هل العدالة نسبية؟ بقلم: عادل بن مليح الأنصاري
تاريخ النشر : 2019-09-18
هل العدالة نسبية؟ بقلم: عادل بن مليح الأنصاري


هل العدالة نسبية ؟

لعادل بن مليح الأنصاري

الظلم والعدل سلوكان فطريان منذ نشأت البشر على هذه البسيطة , لا يحتاجان لتعلم وتعليم , ولا لكثير من التفكير والفلسفة , هو شعور فطري داخلي يتكون في داخل الكائن البشري نحو ما يراه أمامه من تصرفات الغير , أو حتى نحو تصرفاته هو , لا يحتاج لمكان أو زمان أو بروتوكولات خاصة وإعداد نفسي أو حوار وجدال , فبمجرد أن ترى تصرف معين لشخص ما أو ربما لحيوان أو حتى حادثة شخصية مهما صغرت قد يتبادر لذهنك بشكل طبيعي هل ما حدث الآن صحيح أو خاطئ ؟ هل التصرف الذي حدث أمامك صحيح أو غير صحيح ؟ وبتعبير آخر هل هو عادل أم فيه شيء من الظلم وينبغي ألا يحدث على هذا النحو , هذا الشعور هو الإيحاء الأولي لمعنى العدالة والظلم , قبل الولوج لدقة المفردات .
قد يتشارك في هذا الشعور الجميع الصغير والكبير وربما العاقل والمجنون , بل وأكثر ربما حتى الحيوانات تشاركنا هذه المشاعر , فمراقبة الحيوان الضعيف لافتراس الحيوان القوي لفصيلته ربما بشعره بنوع من الظلم , وحصول الحيوان على فريسته أو لقاء شريك متعته نوع من العدالة , وتتدرج تلك النظرة نحو الظلم والعدالة من مجرد الاعتراض على نظرة شك , أو نظرة عدم رضا وحتى إزهاق الروح ذاتها .

سؤال عابر عن نسبية العدالة :

ماذا لو قتل شخص ما شخصا أخر , وقُتل جزاء لما فعل , فمن العدالة أن يدفع ثمنا لجريمته التي ارتكبها وهو في كامل وعيه وإرادته , ولكن هل من العدالة أن تدفع أسرته وأطفاله والذين يعتاشون ببقائه حيا ثمن جريمة لا ذنب لهم فيها ؟ فمن العدالة قتله بتلك النفس التي أزهقها , ومن الظلم ترك أسرته في فقر وعوز لفقدهم له دون ذنب جنوه .
هنا ربما على الأنظمة أن تتدخل لتوفير الحياة الكريمة لأسرته التي لا ذنب لها في تمكين العدالة منه , هنا وقعت تلك الأسرة بين سندان العدالة ومطرقة الظلم , أي بين نسبية العدالة والظلم .

بعض حوادث وقصص التاريخ تجسد التعاطي مع منظور العدالة والظلم بشكل صريح , وتبدأ القصة من بدء الخلق , قابيل وهابيل , فبغض النظر عن حقيقة الخلاف الذي أدى بقابيل لقتل أخيه هابيل , كلنا توارثنا نظرة الظلم التي قام بها قابيل نحو أخيه هابيل عندما همّ بقتله لخلاف بينهما , (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) , هنا يتجلى ظلمه دون شك في وصف الخالق عز وجل لهذه الفعلة بأن اصبح من النادمين , فهنا الظلم بيّن بوصف الله تعالى له , ولا مجال لجدال هنا عن نسبية الظلم , فهو لم يعاتب نفسه أو يبحث عن تبريرات لفعلته بل قطع الأمر وأصبح من النادمين على ظلمه ذاك .

ومن القصص المهمة في القرآن الكريم عن العدالة والظلم قصة فرعون مع يوسف , وفيها علامات استفهام منطقية , فمثلا :
فرعون أدرك يقينا ببراءة يوسف ولكن عدالته أبت إلا أن يظلمه ويسجنه , فهو يرى من منظوره أنه يستحق السجن لو كان بريئا , وفي نفس الوقت هو أدرك يقينا أن زوجته راودت يوسف عن نفسه أي ( خيانة الفرعون في شرفه مع سبق الإصرار والترصد كما يقال ) , ولكن فرعون لم يتخذ موقفا من خيانة زوجته الواضحة , وآثر السكوت عنها وتقبلها , فهل فرعون يفتقر لغيرة الرجال على محارمهم , أم أن هذه صفات خاصة لسكان القصور ؟ أو ربما سياسات الحكم وإدارة شؤون البلاد وسمعة الفرعون أهم من تلك العواطف العابرة ؟

ويخبرنا القرآن الكريم أيضا بقصة العبد الصالح الذي ارتكب عدة مظالم من وجهة نظر موسى , فبدءً من خرق السفينة وهي لمساكين , ومرورا بقتل الغلام البريء من وجهة نظر موسى , وحتى بناء الجدار دون مقابل لقوم لا يستحقون , ولكن تلك المظالم نسبية بشكل صارخ , فالعبد الصالح يعلم من الله ما لا يعلمه موسى , وكانت تلك المظالم في حقيقتها عدالة صرفة بالنسبة للعبد الصالح , وظلم صارخ بالنسبة لموسى .
وفي قصة إبراهيم عليه السلام تبرز لنا العدالة والظلم بصورة أخرى , فبعد مداولات محكمة قوم إبراهيم وبالرغم من قوة حجة إبراهيم , إلا أنهم قرروا الحكم بما يروه عدالة من وجهة نظرهم بإلقائه في النار , فإبراهيم يرى العدالة من وجهة نظره كنبي , أن قومه على ظلاله في عبادة الأصنام , وقومه يرون أنهم على حق بعبادتهم لألهة أجدادهم , فمن الطبيعي أن إلقاء إبراهيم في النار جزاء عادل لما أرتكبه في حق آلهتهم , بينما يرى إبراهيم ومناصروه أن هذا الحكم محض ظلم .
وفي قصة أخرى نجد قصة داود عليه السلام عندما عُرضت عليه قضية (ورغم الاختلاف حولها وكونها من الإسرائيليات) , إلى أنها وردت في القرآن الكريم تفصيلا لمفهوم الظلم والعدالة , فقال تعالى : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ...} , ويمكن البحث في تفسير الآيات عبر الشبكة ولكن الذي يهمنا هنا حكم داود عليه السلام على قولهم : { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب } , فكان حكمه ( قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) , وهنا كان الحكم بينا واضحا بالظلم , وهنا ينبغي أن نشير أن في تفسير الآيات وبالرغم من حمكم داود بأن صاحب التسعة وتسعون نعجة ظالم بسؤاله نعجة أخيه الوحيدة , إلى أن فيها إشارة لما (تقول الإسرائليات) أنه هو أرتكب تلك المظلمة , ثم تنبه لفعلته من خلال السؤال , لذلك (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) , ففي الأولى حكم بالظلم المطلق , ولم يتنبه أنه أرتكب نفس الظلم ( لو صحت القصة لكون بعض العلماء نسبها للإسرائليات ) ولكن السياق العام ورد في القرآن كما نراه , ويظل حكمه نسبي , فعندما سمع القصة حكم بالظلم , وعندما تنبه لتشابهها مع ما يمكن أن يكون ارتكبه حينها رآها عدالة .
ولا ننسى تبرير إبليس لتصرفه أمام الله والملائكة حين رفض السجود لآدم امتثالا لأمر الله وقال (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طين) , فهو هنا يرى كونه يتصرف بعدالة لما يراه من كونه أفضل من آدم الذي خُلق من طين , ولكنه من جهة الله وملائكته ظالم برفضه الامتثال لأمر الله مهما كانت تبريراته صحيحة من وجهة نظره .

وربما هناك الكثير من القصص في القرآن يصعب تتبعها في هذه العجالة والتي تناولت العدالة والظلم بصور مختلفة , وحتى في سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هناك ما يمكن تتبعه عن نفس الموضوع , ولكن الخلاصة أن السؤال هل يستحق التأمل من كون العدالة والظلم نسبيان أم لهما وجه واحد واضح ؟

وفي أوربا لا يمكن للتاريخ أن ينسى محاكم التفتيش في القرنين الخامس عشر والسادس عشر, التي ضجت بالأحكام التي اتخذت طابع النسبية , فالكثير من أحكامها كانت تخضع لمنظورين , أحدهما العدالة الناصعة , والأخرى الظلم القبيح , فالقضاة ورجال الطبقة الحاكمة والمخملية كانوا يرون في الأحكام القاسية عدالة مطلقة لا تقبل الشك , وكان المحكومون وبقية المضطهدين بمن فيهم العلماء والفلاسفة يرونها ظلم محض , راح ضحية تلك المحاكم كما يقال الملايين من البشر , ومن الأسماء الشهيرة التي كانت ربما ضحية تلك المحاكم ( الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برينو والعالم الشهير جاليليو، و كوبرنيكوس , والفيلسوف ميخائيل سيرفيتوس الذي شكك بعقيدة التثليث ) , ويمكن الرجوع للشبكة العنكبوتية والتبحر في نشأت وعمل ونتائج تلك المحاكم .

انطوى العالم القديم بفلسفته الخاصة بين العدالة والظلم , وأطل علينا العالم الحديث العجيب والذي أصبح فيه الظلم والعدالة واضحة المعالم في كثير من الأحيان , ولم تعد نسبية من حيث النظر إليها , ولكن ظهرت نظرة جديدة ربما يوجهها القمع والخوف بشكل حاسم , صار الظلم بيّن والعدل بيّن ولكن لا يفصل بينهما النظرة النسبية بين الظالم والمظلوم , ولكن قوة قهر الظالم وضعف المظلوم , وساهم في ذلك لفترة زمنية قهر الإعلام والجماعات لتقبل الظلم وتحويله لعدالة وحتى دون نسبية , فما يراه الظالم هو عين العدالة ولو رفضت شعوبا ذلك , فالقادة العسكريين المتصفين بالدكتاتورية (السكيوباتية) يدمرون أمما وشعوبا وهم يفرضون نظرتهم الظالمة كميزان أوحد للعدالة , ويوجهون الإعلام وزبانيته لتلميع الوجه الظالم وإسباغ مكياج العدالة القبيح عليه .
ربما باسم السياسة ومنطق القوة وقيادة العالم يتبجح الظالمون بتطبيق العدالة حسب تفصيلهم لها حتى لو دمروا أمما ومدنا وفككوا دولا وجوعوا شعوبا ونهبوا ثرواتها واستعبدوا أهليها ,
وربما باسم الإرهاب حولوا الظلم لسلاح وقالوا أنها يد العدالة الحكيمة .

وربما تضج الأرض بالمظلومين الذين اغتالتهم يد العدالة الكاذبة والوقحة بكل وضوح وإصرار , وربما كانت العدالة والظلم نسبيان لأن الإنسان ذات زمن كان يمتلك شيئا من حياء ويصغي أحيانا لصوت ضمير أو بقية منه , ولكن اليوم لم تعد العدالة والظلم نسبيان بل أصبح الظلم بيّن والعدالة بيّنة ولكن يجب على الإنسان المقهور القبول بما يُحكم عليه دون جدل وتردد , بل يجب عليه أن يُقر أنه نال من خصمه قمة العدالة وبدون نسبية .

إن مقولة مثل (القانون لا يحمي المغفلين) , لا تراعي المظلوم الجاهل والذي يُسمى مغفلا , لأن القانون مجرد من المشاعر والضمير بعرف اليوم , هو عبارة عن أوراق ومواقف ورجال أذكياء لديهم القدرة على قلب الحق باطلا والباطل حقا .

لن ينجو البشر من الوقوع في شرك نسبية العدالة والظلم إلا بالرجوع للموجّه الأول للحياة السليمة التي يجب أن يعيشوها , ألا وهي الأخلاق , فإذا امتلك البشر الأخلاق الفاضلة ستردعهم حتما عن الظلم أو عن تلبيس الظلم بالعدالة وطمس ملامحهما لمصلحة الأقوى , إن مفاتيح الظلم وقهر العدالة سلمها إبليس ومنذ الأزل لأوليائه من البشر , ويخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم أنه سيتملص منهم يوم الحساب , قال تعالى (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) .
وما زال أولياؤه وحتى قيام الساعة يلبسون الحق بالباطل (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) .