؤيتها ليكون التناسق والانسجام في عنصر التكوين والمنجز خفيف الحركة عميق الدلالات حريصا على اتّباع أثر البقاء وخلوده.

اعتمد مزهر على عمقه الفلسفي لتنويع تكويناته وعناصره فبين الإشعاع والانفعال والتكامل التكويني في المساحة مع الحفر والنحت تتوافق الخامات مع طبيعتها حتى تلبس عواطفه المرئية المتراكمة والمكثفة والمندفعة نحو اللامرئي بتفاصيله الداكنة وفق فلسفته وشعوره الموغل في الأسطورة ورمزياتها التعبيرية الواقعية.

 فأفكاره لم تنضب ولم تنفصل عن عطائه البحثي ومزيج التلقي والخلق الرمزي الذي تدافع مع الأرض والطبيعة في انعكاسات فلسفية مشفوعة بالمقاومة والتفاعل مع الجسد والكيان والموروث والوجود ليستنطق الحضور العميق من خلال الفراغ المحدث والتبادلي والعميق ليتجاوز التسطيح بالحفر والنحت ثلاثي الأبعاد ليعمّق حضوره.



*عزت مزهر  Izzat Mizher

أما بالنسبة لبسام كيرلس فالتجربة غارقة في مفاهيميتها وفلسفاتها التي تحيد عن تفسير العنصر الجمالي في تصوراته المعاصرة فهو لا يبحث عن التمثيل الكلاسيكي والتشابه مع المنجز بمثالية النحت والتشكيل والتكوّن معه بل يطرح من عمق واقعه أمثلته التي تعبّر عن الكون وفوضى الحروب اللاتوازن بين البشر إذ يتعامل مع النحت بأسلوب العمارة والبناء وهندسة الدوافع التشكيلية في عناصره فهو يحاكي المكان والانسان والجذور والانتماء للبنان بواقعها السياسي والعسكري والشرق بمخلفات التجاذب والصدام.

*بسام كيرلس 

فتكويناته تنطلق من الخامات من الحجارة والاسمنت لتشكل الفراغ من هندساتها وكأنها تستعين به لتمارس البناء الهادم وتشغله بالقضية الأولى لفوضى البناء المهدم كصدمة أولى تتراكم مع التوترات المتواترة والانفعالات المتقلّبة مع مزاج الحرب الأهلية وتداعياتها النفسية، وفي هذه التجربة يخضع لمنطق البناء والهدم وفق معايير بصرية فلسفية ذات رؤى وأبعاد ثلاثية يلتقطها المتلقي من زواياها المختلفة ليبحث في معانيها.

وفي مستوى ثان يقتبس من الأسطورة الفينيقية رمزية الفينيق ومن الموروث الديني الصليب والتضحيات وكأنه يلخص فيه واقع الشرق وفلسفة الوجود.

أما النحات الفلسطيني محمود السعدي فيتكئ على رمزياته التعبيرية المحاكية للواقع من خلال مفاهيم التواصل معه وكأنه يعيد سردها بصريا وتوظيفها فهو يوزّع في فراغات التوظيف والمنجز الذاكرة والحنين والمشاعر فيستغل الفراغ بمفاهيمه ليسرّبها بتوليفات ذهنية تعكس الطاقة المرئية التي تتحمل ما بعد الصورة في التوظيف المرئي ليُنطق من ذبذباتها علاماتها الرمزية من خلال الأسطورة والملحمة باسترجاع يندمج مع الأحاسيس المتنوعة التي تختزل التلونات والمشاعر بين الحزن واليأس يكون الصراع وكأنه يصور تناقضات الخير والشر في تكاثفات رمزية وانفعالية تبدأ من قضيته إلى الإنسانية وهو ما يبلور مواقفه ودوافع الاستمرار في تكوينات العناصر بين الفكرة والمفهوم والرمز والعلامة، وهي الطاقة التي تنطلق من البصيرة المتقدة للبحث عن منافذ الروح بإيمان بالخلاص.


*محمود السعدي  Mahmoud Al Saady

أما تجربة النحات السعودي نبيل نجدي فهي انسجام كامل متكامل بين توظيفات البيئة والموروث الشعبي والعربي وبين الواقع الإنساني وتطورات البقاء والنهضة والبحث والتطويع ومرونة الاسترسال في التعبير النحتي والعبور به نحو التشكيل الجمالي ليحوّل المنحوتة إلى قصيدة تحاول محاكاة الفراغ والرمز لتمتلأ بالفكرة وهي تستجدي الحضور الجمالي من الرؤى المستحدثة في الخامة ومدى طواعيتها أو في التكوين والالتفاف حول العناصر.

فأعماله تمزج الكتل والخامات وألوانها مع السطح المجرد للفراغ وتتفاعل مع حواسه البصرية ومضامينه الواسعة والممتدة الإنسانية والحروفية النحتية والتجريب التلويني على الصياغة التشكيلية في التوظيف النحتي ليتحوّل أكثر نحو جوانب التطبيق المعاصر على الفن بحيث ينطلق أكثر نحو المفاهيم وتداعيات الاستفزاز الفكري والذهني لحواسها التي بدورها تثير دوافع البحث في اختيار الرمز.

*نبيل نجدي nabil-najde

يتفاعل النحت مع الفراغ وكأنه يصارع سلطته ليثبت سيطرته ويقترح مدى الانشغال في تطويراته فالتجريب لا يقف عند اختلاف التجربة بقدر ما يقف عند تنويعها واستئصال الجمود من كتلها وترويض الفراغ على موازينها بخفة وثقل للتوصل لمعانيها وإعادة فهم المفهوم في أن الفراغ لا يخيف الطبيعة بل يستدرجها لقيمه ورمزياته وأحداثه وتفاعلاته مع المفهوم الرمزي الذي تكاثف على فكرة الحركة في ظل الفوضى والاستمرار في عتمة الموت والدمار والتأقلم بأمل رغم ضيق الثنايا فكأن المفاهيم تتناقض من أجل البقاء وتدفع بالعناصر لتثبت حضورها الباقي في الوجود.

*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections