قهوة صباحية بقلم:انوار ابو جويعد
تاريخ النشر : 2019-09-19
قهوة الصباح
تقلبت في حمى الليل أتعرق سوادًا من تراكض الاحلام , غير مدركة ان كنت مستيقظة أم طافحة بالاستيقاظ . في معظم الأحيان تمر ليالي على نفس وتر المنوال ,أتموج على زبدٍ من الهلوسة , وعند طلوع الفجر تتلمظ في رغبات نرجسية متفجرة من فرط الشهوة , فأستيقظ مبللة وأن كانت تلك العبارة لا تصلح لوصف حالتي المرثية , أعتقد انه مثل النهوض مباشرة بعد الغرق في لجة من الكوابيس الليلية . ما أشعر به أتجاه الحياة أكبر من رغبة جحيمية هي في الأصل مجرد ردة فعل على تأرجح درب مخطوف البصيرة , ما اكنه في ذاتي هو الموت خلف باب مغلق يفضي بدمي المندلف تحته نحو فراغ عميق أسود باللون الخوف ورائحة القبور . صباحي متساقط بعيدًا عن أشعة الشمس ,متبرئ من زقزقة العصافير ورائحة برودة أوراق الأشجار , صباحي كوعاء دموي يقطر جفاءً في صدري.
أجلس على الشرفة ذات الأحجار القديمة المهترئة , أرتشف القهوة وأراقب المارة في ضيق وأبتأس من مظاهرهم الشمعية المتكلسة بالطاقة الحمقاء , ومن بين هذه الجثث تمر جثة رجل اشعث الشعر, تسترسل ملابسه المجعدة على جسده النحيل , يمشي مسرعا يتأبط حقيبة قديمة يتطاير الورق منها . كل صباح أسبل نظري برؤيته وهو يقطع الشارع كالطالب أول ابتدائي, أنسج أساطير دينية حول تزهد الحياة فيه , اخمن كيف تجري تفاصيل حياته اليومية , كيف يشرب قهوته , كيف يتكلم , كيف ينظر وما لون رائحة عرقه ...........
أنهض من داخل حياته وأنا مغمورة بقصص مختلفة ترتق بيننا لقاءات وأحرف معجونة بقطعة القمر . أخيط قدري بطرف قدره المتعب في فراش الحياة , اربت على صدره المنهك من تلاحق الأنفاس خلف ذيل سعف الحياة.
ذات صباحا استيقظت دون شمس تلوح ضياءً في الأرجاء , كانت الساعة تشير بعقاربها نحو السابعة رغم الظلمة التي تتصيد في ردهة الضباب الهدوء .توجهت نحو المطبخ , لأعد قهوتي كالمعتاد فوجدت القهوة كانت قد نفذت . لبست معطفي وبشعري الفوضوي نزلت دون أي مستهلات . دخلت المحل القائم في نهاية الشارع , كان الجو معبق بذرات الماء المنعتقة من الغيوم , واجهة المحل الزجاجي رطبة حيث لم أستطع ان لا اضع يدي عليها وأرسم خط طويل يمتد حتى بداية الباب . دخلت المكان وسرت مباشرة نحو رف القهوة , فاستدرت لأصطدم بذراع ممتدة نحو الرف ليشتري أيضا قهوته . هذه الذراع او دفيئة الظل غير غريبة عني , هذه الملامح المحتضرة التي تركض مختبئة في غابات مخيلتي غير بعيدة عن مرآة قلبي , لوهلة يبدو كالبراد الفارغ , تتسرب ألي برودته من خلال الخطوات التي تفصلنا . بقيت محدقة به رغم ذلك الجدار الذي يحيط به نفسه.
سارعت بالقول بصوت مضطرب أقرب الى الهمس : قهوة تركية؟
ألتفت ألي وفكرت بأنه يمتلك وجها مليئا بالكهولة بالنسبة الى جسده الطفولي .
" أعتقد أن ذلك أفضل شيء نفعله في الصباح."
" سمعت أن هناك أشياء أفضل من القهوة ."
"مثل ماذا ؟"
" لا اعلم ...."
قال متطلعا الى قهوتي " أرى أنك تشربين مثلي القهوة التركية , هل تحتاجين الى الطاقة والحيوية ؟"
"أحتاج الى مذاقها. "
" ألا تكفيك حياة واحدة ؟"
" أنها أكثر مما ينبغي , والقهوة تبرئني من خوض غمارها ."
" ألا تعتقدين مثلي , أن القهوة قاتل خفي؟ "
" هل تحتاج للقهوة لكي تموت ؟"
" بالمناسبة أدعى أيهم ,مت سنة 1987 وأنتظر يوم مولدي."
" أنا رحيل ."
" هل هذه هو أسمك الحقيقي؟"
" كما قال نزار قباني مرة " أسخف ما نملكه يا سيدي الأسماء ." "
" حسنا ... سأغادر أولا, وداعا"
" وداعا."
راقبته وهو يحمل بيده الباردة مغادرا كيس القهوة , اقتربت بخطى تجبّ غلاف لحظة عميقة أجهضت في منتصف اللقاء الى البائع , وما كدت أضع قهوتي على الطاولة حتى سمعت دويًّا يزعق من عجلات سيارة قادمة نحو المحل , نظرت من خلال الواجهة الزجاجية , كان الرجل التعيس قد تقزم في المساحة التي رسمتها على الزجاج قبل أن أدخل , رأيته بوضوح وهو يتبعثر الى أشلاء , رأيت دمائه تنزلق طائرة في السماء وتلك الذراع التي لامستها طرف أنفي قبل قليل أصبحت كالعصا تلوح بعجل .... رغم تفسخ جسده الا اني لم ألحظ حلما واحد يسقط او يغير , لم ألمح أملا واحد يتبعثر على الشارع الرطب .. ولكن أنا كنت قد سقطت في بؤرة اللحظة غير المكتملة.
يبدو أن المراة قد فقدت السيطرة على مكابح السيارة, لم تتوقف , ما زالت مسرعة , متوجهة نحو الواجهة الزجاجية لتخترقها , تكسر كل شيء أمامي مكونة معمعة من الدخان والحطام الخشب وشظايا زجاج حادة . رأيت أعضاء مفسوخة متحررة من محراب الأرض وغصة حمراء منتفخة تلهب عيني . هل مت ؟ لا اعلم .... آيستطيع ان يلمس أصبعي جسدي البائت ؟ لا اعلم .......هل تتحرك ملامح وجهي بحرية أكثر ؟ لا أعلم ..................................
كل ما أدركه بأني منذ الحادثة ما عدت أرتاد الشرفة او أرتشف القهوة , وما أفعله طيلة الوقت هو النوم بجوار اللحظة غير المكتملة .